بريطانيا .. التي غابت عنها الشمس

 
اشتهرت الامبراطورية البريطانية بأنها كانت أكبر إمبراطورية في التاريخ حتى أنه قيل أنه ”لا تغيب عنها الشمس“. كانت أعلامها ترفرف على ربع أراضي هذا الكوكب و كان أسطولها يصول و يجول في كل المحيطات و يخضع لها ربع سكان العالم. لكن أفل نجم تلك الامبراطورية و تفككت ثم انتهت عملياً بعد أزمة السويس سنة ١٩٥٦ و إن كانت استمرت كدولة عظمى الى الآن .. و قد تستمر لبعض الوقت، لكنه وقت لن يطول.

ربما ينفع هنا توضيح معلومة تغيب عن بال الكثيرين و هي أنه رغم ان اسم البلاد ”بريطانيا العظمى“ ( Great Britain) إلا أن كلمة ”العظمى“ لا تعني أبداً العظمة المعنوية، و لم يُقصد بها ذلك المعنى في أي يوم من الأيام. الكلمة تشير فقط إلى ”المساحة الجغرافية“، و الانكليز يستعملون تعابير مثل ”لندن العظمى“ و ”مانشستر العظمى“ لتعني المدينة و ضواحيها، كأن نقول عمان الكبرى مثلاً. بدأ استعمال تعبير ”العظمى“ بعد انضمام اسكتلندا (في الشمال) للاتحاد الذي كان مشكلاً بين انكلترا و ويلز (في الجنوب) قبل حوالي أربعة قرون فأصبحت الدولة الجديدة تشمل كل الاراضي الواقعة في جزيرة بريطانيا. و هذا الوصف ”العظمى“ سينتهي إذا انفصلت اسكتلندا، و هو احتمال كبير. و ”بريطانيا“ هو الاسم المتعارف عليه، أما الاسم الرسمي للبلاد فهو ”المملكة المتحدة لبريطانيا العظمى و إيرلندا الشمالية“ لأن ايرلندا الشمالية ليست جزءاً من بريطانيا باعتبارها خارج ”جزيرة بريطانيا“. و للدقة الجغرافية فقط فإن الشمس لا تزال لا تغرب عن أراضي هذه البلاد المنتشرة في قارات العالم و محيطاته، مثل جزر برمودا والبحر الكاريبي و جبل طارق و الفولكلاند و غيرها من المناطق التي لا تحمل صفة المستعمرات بل معترف بها على أنها أجزاء من المملكة المتحدة.

دامت الامبراطورية البريطانية قروناً طويلة كانت خلالها أكبر قوة في العالم و أكثرها كفاءةً. من بناية متواضعة في وسط لندن، كان اسمها وزارة المستعمرات، كانت تدار شئون ستين دولة من دول العالم، أكثرها الآن محتار في إدارة نفسها. من غير المعقول أن ذلك كله كان مبنياً على فراغ فلا بد أن البلاد كان لها الكثير من مقومات القوة و التفوق. و سنلقي نظرة سريعة على بعض تلك المقومات لنرى كيف كانت و كيف أمست و كيف ستكون.

التفوق الصناعي:
من بريطانيا انطلقت الثورة الصناعية التي غيرت حياة أهل البلاد و الأوروبيين و البشر عموماً. كان اختراع الآلة البخارية بداية لحقبة جديدة في تاريخ البشر فظهرت القطارات و البواخر و الطرق الحديدية و بُنيت المصانع و بيعت منتوجاتها في كل انحاء العالم. إلى عهد قريب كانت عبارة ”صنع في انكلترا“ بمثابة علامة الجودة على المصنوعات، أما الآن فلا تكاد تراها مكتوبة على شيء، اللهم إلا إذا كانت مكتوبة على الدبابات و الغواصات و غيرها من أسلحة القتل و التدمير. بريطانيا الآن تستورد معظم احتياجاتها، حتى الملابس و أباريق الشاي، من الصين أو الهند و غيرها من دول العالم الثالث. يعود الفضل في انهيار الصناعة في بريطانيا إلى الرأسمالية الجشعة المهووسة دائماً بالأرباح، و سياسة ثاتشر صاحبة فلسفة ”لماذا تصنع شيئاً إذا كان بإمكانك أن تشتريه من غيرك بسعر أرخص“، و هكذا بيعت المصانع و الشركات لمن يرغب في الشراء و شاعت البطالة بين الملايين من عمال الأمس.

التفوق العلمي:
بريطانيا لها باع طويل في العلم و التعليم و تعتبر بعض جامعاتها من أعرق جامعات العالم، مثل كامبردج و أكسفورد التي تأسست قبل أكثر من ألف عام. خرج من بريطانيا الكثير من الاكتشافات و العلماء من أمثال نيوتن، فارادي، دالتون و جيمس واط و غيرهم من الذين أُطلقت أسماؤهم على وحدات القياس العلمية. ليس من السهل انتقاد نظام تعليمي أخرج أكبر عدد من حملة جوائز نوبل في أوروبا و لا يزال يعتبر من الأفضل في العالم. لكن هذا المركز المرموق ما هو إلا نتيجة لتأثير الماضي أما الصورة الحالية فقد تغيرت كثيراً بعد أن سيطرت البيروقراطية و ”العشائرية“ على الجامعات و كَبَحَتْ جماح تقدمها. لم يعد القبول في الجامعات يعتمد فقط على الاستعداد الأكاديمي للمتقدمين و قدراتهم الدراسية بل أصبحت الأولوية في أن تُمًثل كل شرائح المجتمع و الأجناس و الأعراق في أفواج المقبولين، و نفس العرف ينطبق على اختيار طاقم التدريس. هناك اهتمام على تمثيل السود و الهنود و المسلمين بشكل خاص و كذلك الأقليات الأخرى مثل مجموعات الشذوذ و التحول الجنسي. يطلق على هذا الاتجاه سياسة ”التنوع و الاحتواء“ و هي سياسة مُتَّبعة في بريطانيا منذ ثلاثة عقود و تشمل كل أجهزة الدولة و المؤسسات و المقصود منها إشهار أن بريطانيا نبذت العنصرية و لا تؤمن بتفوق الجنس الآري (شعوب شمال أوروبا) و إظهار أن البشر متساوون في القدرات. رغم التفاخر بِنُبْل هذا المبدأ إلا أن المغالاة في تطبيقه أثرت سلباً على مستوى التعليم عموماً. كانت المستشفيات و الخدمات الصحية أول من و قع تحت سيطرة مرض البيروقراطية المقيتة و أول من طبق مبدأ ”التنوع و الاحتواء“ و النتيجة أن تلك الخدمات التي كانت مفخرة البلاد لعشرات السنين فشلت في أداء واجباتها للمجتمع أثناء جائحة الكورونا. إلى الآن وصل عدد المرضى بانتظار العلاج لأمراض غير الكورونا إلى أكثر من ستة ملايين مريض!

و الأهم من ذلك أن نظرة الناس و تقديرهم للعلم و العلماء انحسرت و تغيرت كما يَظهر من اللامبالاة الواضحة في وسائل الاعلام و عامة الشعب عندما يفوز أحد علمائهم بجائزة نوبل بينما تقوم الدنيا و تقعد إذا رُشِّحَ أحد الممثلين لجائزة الاوسكار. للأسف أن الوسائل الاعلامية و المدارس تكرس هذا السلوك الغريب في التقليل من أهمية العلم و العلماء و الإكبار بنجوم الفن و كرة القدم الذين أصبحوا بمثابة المثل الأعلى لتلاميذ المدارس. و من ناحية ايجابية فإن الأقليات الآسيوية لا تزال تحتفظ بقيمها و تماسكها العائلي و تتفاخر بحرصها على العلم و التحصيل و لم تتأثر بالانحلال الأسري الذي انتشر في المجتمع، و لهذا تجد أن أبناء هذه الأقليات يشكلون حالياً غالبية الطلاب في كليات الطب و الهندسة و سائر العلوم.

حرية الرأي و التعبير:
على مدى قرون اشتهرت بريطانيا بكونها جَنةً لحرية الرأي و التعبير و كانت مضرب المثل لفلاسفة الثورة الفرنسية و الأوربيين عموماً. عندما أراد الفيلسوف الالماني كارل ماركس أن ينشر أفكاره اضطر لأن يهاجر إلى بريطانيا ليكتب ما كتبه ضد النظام الرأسمالي و يقول فيه ما لم يقله مالك في الخمر و ينشر كل ذلك بحرية في لندن، معقل الرأسمالية. بعد الحرب العالمية الثانية سارعت الدول الأوروبية بإصدار قوانين تمنع التشكيك في الهلوكوست (محرقة اليهود ) لكن بريطانيا لم تصدر مثل تلك القوانين. لا يزال ممكناً لأي فرد أن ينكر الهلوكوست من غير أن يتعرض للمسائلة القانونية لكنه سيتعرض لحملة تشويه شرسة من الإعلام كما حصل مع المؤرخ ديفيد ايرفنك. و لا نزال نذكر كيف كان الشيوخ المتطرفون يخطبون في المصلين في شوارع لندن و يهاجمون بريطانيا و يصفونها بأقذع الأوصاف بلا خجل أو وجل و على مسمع و مرأى من رجال البوليس المتواجدين في الشارع – لا للقبض عليهم و لكن لحمايتهم! و لا يزال ذلك التقليد الذي ظهر قبل قرنين و يسمح لأي فرد أن يذهب إلى أكبر حدائق لندن (هايد بارك) و يخطب في الناس للترويج لفكرة معينة أو انتقاد سياسة الحكومة. ذلك المستوى من حرية التعبير بدأ يتضائل في العقدين الماضيين حتى أنه أوشك على التلاشي، تبين ذلك أثناء جائحة الكورونا عندما تم تهميش كل من انتقد سياسة الحكومة في التعامل مع ذلك الوباء، لكنه تبلور بشكل واضح بعد نشوب الحرب في أوكرانيا عندما منعت الحكومة الرأي الآخر منعاً تاماً. قبل بضعة أسابيع ألقى البوليس القبض على أحد المتحدثين في هايدبارك بحجة إثارة الفتنة و ذلك لأول مرة. استطلاعات الرأي تؤكد أن نسبة كبيرة من الشعب فقدوا ثقتهم بالاعلام الرسمي بما في ذلك هيئة الإذاعة البريطانية التي في السابق عُرفت بحيادها،

التركيبة و الثقافة السكانية:
هذا أهم العوامل إطلاقاً لأنه لا يمكن وقفه و لا تغيير إتجاهه بينما يمكن نظرياً إصلاح العوامل السابقة. يختلف البريطانيون اليوم اختلافاً جذرياً عن آبائهم و أجدادهم الذين صنعوا الإمبراطورية،. للجيل الحالي معايير و اهتمامات و أولويات لم تكن تخطر على بال أجدادهم. فهم الآن مهووسون بالمعيشة الخضراء و يهدفون إلى أن يصل انتاجهم من الكربون إلى الصفر فتجدهم يمشون أو يستعملون الدراجات الهوائية في تنقلاتهم و يقللون ما أمكنهم من استعمال البلاستيك. تقوم ثقافتهم على أعمدة الحرية و مبدأ التعددية و الاحتواء و معاداة العنصرية، و هي كلها شعارات جميلة لكنها تخفي في ثناياها بذور تدمير المجتمع. الحرية مثلاً لا تعني التحرر من الظلم و الطغيان كما تفهمها شعوبنا ولكنها تعني التحرر من التقاليد و الأعراف. تحت مظلة هذا الشعار فرض المثليون انفسهم على المجتمع و على الكنيسة و أصبح مقبول قانوناً آن يتزوج اثنان (أو إثنتان) من نفس الجنس. و أصبح لزاماً على المجتمع أن يتقبل أن يتحول الذكر الى انثى أو العكس ( أو الى أي جنس آخر من السبعين جنساً التي وصفوها حتى الآن) لمجرد آنه يحس برغبة في ذلك! أصبح ممكناً وصف الرجل بأنه حامل أو مرضع و كذلك أصبح مقبولاً أن يُسأل الرجل قبل تعرضه لفحوص إشعاعية في المستشفى فيما اذا كان حاملاً أم لا! كل هذا من أجل إرضاء أقلية لا تزيد نسبتها في المجتمع عن واحد في الألف!

البريطانيون الآن يتبرأون من تاريخهم و يشجبون أجدادهم و السياسة الاستعمارية التي انتهجوها، و هناك لجنة تشكلت خصيصاً لمراجعة أسماء الشوارع و الميادين و التماثيل للتخلص من رواسب العنصرية و العبودية. واحد من أسباب هذا التغيير يعود إلى أن نسبة عالية ( ومتزايدة) من البريطانيين الآن ليسوا حقيقة أحفاداً للأجيال السابقة و لكنهم وافدون إلى البلاد أو أحفاداً لوافدين من اسيا و افريقيا و لا يربطهم بالامبراطورية المندثرة سوى ذكريات مؤلمة من الظلم و الاضطهاد. يبلغ متوسط نسبة البريطانيين من أصول أجنبية ١٥٪ لكنها نسبة تزيد كثيراً بين الشباب و تقل كثيراً عند كبار السن. في مدارس الأطفال تبلغ تلك النسبة ٣٠٪ و هذه تعطينا صورة عن التركيبة السكانية عند الجيل المقبل. يضاف الى هذا ان نسبة المواليد عند البريطانيين البيض متدنية قياساً لنسبتها عند المهاجرين، و يكفي أن نذكر أنه منذ سنوات عديدة و إلى الآن لا يزال إسم ”محمد“ أكثر الأسماء شيوعاً بين حديثي الولادة من الذكور. وسبب آخر لتزايد أعداد الاقليات هو توافد الآلاف من المهاجرين سنوياً سواء بطرق شرعية أو عن طريق التهريب بقوارب مطاطية ( و بمجرد وصول هؤلاء يصبحوا تحت حماية القانون الذي يعرقل تسفيرهم و يفرض على الحكومة أن توفر لهم المسكن و الطعام و العلاج). التوقعات الرسمية أنه في العام ٢٠٥٠ سيكون أكثر من نصف سكان البلاد من اصول اجنبية. و هنا نستذكر مقولة القائد الليبي الراحل معمر القذافي ” لقد تعذر على أجدادنا إحتلال أوروبا .. لكننا سنأخذها من غير أن نطلق طلقة واحدة“، و كان يشير إلى قوانين الهجرة الأوروبية.

يُذكر عن أرنولد توينبي، المؤرخ البريطاني المشهور، قوله ”ان الامبراطوريات العظمى لا تموت قتلاً لكنها تموت انتحاراً“. و قراءة سريعة في التاريخ تكفي لإدراك كم كان توينبي صادقاً. و في حالة بريطانيا فإنها ابتلعت سم الانتحار بدخولها الحرب العالمية الثانية لكنه كان سماً بطيء المفعول أدى الى موت بطيء مؤلم. العالم الآن يشهد نهاية هذه الدولة العجوز لكنه أيضاً يشهد نهاية ما هو أكبر، فها هي المانيا و فرنسا و اسكندنافيا بل و الدول الغربية جميعاً تسير على نفس الطريق .. إنه انتحار جماعي .. انتحار الحضارة الغربية!

كان لبريطانيا دورها و زمانها لكن غابت شمسها و اختفت تحت الأفق و لم يبق من ضيائها إلا ما يكفينا لرؤية اثار تلك الدولة العجوز و دلائل انهيارها. و إذا أشرق على هذه البلاد صباح يوم جديد فإنه سيشرق على قوم آخرين لا علاقة لهم بالحضارة المندثرة إلا كعلاقة شعوبنا بالسومريين و البابليين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى