النضال على الهامش.. روّاد الأعمال بحكم الضرورة في المناطق الريفيّة اللبنانية

 

استنادًا إلى دراسة أكبر شملت ثلاث مناطق ريفية في لبنان، تسلط لينا س. مداح الضوء من خلال هذا المقال على التحديات الرئيسية التي تواجه رواد الأعمال بحكم الضرورة في التصدي للأزمة الاقتصادية المتفاقمة التي تعصف بالبلاد. وبدلاً من التركيز على مشاكل الاقتصاد الكلي كالتضخم والبطالة والفقر، ينظر هذا المقال في السياسات الهادفة ذات الأهمية الحاسمة لرواد الأعمال بحكم الضرورة والاقتصاد الريفي بشكل عام.

قراءة الملخص..

لا بدّ من أن يأخذ تقييم الأثر الكامل للأزمات المتعددة التي تضرب لبنان بعض الوقت لتبيان أبعاده. مع ذلك، من الجلّي في هذه المرحلة أنّ المشاكل التي تواجه المجتمعات الريفيّة قد تفاقمت بسبب تهميشها، جرّاء انفصال روّاد الأعمال شبه التام عن أجزاء أخرى من البلاد. وبناءً على دراسة أجراها المركز اللبناني للدراسات، تخشى بعض القرى، على غرار فنيدق وحيداب وراشيا التي تتشارك تحدّيات شائعة للغاية، أن تُترك وحدها لمصيرها.

على وجه التحديد، غالبًا ما يفتقر روّاد الأعمال بحكم الضرورة- وهم الأفراد الذين يطلقون مشاريع صغيرة بدافع الضرورة الاقتصاديّة، وللتعويض عن نقص فرص العمل الأخرى- إلى الوسائل والموارد اللّازمة لمواجهة المخاطر الاقتصاديّة الناجمة عن الأزمة الحاليّة. وعليه، بدلًا من التركيز على مستوى الاقتصاد الكلّي (التضخّم، والبطالة، والفقر)، يتناول هذا المقال السياسات الهادفة المحورية بالنسبة إلى روّاد الأعمال بحكم الضرورة والاقتصاد الريفي بشكلٍ عام.

وفي سبيل رسم صورة أكثر وضوحًا، يجوز إجراء تحليلٍ قطاعي مفصّل: فينشط روّاد الأعمال بحكم الضرورة في المناطق الريفية الثلاث أعلاه في عدد من القطاعات، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: الزراعة، وتربية الماشية، والدواجن، وتربية النحل، وتصنيع الأغذية، والسياحة البيئيّة، والصناعات الإبداعيّة (بما في ذلك الحِرَف والأنشطة الفنيّة).

التحدّيات على جميع الجبهات

يتشارك روّاد الأعمال بحكم الضرورة الكثير من التحدّيات نفسها ضمن المناطق الريفيّة الآنف ذكرها. فيواجه القطاع الزراعي صعوباتٍ شتّى يُعزا معظمها إلى سنوات من إهمال الدولة، نذكر من بينها (1) ارتفاع أسعار البذور، والأسمدة، ومبيدات الحشرات والآفات، إلى جانب غيرها من المُدخلات الزراعيّة الأخرى، و(2) ارتفاع كبير في أسعار المُدخلات بالنسبة إلى المزارعين الذين يعانون في الأصل من ارتفاع تكاليف التشغيل وعدم كفاية المستلزمات، فضلًا عن (3) الكلفة المرتفعة المترتّبة على حرث الأراضي والعناية بها، و(4) كلفة اليد العاملة لحصاد المحاصيل.

بالإضافة إلى ذلك، لا بدّ من الإشارة إلى المشاكل الأساسية في البنية التحتيّة المتعلقة بوسائل الريّ القديمة وسِعة التخزين غير الكافية. غالبًا ما يقع صغار المزارعين في الخسارة بسبب محدوديّة وفورات الحجم، وضيق المعرفة بالأسواق، وقلّة الاستثمار في البنية التحتيّة. ويعود ذلك إلى حدٍّ كبيرٍ إلى العدد المحدود للغاية لاتّحادات وتعاونيات المزارعين التي بإمكانها أن تمنح صغار المزارعين قدرة أكبر على التفاوض للحصول على أسعار أفضل لمنتجاتهم. كذلك، يواجه روّاد الأعمال بحكم الضرورة في قطاع تصنيع الأغذية تحديّات أكثر من أيّ وقتٍ مضى، علمًا أنّه قطاعٌ يمثّل التراث الغذائي الريفي والهويّة الثقافيّة في لبنان، ناهيك عن دوره الأساسي في سلسلة القيمة الزراعيّة المحليّة التقليديّة.

في هذا السياق، يمكن تصنيف التحدّيات الرئيسة لروّاد الأعمال بحكم الضرورة العاملين في الزراعة على النحو التالي: (1) النقص في الوقود والكهرباء، ممّا يقيّد عمليّة تجهيز النباتات، والفاكهة، والخضروات، و(2) عدم القدرة على توقّع التكاليف الثابتة والتشغيليّة، إلى جانب التكاليف المرتفعة نسبيًّا للأعشاب، والنباتات، والفواكه، والخضراوات، فضلًا عن المستلزمات الأساسيّة الأخرى كالزجاجات أو علب الصفيح، و(3) التغييرات في خطط الإنتاج بسبب حالات الطوارئ والمخاطر، الطبيعيّة والاقتصاديّة على حدّ سواء، و(4) الوصول المحدود إلى الأسواق.

علاوةً على ذلك، تواجه قطاعاتٌ أخرى، على غرار قطاع السياحة البيئيّة، مرحلة صعبةً ناجمةً إلى حدٍّ كبيرٍ عن الأزمة الاقتصاديّة، بما في ذلك المخاوف الأمنيّة، وتراجع الطلب بسبب الوضع الاجتماعي المتوتّر، وأزمة المحروقات، وارتفاع التكاليف التشغيليّة للمواد الغذائيّة والكهرباء وموادّ التنظيف. ولا يستثنى من ذلك روّاد الأعمال بحكم الضرورة العاملين في القطاع الحرفي والإبداعي. فالحرفيّون يقتطعون من أرباحهم في سبيل الصمود، إذ يواجهون تحدّيات في محدودية القدرة التسويقيّة، والوصول إلى الأدوات الرقميّة، وسبل التصدير أو روابطه. فضلًا عن ذلك، تُقيّد السمة غير الرسميّة لهذا القطاع إمكانيّات النمو والتدويل كافّة، حيث أنّ التسجيل، وإضفاء الطابع الرسمي، واعتماد العلامات التجاريّة، هي شروطٌ مسبقةٌ لأيّ خططٍ تجاريّة. ويشكو روّاد الأعمال بحكم الضرورة جميعهم من انخفاض العائدات، نظرًا لحجم العمل والتكلفة المترتّبة على النشاط، والعمليّة البطيئة والطويلة لوضع العلامة التجاريّة، فيبقى الكثير من المنتجات من دون علامةٍ تجاريّةٍ، مما يؤثّر بدوره على الأسعار.

دعم القدرة على الصمود

يُعّد دعم القدرة على الصمود لروّاد الأعمال بحكم الضرورة في المناطق الريفية، أداة فعّالةً لدعم الاقتصادات المحلية، لا سيّما في زمن الأزمات. إذ يولّد روّاد الأعمال بحكم الضرورة العائدات بما يعزز الإنتاجية المحلية، التي بدورها تدفع عجلة النمو الاقتصادي. ويُعتبر تعزيز سياسة إنمائية شاملة اجتماعيًا تستهدف المناطق الريفية مسألةً ملحةً. وعليه، يجب أن تركّز برامج الدعم الحكومية على التنمية الريفية وأن تسهّل زيادة التعاون بين القرى الصغيرة، فتخفف بالتالي من حدّة التوتّرات القائمة.

تتطلّب استراتيجيات التنمية الشاملة التزامًا ثابتًا من صانعي السياسات على الصعيد المحلي لمعالجة التحدّيات الأساسية التي يواجهها روّاد الأعمال بحكم الضرورة. وهذه السياسات أساسية لاستحداث بيئة أعمال متجانسة في المناطق الريفية تسمح لروّاد الأعمال بخدمة مجتمعاتهم المحلية والمناطقية والاستفادة منها أيضًا.

كذلك، ينبغي وضع خطة طوارئ تساعد روّاد الأعمال بحكم الضرورة على المدى القصير، خاصةً عبر ضمان الأمن الغذائي في برامج الحماية الاجتماعية، وتقديم المعونة الغذائية وتعزيز وصول الإمدادات الغذائية الآمنة وبأسعار مقبولة. يتعيّن أيضًا أن يقترن ذلك بتأسيس اتحادات/تعاونيات مناطقية ومحلية تهدف إلى تعزيز قدرات روّاد الأعمال بحكم الضرورة (السابقين والجدد) سعيًا لزيادة النمو والتنمية، مع التركيز بشكل خاص على تعزيز الوصول إلى الأسواق. بالإضافة إلى ذلك، تبرز الحاجة إلى إطلاق دورات تدريبية مهنيّة ولبناء القدرات لتمكين الأطراف المحلية المعنية من تطوير قدراتها في مجالات مرتبطة بعملها.

وصمة المناطق الريفية

على الرغم من الوصمة المرتبطة بالمناطق الريفية- أي انّ الحجة القائلة بأن التنمية الاقتصادية، وريادة الأعمال، وفرص النمو، هي محصورة في المناطق الحضرية فحسب- هي فكرة خاطئة تم نقضها خلال العقد الأخير. إذ تعمد مدرسة جديدة من الأدبيات إلى إلقاء الضوء على إمكانيات التنمية الاقتصادية في المناطق الريفية، فتحوّل النظرة السائدة بشأن هذه المناطق، من “مناطق ركود” الى “مجالات فرص” حيث يمكن تعزيز المرونة الاقتصادية من خلال إحداث نقلة نوعية في التنمية.

بغية فهم آليات النمو لروّاد الأعمال بحكم الضرورة في المناطق الريفية، يتعين تحديد الخصائص المكانية المتنوّعة لهذه المناطق- سواء أكانت مجتمعات أطراف ذات خدمات جيدة قريبة من المناطق الحضرية ، أم مناطق نائية ذات كثافة سكانية منخفضة وتحصل بشكل محدود على الخدمات الأساسية- الى جانب الاختلاف في الثقافات. وفي الواقع ، لا يمكن تعزيز التنمية الريفية عبر السياسات الهادفة دون دعم روّاد الأعمال بحكم الضرورة كتدخل إنمائي استراتيجي.

بالتالي، من الممكن وصف العلاقة بين روّاد الأعمال بحكم الضرورة ومجتمعاتهم المحلية بالعلاقة “التكافلية”. وإذا أراد الطرفان الازدهار، لا بدّ من استبيان الروابط من أجل فهم الحاجات الخاصة لكل من القطاع الخاص والمجتمعات المحلية الريفية. لذلك، يتعيّن إشراك عدد من الأطراف: اتحادات البلديات، والبلديات، ومنظمات المجتمع المدني، والجامعات، والقطاع الخاص، والمجتمع المحلي. تتعرّض المناطق الريفية اللبنانية للتهميش منذ فترة طويلة جدًا، وقد حان الوقتلتغيير هذا النموذج الاقتصادي. . من هنا، يستدعي هذا الواقع الاقتصادي الجديد التزامًا ورؤيةً مشتركةً تعترف بالدور المحوري الذي يمكن أن تضطلع به المناطق الريفية في مساعدة الاقتصاد الكلّي نحو التعافي.

*لينا س. مدّاح هي باحثة اقتصادية في المركز اللبناني للدراسات. وتشمل مجالات عملها التنمية الاقتصادية والاقتصاد الإقليمي والمواقع الصناعية وديناميكيات المؤسسات والصناعات الثقافية والإبداعية. في رصيد مدّاح شهادة دكتوراه في الاقتصاد من جامعة روفيرا إي فيرجيلي في إسبانيا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى