كي لا ننسى هذه شهاداتهم عن “مجزرة الطنطورة”.. “جمعنا كلّ الرجال وقتلناهم بمدفعٍ رشّاش وأحرقناهم بقاذف اللهب”
في نكبة الشعب العربيّ-الفلسطينيّ، وهي أفظع جريمة ارتُكِبَت على مرّ التاريخ، نفذّت العصابات الصهيونيّة على مختلف أشكالها وأنواعها المجازر بحقّ الفلسطينيين، من الأطفال والنساء والرجال والمُسنين، لأنّ “العربيّ الجيّد هو العربيّ الميّت”، كما يعتقد السواد الأعظم من الصهاينة حتى يومنا هذا.
ماكينة الإعلام الصهيونيّة، المدعومة من الغرب المُنافِق والدجّال، أوجدت سرديّةً كاذبةً ومُختلقة عمّا جرى في فلسطين خلال النكبة، متجاهلةً عن سبق الإصرار والترصّد الجرائم الفظيعة التي تمّ تنفيذها بعنايةٍ فائقةٍ وبتخطيطٍ مسبقٍ ضدّ الفلسطينيين العُزّل، بتواطؤٍ من الغرب ، وما زالت هذه الماكينة الدعائيّة تعمل حتى اليوم دون كللٍ أوْ مللٍ لترسيخ الرواية الصهيونيّة، التي تُزوّر الأمور وتعمل على إعادة كتابة تاريخ فلسطين، التي اعتبروها بمثابة “أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض”.
يوسف ديامانط…أدلى بشهادته الفظيعة بأريحيّةٍ وضاحكًا ومُبتسمًا وكأنّه يتحدّث عن شيءٍ عاديٍّ
شاهدت مقاطع من الفيلم، (طنطورة)، الذي جمع شهادات الصهاينة الذين شاركوا في المذبحة. الفيلم وهو باللغة العبريّة، صادِم بكلّ ما تحمِل هذه الكلمة من معانٍ، وأكثر ما استفزّني كإنسانٍ، كعربيٍّ وكفلسطينيٍّ كانت شهادة يوسف ديامانط، ليس فقط لأنّه كشف عمّا فعلوا لأبناء شعبي في النكبة المنكودة عام 1948، إنّما ما أثار حفيظتي أكثر أنّ الرجل المُسّن كان يتكلّم بأريحيّةٍ، وكأنّه يتحدّث عن أمرٍ عاديٍّ، وليس عن قتلٍ واغتصابٍ لأناس عُزّل، ذنبهم الوحيد أنّهم فلسطينيين.
وتعاظم الشعور بالغضب والعبثيّة والحنق عندما رأيتُ الرجل الصهيونيّ وهو يتكلّم ويضحك، نعم يضحك، ولا يبتسِم فقط. الرجل، الذي شارف على التسعين، يروي ما فعلوه في مذبحة (الطنطورة) بهدوءٍ وسكينةٍ، كنتُ على أملٍ بأنْ يعتذر، عمّا ارتكبه هو وباقي الجنود، وهذا أضعف الإيمان، ولكنّه آثر القول إنّ الحديث عن المجزرة ما زال ممنوعًا.
وفيما يلي شهادة ديامانط، ترجمتها حرفيًا، من العبريّة للعربيّة، كما رواها في الفيلم: “في الطنطورة كانت حالةً من العبث لدى المقاتلين، وهذا كان أمرًا فظيعًا، الطنطورة كانت قريةً غنيّةً وبيوتها جميلة جدًا. وأيضًا النساء كنّ تلبسن بصورةٍ جميلةٍ وجذّابة، حقيقةً إنّها كانت قريةً رائعة….وقام أحد أفراد الوحدة باغتصاب طفلةٍ في الـ16 من عمرها، أوْ أقّل.. أنت فاهمٌ.. لقد كان أمرًا قبيحًا وبشعًا جدًا”.
“عندما انتهت الذخيرة في المشط قام بتغييره وواصل القتل بالمدفع الرشّاش”
وتابع:”كان معنا مقاتلاً، والذي توفيّ، كان رجلاً ضخم الجسم، إنّه قام بأخذ السكّان إلى الحظائر وهناك قام بقتلهم، نعم داخل الحظائر، وحولهم الأسلاك الشائكة المُدورّة والجدار الحديديّ، وقُمنا بجمع كلّ الرجال، وأمرناهم بالجلوس على الأرض في الحظيرة، وعندها جاء أحد المقاتلين وبحوزته مدفع رشّاس وبدأ بقتلهم رميًا بالرصاص،
وعندما انتهت الذخيرة في المشط، قام بتغيير المشط وإدخال الرصاص مرّةً أخرى”.
ومضى ديامانط في “اعترافاته”:”ماذا تعتقد أنْ يكون ذلك؟ نحنُ لم نكن كذلك، الرجل الذي أتحدّث عنه، كان غيرٌ عاديٍّ، استثنائيٌّ.. حقيقة أنّ ما فعله، كان غيرُ عاديٍّ وليس طبيعيًا، وبعد تنفيذ عملية القتل في الحظيرة قاموا بالتستّر على ما جرى، وكأنّ شيئًا لم يكُن”.
“العمل كان وحشيًا وإذا تحدّثت عمّا جرى فسيؤدّي ذلك إلى فضيحةٍ كاملةٍ”
ولكن الأمور لم تتوقّف عند هذا الحدّ من الجرائم الفظيعة. شاهد العيان، الذي شارك في المجزرة تابع قائلاً: “عددٌ من المقاتلين قاموا باستخدام قاذف اللهب، وركضوا باتجاه الرجال المحتجزين في الحظائر وأحرقوهم، إنّ العمل الذي قاموا به كان مُريعًا وشنيعًا جدًا ووحشيًا أيضًا، وعن هذه الأمور لن أتكلّم أكثر لأنّه حتى اليوم ما زال الأمر ممنوعًا، وأيضًا إذا تحدّثت عمّا جرى فسيؤدّي ذلك إلى فضيحةٍ كاملةٍ، ولذا فأنا لا أريد التحدّث عن هذا الأمر أكثر.. ولكن ما العمل؟ ما تحدثت عنه من قتلٍ واغتصابٍ جرى وحدث في (الطنطورة) من قبل المقاتلين”، على حدّ قوله.
وفي السياق عينه، ومع بداية عرض فيلمه الوثائقيّ الذي وصفته دولة الاحتلال الإسرائيليّ بالصادم، قال ألون شفارتس إنّ إسرائيل لا يمكنها المضي قدمًا كدولةٍ يهوديّةٍ ديمقراطيّةٍ، إلّا إذا كانت صادقةً بشأن قتل القرويين العرب، على حدّ تعبيره.
“الجنود الصهاينة قتلوا في المذبحة ما بين 200 إلى 250 رجلاً”
وتابع في حديثه لمجلة (تايمز أوف إزرائيل) إنّه مقتنع بأنّ الجنود الإسرائيليين قتلوا في مذبحة (الطنطورة) ما بين 200-250 ذكرًا من سكان الطنطورة في أعقاب معركة السيطرة على القرية المزدهرة والإستراتيجيّة على ساحل البحر الأبيض المتوسط جنوب حيفا.
ومضى قائلاً:”هناك روايات مختلفة في الشهادات حول ما حدث، لكن عندما تستمع إلى جميعها، يكون الأمر مروعًا وتحصل على صورة لما حدث هناك. قُتل الناس بطرق مختلفة وفي أماكن مختلفة في القرية. استغرق الأمر ما يقارب أسبوعيْن لدفنهم. هناك شهادات حول جثث في الموقع لم تُدفن لمدة ثمانية إلى عشرة أيام”، قال شفارتس.
الشهادات تمّ جمعها من أرشيف الجيش الإسرائيليّ ولكنّ..
طروحات شفارتس، المدعومة في الفيلم بوثائق التي تمّ الحصول عليها من أرشيف جيش الاحتلال والخرائط الجويّة التاريخيّة التي تمّ تحليلها من قبل الخبراء، بما في ذلك في الجيش الذين قال شفارتز إنّهم يرغبون في عدم الكشف عن هويتهم، في حين أفادت وكالة (فرانس برس) أنّ الجيش الإسرائيليّ رفض التعليق على الفيلم أوْ ادعاءات المجزرة.
ووفقًا لشفارتس، آن الأوان لتسليط الضوء على التاريخ الصعب المتعلّق بتأسيس إسرائيل وكسر الأساطير التأسيسية للبلاد، مهما كانت مؤلمةً، مُضيفًا أنّه “عندما يتعلّق الأمر بالنكبة، فإنّ الغالبية العظمى من الإسرائيليين إمّا لا تعرف، أوْ لا تريد التحدث عنها. إنهم لا يريدون التعامل معها”، طبقًا لأقواله.
“حتى لو قمتَ بنقل أوْ تطهير الناس عرقيًا من الأرض وهي أيضًا جريمة حرب والتي كان يجب القيام بها لا تذهب وتقتل الناس بعد المعركة”
وفي معرض ردّه على سؤالٍ حول شعوره عند الاستماع إلى هؤلاء الرجال المسنين، الذين نفّذوا المجزرة، قال: “لا أحكم عليهم، لقد كانت حربًا، لكن حتى لو قمتَ بنقل أوْ تطهير الناس عرقيًا من الأرض، وهي أيضًا جريمة حرب، والتي كان يجب القيام بها، لا تذهب وتقتل الناس بعد المعركة، لا يجِب أنْ تفعل ذلك، إنّه أمرٌ مؤلمٌ أنْ أكتشف هذه الحقيقة عن دولتنا وكذبها، أنا غاضب من حقيقة أنّه تمّ الكذب علينا كشعب لمدة 74 عامًا، وهذا الأمر يدمر حياتنا في هذا البلد. نحن ندمر مستقبلنا من خلال عدم الاعتراف بدورنا في الحرب”، قال المخرج الإسرائيليّ.
وأكّد المخرج في الختام أنّ “كارهي إسرائيل سيستمرون في كرهها بغضّ النظر، لا أستطيع السيطرة على ما يحدث لهذا الفيلم، يمكنني فقط إنشاء قطعة سينمائية، ولا يمكننا أنْ نكون منارةً إذا أخفينا هياكلنا العظميّة في الخزانة، النكبة هي هيكلنا العظمي في الخزانة”، على حدّ وصفه.