“اسرائيل الكبرى”.. النقاط على الحروف وبصراحة
بقلم : د. لبيب قمحاوي
الحديث في “اسرائيل” وعنها أمراً يختلف من شخص لآخر، وشعب لآخر، ودولة لأخرى، ولكن يبقى هنالك ذلك الشعور المتنامي سواء بين المعجبين بإسرائيل أو الكارهين لها، بأن نفوذ ذلك الكيان وقوته في ازدياد بشكل يفوق امكانات “اسرائيل” وقدراتها الذاتية وإحتياجاتها المنطقية حتى الأمنية منها كما يدعون، مما يبعث على الشك والتخوف معاً . ولكن اصرار العرب في المقابل على حصر مفهومهم لدور “اسرائيل” وخطورتها باحتلال ارض فلسطين التاريخية وتهجير أهاليها واستعمار أراضيها، هو تقزيم جاهل للمخطط المرسوم لدور “اسرائيل” الاقليمي سواء المعلن أوالمخفي بإعتباره امتداداً عضوياً للنفوذ الأمريكي الغربي وتجسيداً لرؤيته الإستعمارية والكولونيالية للاقليم العربي والشرق أوسطي .
قوة “اسرائيل” العسكرية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بدورها الاقليمي المنتظر وليس باحتلالها لأرض فلسطين وعدائها التقليدي مع العرب حصراً كما يحلو للبعض أن يعتقد، إذ أن ذلك الاحتلال كان في واقعه نقطة البداية وليس محطة النهاية . اسرائيل هي الكيان اللغز في نهاياته وأهدافه الخفية كونه كياناً قابلاً للتحور والتمدد والتشكيل حسب ما تمليه عليه مصالحه ويتطلبه الواقع المتغير والأهداف الخفية المرسومة لذلك الكيان والمتحكمة في وجوده. ففي الوقت الذي وَقَعَ فيه العرب أسرى لمفهوم جامد ضيق في عدائهم لهذا الكيان الخطر، استطاع ذلك الكيان أن يتغير ويتلون ويتشكل طبقاً لما تمليه عليه مصالحه والحاجة والأدوار المرسومة له والمطلوب منه القيام بها والتى تساهم بالنتيجة في خدمة المخططات الاستراتيجية متوسطة وبعيدة المدى لأمريكا والغرب في منطقة الشرق الأوسط .
الاتهامات والصفات والنعوت التي غلَّفت وَصَبغَتْ العداء العربي “لإسرائيل” لم ولن تساهم في وضع النقاط على الحروف، أو في الارتقاء بحالة العداء تلك الى مستوى خطورة الواقع، أو إلى وضع “اسرائيل” وخطورتها في المكان الذي تستحق في العقل العربي وفي عملية اتخاذ القرار السياسي والأمني العربي . الفلسطينيون وحدهم هم من َقدَّروا مبكراً خطورة الاحتلال الاسرائيلي والوجود الاسرائيلي على أرض وطنهم فلسطين . ولكن ذلك التقدير كان محكوماً لواقع الاحتلال والشتات الفلسطيني حصراً، وهكذا فشل الفلسطينيون في الارتقاء الى مستوى ذلك التحدي ونتائجه الاقليمية الخطرة بعيدة المدى، وإكتفوا بممارسة الَعَداَءْ من خلال الحٌضْن العربي، إلى أن جاءت حركة فتح واتهمت الحضن العربي بأنه وراء كل المصائب التي ألمَّت بالفلسطينيين وطالبوا باستقلالية القرار الفلسطيني ليتم استعمال تلك الاستقلالية لاحقاً للتنازل عن الحقوق الوطنية للفلسطينيين والارادة السياسية الفلسطينية وتسليمها للإسرائيليين في أوسلو مقابل سلطة فلسطينية بائسة.
” اسرائيل” قد إبتلعت بالنتيجة، وإن تدريجياً، جيرانها العرب عسكرياً ثم سياسياً، وهضمت حالة العداء بينها وبينهم إنسجاماً مع الدور الاقليمي الجديد لإسرائيل والذي يتجاوز الفلسطينيين والعرب بالرغم من عداء بعض العرب لها، ويهدف الى تحويل “اسرائيل” من دولة غاصبة الى دولة قائدة للإقليم .
الَقَدريَّة والاستسلام العربي في محاولة التعامل الساذج مع تنامي القوة العسكرية الاسرائيلية القادرة والمتفوقة على مجمل القوة العربية، ومن ثم تنامي النفوذ السياسي الاسرائيلي في الاقليم، يعكس تمادياً في الخضوع العربي لإرادة أمريكا، وقبولاً غير مشروط بكافة المقولات والادعاآت الصهيونية الاسرائيلية، ويشمل ذلك فرض مفهوم أمريكا واسرائيل لطبيعة السلام مع الفلسطينيين والمستند إلى تنازلهم الكامل عن كافة الحقوق التاريخية والوطنية الفلسطينية، وكذلك فرض السلام على العرب تحت مظلة “الابراهيمية”، وهي بدعة صهيونية اسرائيلية أمريكية تهدف الى اضفاء شرعية وهمية تاريخية ودينية على الوجود اليهودي في المنطقة باعتباره سابقاً للمسيحية والاسلام وشقيقاً أكبر لهما تجمعه بهما مظلة مشتركة من خلال الأصول الدينية والتراثية لشعوب المنطقة والمرتبطة بإبراهيم (أبو الأنبياء)، أو هكذا يَدَّعون !
إن التعامل الذكي الفعَّال مع القضية الفلسطينية يتطلب الابتعاد عن الفرضية القائلة بأن القضية الفلسطينية تتعلق بالفلسطينيين فقط، وأن الحلول المنشودة لها يجب أن تقف على أعتاب ما يريده الفلسطينيون فقط . القضية الفلسطينية لها ذيول، ولعل أهم ذيولها هي “المشكلة الاسرائيلية”، وذلك يعني مشكلة الوجود البشري الاسرائيلي على أرض فلسطين، والذي يعتقد البعض بإمكانية تآكله بشكل ملحوظ فيما لو تم التوصل الى حل للقضية الفلسطينية، علماً أن التوصل إلى أي حل يتطلب توفر رؤيا واضحة لكيفية التعامل مع “المشكلة الاسرائيلية” وبخلاف ذلك فإن التفكير بامكانية التوصل الى حل ما قد يكون ضرباً من الخيال . فكما أن العامل الديموغرافي الفلسطيني هو مشكلة لإسرائيل، كذلك يجب النظر إلى العامل الديموغرافي الاسرائيلي والتعامل معه باعتباره مشكلة للفلسطينيين، ويجب الامتناع عن تجاهل هذه المشكلة الحقيقية وعدم النظر الى من يتعامل معها بشك وريبة. فالبحث عن الحقيقة صعب، خصوصاً في عَالَمِ مظلم يسعى إلى الانكار ومحاولة تجنب الحقائق أو تجاهلها خصوصاً إذا كانت تلك الحقائق مؤلمة أو صادمة.
“اسرائيل” تففز قفزاً في برامجها ومخططاتها، والعرب يزحفون زحفاً. وفي نفس الوقت لا أحد يستطيع تفسير كيف يقع شعب ذكي ومتعلم ومناضل مثل الشعب الفلسطيني في فخ مجموعة من العملاء أوصلته الى أوسلو وكارثة السلطة الفلسطينية والتنسيق الأمني .
ما نراه ونعيشه الآن يشير بوضوح الى تقلص متزايد في الدور الفلسطيني وقدرته على الانجاز، وضمور عربي واضح داخل كل دولة عربية وكذلك في دور العرب الاقليمي والدولي، ويشير في الوقت نفسه الى نمو متسارع في قوة “اسرائيل” العسكرية وفي إنفاقها على التطوير والابحاث والتعليم وفي تنامي دورها السياسي الاقليمي بعد أن َوضَعَتْ العداء العربي لها في مزبلة التاريخ مغلفاً بأوهام وأكاذيب “الابراهيمية” .
ان محاولة فهم التطورات السلبية التي أصابت القضية الفلسطينية والوضع العربي بشكل عام والعمل على استدراكها ومعالجة نتائجها تستدعي أن لا يحاول البعض فرض رؤيتهم على الآخرين وتصنيفها باعتبارها هي الرؤيا الصحيحة فقط، كما لا يجوز في الوقت نفسه القبول بما هو قائم قبولاً تسليمياً لا يحتمل الجدل أو النقاش أو أي شئ آخر باستثناء الموافقة والقبول. وتبقى الحقيقية المرَّة أنه في هذا العصر المتغير، لا سبيل أمام الأمم الجامدة مثل العرب إلا الاضمحلال والموت البطئ، أو العمل الجاد على التحول الحقيقي الى أمة نابضة تسعى الى تبوأ مكاناً مرموقاً بين شعوب الأرض الحية والمنتجة .