العراق.. الهروب إلى الأمام دون حل جذور الأزمة
بقلم: لقاء مكي
شدَّد زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، من موقفه تجاه خصومه السياسيين، وطالب بحل البرلمان وانتخابات مبكرة، فيما يواصل أنصاره اعتصامهم، وسط دعوات غير واضحة المعالم للحوار. وفيما تراجعت احتمالات نزاع بدا وشيكًا، فإن الحل ما زال بعيدًا عن التحقق.
تراجعت فرص نزاع عسكري بدا وشيكًا في العراق، وأكد زعيم التيار الصدري أنه يقود (ثورة) سلمية، فيما بدأت أطراف مختلفة بطرح مبادرات للتسوية، كانت كافية لوقف تسارع الأحداث نحو المواجهة، لكن أيًّا منها لم يبدُ أنها تقدم حلولًا واقعية جاهزة؛ الأمر الذي قد يعني تأجيل المواجهة بدلًا من نزع فتيلها.
كان التصعيد الشعبي في نهاية شهر يوليو/تموز 2022، نتيجة متوقعة لحالة اختناق سياسي معقدة، بدأت عشية انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2021، واستمرت بالتصاعد مع استمرار الفشل في تحويل نتيجة الانتخابات إلى سياق سياسي ممثلًا بتشكيل حكومة جديدة، وكان الانقسام الطولي داخل الجسم السياسي الشيعي هو العنوان الأساسي لهذا المأزق السياسي والدستوري.
جذور الأزمة
السياق العام للأزمة الراهنة في العراق هو فشل النظام السياسي، وعجزه عن النضج منذ تشكيله بعد الغزو الأميركي في عام 2003. كان الأساس الذي تشكلت عليه العملية السياسية في العراق، مقرَّرًا منذ مؤتمر لندن للمعارضة العراقية (السابقة)، في عام 2002، برعاية أميركية، هناك اتُّخذ قرار بتقسيم السلطة في العراق بموجب توزيع طائفي وعرقي، على الطراز اللبناني، وكان من بين التداعيات الطبيعية لذلك القرار البنيوي، أن جرت (خصخصة) المجال السياسي لصالح إقطاعيات وشخصيات معينة من (عراقيي الخارج) وهم يمثلون بعض قيادات المعارضة المنفية قبل الغزو، وبناء النظام الدستوري والعرف السياسي ليناسب ذلك الاتفاق بغضِّ النظر عمَّا إن كان ملائمًا ومتسقًا مع الحاجات الحقيقية للعراق، فضلًا عن الضرورة الملحة لتحويل الطائفية السياسية المفروضة، إلى طائفية اجتماعية، حتى لو على حساب السلم الاجتماعي ونمط دولة المواطنة المتحضرة.
لقد تسبب الفشل متعدد الأشكال لهذا النمط السياسي في تراجع خطير لقدرة الدولة على خدمة مواطنيها، وتحولها من كيان ضابط للهياكل السياسية، إلى مجرد تابع لها، بعد ما فشلت في احتكار العنف، أو تقديم الخدمة، أو حفظ السيادة، بسبب انعدام الأفق، والأنانية السياسية والشخصية، وغياب الثقة، والارتهان للخارج، وضمور دور الدولة الراعية وضياعها وسط مراكز القوى ذات القدرة الاقتصادية والعسكرية المستقلة.
جرت الانتخابات الأخيرة في ظل هذه السياقات، لكن تحولات كثيرة جرت في المزاج الشعبي لاسيما الشيعي منه، تسببت في تغيير مقدار القوة والنفوذ السياسي المكتسب من الانتخابات، فقد انتقل مركز الثقل الشيعي بشكل واضح لصالح التيار الصدري بعدما فاز بأغلبية برلمانية واضحة، منحته الثقة والقدرة لمغادرة النمط السياسي التقليدي القائم على مبدأ التوافق وفق شروط التقسيم الطائفي والعرقي، نحو اعتماد مبدأ الأغلبية السياسية غير الطائفية من خلال التحالف البرلماني مع قوى سنية وكردية، بدلًا من التخندق ضمن نظام (المكونات الطائفية).
تسببت مساعي الصدريين هذه في استفزاز القوى الشيعية التقليدية وأفرعها المسلحة، فذلك عندهم سيعني تخلي الشيعة عن احتكار القرار التنفيذي الأول في العراق، حتى لو ظل رئيس الوزراء شيعيًّا، فالأهم عند هؤلاء أن آليات اختيار رئيس الوزراء ينبغي أن تظل بيد القوى الشيعية من خلال التوافق بينها، ومنع أي طرف آخر من المشاركة في ذلك. وبموجب هذا المنطق، سيكون للكرد وحدهم اختيار رئيس الجمهورية وللسنَّة اختيار رئيس مجلس النواب. بطبيعة الحال، ليس لأي من هذه التقسيمات أساس دستوري، وهي جزء من عرف غير مكتوب أقرته إدارة الاحتلال الأميركية بعد 2003، وقد لامس هوى السياسيين العراقيين منذ تلك الآونة.
طوال نحو ثمانية أشهر، فشلت القوى السياسية الشيعية في حمل السيد مقتدى الصدر على التراجع عن تطلعه لحكومة أغلبية سياسية، لكنها في نفس الوقت نجحت في منعه من تحقيق ذلك؛ الأمر الذي قاد الصدر إلى دعوة نواب تياره، في الثاني عشر من يونيو/حزيران الماضي، إلى الاستقالة من مجلس النواب، تاركًا لخصومه الشيعة أن يشكلوا الحكومة، أو اختبار قدرتهم على ذلك، لكن تلك الواقعة كانت عمليًّا إيذانًا بتغيير عميق لقواعد اللعبة، وانتقال التيار الصدري من المجال السياسي القانوني إلى المجال الشعبي الذي يجيد مهارة التعامل معه بنجاح وفاعلية عالية.
السوداني: انفجار الأزمة
بعد أكثر من شهر ونصف على استقالة أعضاء التيار الصدري من مجلس النواب، أعلن ما يسمى (الإطار التنسيقي) الشيعي عن ترشيح محمد شياع السوداني رئيسًا جديدًا للحكومة، وطلب من القوى الكردية ترشيح رئيس للجمهورية، وجرى بالفعل تحديد يوم السبت الماضي موعدًا لانعقاد المجلس وانتخاب الأخير، الذي سيقوم من جانبه بتكليف السوداني.
لم يبد هذا السيناريو واقعيًّا، مع فشل الكرد في الاتفاق على مرشح لمنصب رئيس الجمهورية، لكن بدا فعليًّا أن الإطار كان مصمِّمًا على المضي في عقد الجلسة، واختيار الرئيس بالتصويت، ويبدو أن بعض قادة الإطار ظنوا أنهم اقتربوا من النجاح في تمرير مقاربتهم السياسية، وتجاوز عقبات الصدريين وشروطهم، وقد بدأت أطراف الإطار بالفعل بتقديم السوداني على أنه رئيس الوزراء المحسوم والمقنع؛ فهو أول رئيس وزراء من (عراقيي الداخل)، فهو لم يعش خارج العراق، ولا يحوز جنسية بلد آخر، كما أنه لم يُتَّهم بشبهات فساد رغم توليه عدة حقائب وزارية خلال السنوات الماضية، كما أنه تاريخيًّا ينتمي لحزب الدعوة، لكنه لم يعد ضمن صفوفه، أي إنه ليس مرتبطًا تنظيميًّا بزعيم الحزب، نوري المالكي، ولذلك نُظر إليه على أنه مرشح مقنع للجميع بمن فيهم الصدريون، ويمكن أن يكون رجل المرحلة المقبلة.
واجه ترشيح السوداني رفضًا فوريًّا من التيار الصدري، وفي السابع والعشرين من يوليو/تموز 2022، خرج الآلاف من أعضاء التيار في مظاهرات اقتحمت المنطقة الخضراء ودخلت إلى مجلس النواب، قبل أن تنسحب منه بعد عدة ساعات بقرار من الصدر، الذي كتب على تويتر معتبرًا أن ما جرى كان بمنزلة تحذير لـ(الفاسدين)، لكن مع الإصرار على تحديد موعد لجلسة مجلس النواب، عاد أنصار التيار فجر يوم الجلسة، في الثلاثين من يوليو/تموز، ليقتحموا المجلس ويعتصموا فيه هذه المرة، بمطالب أكثر تطرفًا تتضمن القضاء على (الفاسدين) قبل الشروع بأي إصلاحات سياسية.
في اليوم التالي لبدء الاعتصام، نشر الصدر على حسابه في تويتر بيانًا اعتبر فيه أن مظاهرات التيار “فرصة عظيمة لتغيير جذري للنظام السياسي والدستور والانتخابات”. وصف الصدر مطلبه بالإصلاح، وقارن خروج الناس من أجله بخروج “الإمام الحسين لطلب الإصلاح في أمته وأمة جده رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم”، بينما اعتبره الإطار التنسيقي (تخطيطًا لانقلاب مشبوه واختطافًا للدولة وإلغاء لشرعيتها وإهانة لمؤسساتها الدستورية وإلغاء للعملية الديمقراطية فيها”، وطالب أنصاره بالخروج للشارع أيضًا، مما هدَّد فعليًّا بمواجهة بين الجمهور الشيعي من كلا الجانبين، قد تتطور بسرعة إلى مواجهات مسلحة.
يبدو أن اتصالات واسعة النطاق قد جرت يوم 31 يوليو/تموز سعت لسحب فتيل صراع لا تُعرف نهاياته، وقد خرجت تظاهرات الإطار الموعودة في اليوم التالي فعلًا، لكنها كانت محدودة واستمرت بضع ساعات قبل أن ينسحب المشاركون فيها، وكانت مجرد استعراض قوة بسيط، في مقابل هيمنة التيار الصدري على الشارع، وهي رغم أنها كانت محاولة لتعزيز فكرة أن الإطار التنسيقي له جمهوره الخاص مثل نقيضه النوعي الصدري، إلا أنه كان واضحًا أن جمهوره المستعد للتعاطي مع دعواته محدود، وأن قدرته الحقيقية تتمثل بالميليشيات المسلحة التي ظلت طوال هذه الأزمة متوارية بشكل عام، ونجحت في عدم الاستجابة لإغراءات القوة التي ربما تعتقد أنها تمنحها أفضلية ميدانية في مواجهة الصدريين.
اعتُبر انسحاب مظاهرات الإطار مؤشرًا على بدء نزع فتيل الأزمة، على الأقل في جانبها العسكري، وقد بدأ بعدها طرح مبادرات غير محددة المعالم لإنهاء الصراع والبدء بحوار سياسي بين الجميع، وقد مثَّلت مبادرة تقدم بها رئيس الوزراء، مصطفى الكاظمي، محور هذه المبادرات؛ حيث حظيت بتأييد معظم القوى السياسية، ومنها قوى الإطار التنسيقي، لكن الصدر ردَّ على هذه الدعوات في خطابه، مساء الثالث من أغسطس/آب، برفض ضمني، معتبرًا أن الحوارت السابقة لم تفض إلى نتيجة، وطالب بحل البرلمان وبانتخابات مبكرة.
المطالب المتعارضة
من المتوقع أن يستمر وجود الصدريين داخل المنطقة الخضراء فترة من الزمن، وقد تزداد قوة هذه الحشود وتنوعها حتى من خارج التيار الصدري، وتشمل قبائل سُنيَّة، ولن يكون متوقعًا تراجع الصدر عن سقف مطالبه، قبل أن يحصل على تنازلات جوهرية من خصومه النوعيين داخل القوى الشيعية.
المسافة بين الطرفين كبيرة، ولا يمكن توقع ردمها بسهولة، وقد لا تتجاوز الحلول الواقعية حدود تسكين الأزمة، ومنها الاتفاق المبدئي على انتخابات مبكرة، مع إبقاء الوضع الراهن على حاله، لكن مثل هذا الحل سيغرق في تفاصيل خلافية كثيرة من بينها قانون الانتخابات والمفوضية المشرفة عليها، وكل منهما تريد قوى الإطار تغييره بالكامل، في مقابل رفض الصدريين. كما أن هناك استمرار حكومة الكاظمي بتسيير الأمور بصلاحيات يرضاها الصدر ويرفضها الإطار، إلى جانب سلوك المحكمة الاتحادية التي يرى الصدر أنها كانت منحازة سياسيًّا للإطار وبشكل خاص للمالكي، وأنها يجب أن توقف بعض قراراتها المثيرة للجدل، ومنها التفسير الدستوري الخاص بما يسمى (الثلث المعطل) أو (الثلث الضامن) حسب هوية من يستخدمه، وكان هذا التفسير قد منح الإطار التنسيقي فرصة منع تمرير حكومة الأغلبية بزعامة صدرية.
وقياسًا على مواقفه السابقة، يمكن للصدر أن يقبل بوساطات أو بحوار، لكن من غير المتوقع أن يشمل ذلك أية مصالحة شخصية أو سياسية مع رئيس الوزراء الأسبق، نوري المالكي، لاسيما بعد التسريبات الأخيرة للمالكي التي تضمنت هجومًا لاذعًا على الصدر وتهديدًا بمهاجمته في داخل النجف، كما أنه من غير المتوقع أن يشمل أي حوار تراجعًا من الصدر عن مواقفه الأساسية بحكومة أغلبية بقيادته، في حال المضي بانتخابات مبكرة، لكن في كل الأحوال، يبدو أن الجميع سيكون بحاجة لكسب الوقت، والمراهنة على تراجع حدة الاحتقان مع تقادم الأزمة.
المشكلة في مثل هذا السيناريو، أنه لن يعالج أسباب الأزمة، بل يكتفي بالهروب إلى الأمام، وهو ما يُبقي فرص الانفجار قائمة؛ حيث ما زال خصوم الصدر يخشون رغباته المعلنة، وأبرزها إزالة سلاح الميليشيات، وإنهاء الهيمنة السياسية الشيعية، فضلًا عن تهميش القوى الشيعية التقليدية، وربما إبعاد بعضها أو معظمها تمامًا من المشهد السياسي، كما قال في خطابه الأربعاء، مع فرص حقيقية لإخضاعها للمحاكمة بتهم مختلفة أبرزها الفساد، والأبرز في هذا التهديد هو نوري المالكي.
من هنا يكون عدم الخضوع لإرادة الصدر عند بعض خصومه، هو في جانب منه دفاع وجودي، أكثر من كونه غلبة سياسية، وهذا ما يمكن أن يتسبب بتعطيل الحل أو ربما منعه تمامًا، وحينها قد تعود الأمور إلى دائرة التهديد بنشوب الصراع من جديد، وربما لن يكون مناص من ذلك، لاسيما أن كل طرف سيحاول اللعب بقواعده وحسب قدراته، وخصوم الصدر يعرفون أن لعبة الشارع لن تخدمهم، وهم قد يتصورون أن القوة المسلحة التي يمتلكونها تمنحهم فرص غلبة ميدانية يمكن أن تحسم المشكلة، لكنها بالطبع ستكون مغامرة معقدة، وقد تنقلب على أصحابها، فضلًا عن أنها ستفتح جرحًا في الوسط الشيعي لن يندمل قبل زمن طويل.
مركز الجزيرة للدراسات