في ذكرى إنطلاقتها السبعين.. ثورة ٢٣ يوليو لا تزال مصدر إلهام ومحل إحترام كل أحرار العرب

بقلم: فهــد الريمــــاوي

 

على بوابات الترقب والانتظار، تسبقنا آيات اللهفة واسراب الحنين وباقات الورود وترانيم الأعياد، الى إستقبال الذكرى السبعين لانطلاقة ثورة ٢٣ يوليو الخالدة، التي ما زالت محور إهتمام كل الشرفاء العرب، وموضع إحترام القوميين بالدرجة الاساس، ومصدر إلهام لأجيالهم الطليعية الصاعدة، وأرفع وسام على صدر العروبة التاريخية الموعودة بحتمية الانتصار مهما تكاثر الاعداء وجارت الايام.

ففي صحراء هذه الحقبة العربية الموحشة، ووسط هذه التنازلات التي تقارب عار الخيانات، وهذا التيه الذي يبلغ حد الضياع.. أين يمكن لمن تبقى من أحرار العرب أن يلتمسوا السلوى من هذه البلوى، وينشدوا التأسي من دفق هذه الأحزان، ويطيقوا مرارة الصبر على كل هذه الانهيارات والانكسارات، ألا في صُحبة مارد يحمل كُنية “ابو خالد”، ومعايشة أيام مجده العظيم، وتفيؤ ظلال ثورته المظفرة.. ليس فقط لغرض إستذكارها بوصفها إحدى منارات القرن العشرين، بل أيضاً من أجل إستحضارها كمرجعية ثورية ورؤية مستقبلية من شأنها ان تُشكّل بوصلة إتجاه، وقوة دفع وتنوير وتبصير تهدي إلى سواء السبيل.

من توقد فصل الصيف، وتوهج شهر يوليو، وحميّة جيش مصر، ووطنية شعبها الأبي، وعبقرية جمال عبد الناصر، خرجت الى الوجود هذه الثورة العملاقة، واطاحت خلال ساعات بالنظام الملكي الفاسد، وكتبت بابهى الحروف العربية – الشمسية منها والقمرية – إسمها في دفاتر التاريخ، وحجزت لمصر مكاناً لائقاً تحت الشمس، وضمنت للامة العربية مكانة مرموقة بين الامم.

كانت مصر مهمومة ومظلومة، فجاءت هذه الثورة لتفرّج همها وتزيل مظلوميتها.. وكانت الأمة العربية مكروبة ومهزومة، فجاءت هذة الثورة لتمحو كربها، وتستنفر قواها، وتعيد لها الثقة بنفسها، وتوفر لها شروط الانتصار.. وكانت فلسطين جريحة وطريحة الاحتلال، فجاءت هذه الثورة لتنصرها وتشد ازرها وتفك اسرها.. وكان الصراع محتدماً بين حركات التحرر الآسيوية والافريقية والامريكية اللاتينية، وبين مراكز الاستعمار الاوروبي والامريكي، فلم تتردد هذه الثورة الفتية في الاصطفاف لجانب الثائرين في مواجهة المستعمرين.

قلنا غير مرة أن ثورة ٢٣ يوليو معروفة بذاتها، فلا تحتاج الى تعريف او توصيف او تعظيم وتفخيم.. فهي بحق أم الثورات العربية، ونجمة حركات التحرر العالمية، وراية الكفاح الوطني والقومي والتقدمي في ثلاث قارات: آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية.. وهي ما زالت حاضرة في الحاضر، وماثلة في البال والخاطر، وممنوعة من التقاعد والتقادم، ومعصومة من الغياب والأحتجاب، وعصيّة على محاولات النكران والهجران والنسيان، نظراً لأن مبادئها ونضالاتها ومرتكزاتها الوحدوية والاشتراكية والتحررية ما زالت تشكّل “شرط الضرورة والكفاية معاً” لإحياء وإعادة بناء كبرياء الامة العربية المُشرذمة والمحطّمة والمهيضة الجناح.

فمثلما إنبلجت هذه الثورة قبل موعدها، وجاءت سابقة لعصرها، وخافقة بقلب شعبها، وناطقة باسم الجماهير العربية التائقة للحرية.. ليس مُستبعداً ولا مُستغرباً ان تبقى محفوظة في ذمة المستقبل المصري والعربي، وراسخة في تضاريس الوجدان والاذهان، وقابلة للإنبعاث ما ان تتهيأ الظروف المناسِبة، وتشتد الدواعي والحاجات والضرورات الضاغطة.. فمن قلب الاحتياجات تنبثق الابتكارات والمفاجآت، ومن صميم الضرورات تشتعل الثورات وتحتدم المواجهات.

كان مُقدّراً – وربما مؤكداً – لثورة ٢٥ يناير عام ٢٠١١ ان تقتدي بثورة ٢٣ يوليو الأم، وتهتدي بهديها، وتعيد وصل ما إنقطع من مسيرتها، وتأتي على وفق نسخة متطورة منها تتناسب ومُعطيات الوقت الراهن ومستجداته.. نظراً لان جماهير ثورة يناير وراياتها وشعاراتها وغاياتها كانت ناصرية بغير جدال، وهي لم ترفع سوى صور عبد الناصر دون غيره من قادة مصر وزعمائها الأولين والآخرين.

يومذاك لم يجرؤ الاخوان المسلمون على الانخراط في تلك الثورة، ولم ينبسوا ببنت شَفة او يشاركوا باي دور، إلا بعدما إتضح الخيط الابيض من الأسود، ولاحت تباشير الانتصار الثوري بملامحه الناصرية البعيد عن لعنة “الثورات البرتقالية”.. حينها فقط ألقى الاخوان بثقلهم في الميدان، وركبوا موجات الحراك الشعبي الهادر ، ونجحوا – بالتساهل من المجلس العسكري، والتواطؤ مع اوباما وهيلاري ومستشارتها الاخوانية هوما عابدين – في القفز الى سدة الحكم، لكي يؤسلموا مُخرجات الثورة ويجيّروها لحسابهم، ويحرفوها عن الاتجاه القومي الإشتراكي الناصري، ويشكلوا جملة معترضة بينها وبين ثقافة ثورة ٢٣ يوليو وتراثها.

وهكذا، ما ان تسلم الاخوان دفة الحكم حتى غرقوا في لُجة انانيتهم وغرورهم، حيث بطِروا وفجروا وغدروا بباقي قوى الثورة، ومارسوا ابشع أنواع الاحتكار السياسي والاستئثار بالسلطة، وتوهموا ان بمقدورهم “أخونة” شعب مصر العريق، وإلغاء كل أشكال التعددية الاعلامية والفكرية والايدلوجية.. فضلاً عن فشلهم الذريع في إدارة شؤون الدولة، ونيلهم صفراً مُكعباً في رعاية مصالح البلاد والعباد.

غير ان إنقلاب الجنرال السيسي على حكمهم عام ٢٠١٣ لم ينطلق من اسباب داخلية فقط، ولا قام لانهم رسبوا في إمتحان الإدارة العامة فحسب.. بل لان هناك ايضاً إعتبارات وتدخلات خارجية تمثلت في حملة “صليبية” سعودية – إماراتية شاملة ومدعومة إسرائيلياً، لإسقاط سلطة الاخوان في مصر ، وملاحقة الوجود او حتى النفوذ الاخواني في تونس وليبيا وقطر والاردن والسودان و…غزة التي تحولتً تحت قيادة حركة حماس الاخوانية وشقيقتها حركة الجهاد الاسلامية، الى حصن مدجج ببواسل المقاومة، وفاعل مرفوع بصواريخ “محمد الضيف”.

وكم كان السيسي باطنياً ماكراً، وممثلاً مسرحياً مراوغاً، حين إدعى انه قاد ما يُسمى ثورة ٣٠ يونيو لتخليص مصر وجماهير ثورة يناير من براثن الاخوان، وأوحى – عبر لقاءاته المتكررة مع الاستاذ محمد حسنين هيكل – بالعودة الى منهج عبد الناصر ودرب ثورة ٢٣ يوليو الأم.. فيما كان لا يرى نفسه فعلياً ضمن الخط الناصري، وإنما كان يمارس التُقية والإقتداء، في فنون الخداع والتضليل، بنزيل جهنم المقتول انور السادات الذي طالما أوعز لسائق سيارته بالغمز يساراً والتوجه يميناً.

يومذاك أثبت اللوبيان: النفطي بقيادة الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز، واليهودي بقيادة رئيس الوزراء المخلوع بنيامين بن نتنياهو انهما اقوى، في دوائر الدولة الامريكية العميقة، من اوباما الرئيس الباهت الذي فتح صفحة الحكم الاخواني المصري لابعاد “شبح” الناصرية، ثم ما لبث ان طواها بمجرد ان استنفذت أغراضها، وأذعن بالتالي لقوى الضغط النفطية والصهيونية التي طرحت خططاً وحسابات واولويات إقليمية إستراتيجية جديدة، أهمها وأخطرها تصغير الخارطة المصرية وإخماد الحالة الشعبية الثورية فيها.. إحكام الحصار على قوى المقاومة ومنافذ تسليحها في قطاع غزة.. تصعيد وتيرة التبعية للخلايجة، والعمالة لامريكا، والتطبيع مع اسرائيل، ربطاً بالتنازل لها عن دور مصر القيادي في افريقيا والعالم العربي.

بغير كثير بحث وتمحيص وتنقيب، وقع الاختيار الاسرامريكي على الجنرال السيسي لإداء هذه المهمات الشاقة والشائكة، لقاء إنتدابه لرئاسة الجمهورية، وليس تنصيبه رئيساً فعلياً كامل الصلاحية.. فهو معروف لدى الدوائر الامريكية والصهيونية بالسطحية وتواضع قدراته وخبراته السياسية، وإفتقاد حس الزعامة والروح القيادية، مع الإستعداد الكامل للتساهل والتنازل والطاعة العمياء، مقابل البقاء على قيد الرئاسة مهما كانت فارغة وشكلية.

ومن المؤسف ان السيسي لم يخيّب ظن الخلايجة والصهاينة فيه، فلم يلبث ان حوّل نفسه الى “بابا نويل” يوزع الهدايا على المحتفلين بخراب مصر الكنانة، ولم يتردد في التنازل عن المقدّرات المصرية واحدة بعد أخرى، بدءاً بجزيرتي تيران وصنافير اللتين تبرع بهما للسعودية، ومروراً بنهر النيل الذي وهبه للحبشة، وليس إنتهاءً بمكانة مصر القيادية التي قدمها هدية سخية للعدو الاسرائيلي.. أما بقية المِنح والهدايا والأعُطيات فربما تأتي مستقبلاً على حساب سيناء، نظراً لان هذا الرجل لم يضع الى الآن نقطة على آخر سطر التنازلات!!

ياه.. لقد شطحنا وذهبنا بعيداً.. أطلنا في الشرح والطرح، واخذتنا فجاجة السياسة من جلال ثورة ٢٣ يوليو، وابعدتنا عن رومانسية اللغة التي تليق بذكراها، ونقلتنا من سيرة عبد الناصر المبهجة الى جيرة السيسي المزعجة، وارغمتنا على الكتابة بابجدية الملاكمة وادواتها العنيفة في مخاطبة هذا الحاكم الغشيم الذي يجهل وزن مصر الراجح في التاريخ، وقدرها الهائل في قلوب العرب، ودورها المركزي في قيادة الشرق الاوسط، وموقعها العبقري المُطل على ثلاث قارات، وقانونها الإستثنائي الأشبه بقوانين البوارج العملاقة و”حاملات المعجزات” التي لا يقوى على قيادتها بكفاءة وإقتدار، الا الربابنة الجبابرة و”الفراعين”.. وبغير ذلك يغشاها الضعف ويتلبسها الخوف، وتتناوشها الرياح الهوجاء، وتتقاذفها الامواج الصاخبة من كل جانب.

وبالمناسبة.. هل أتاكم إبداع راهب الفكر المصري الفذ والمتفرد الدكتور جمال حمدان، صاحب الموسوعة الشمولية الجامعة “شخصية مصر – دراسة في عبقرية المكان”، وهل رأيتم كيف أوفى مصر حقها في السيادة داخلياً والريادة خارجياً، وهل تمعنتم في اقواله وتأملاته المفعمة بالحكمة والعمق والاشراقات المدهشة، والتي نوّه فيها بادقّ تداخل بين الناصرية والوطنية المصرية، إذ قال: “الناصرية هي المصرية كما ينبغي ان تكون.. انت مصري إذن انت ناصري، حتى لو إنفصلنا عن عبد الناصر ورفضناه كشخص او إنجاز”.. وقال ايضاً: “مصير مصر مُحدد بمصير فلسطين، ولا يمكن ان يشك شخص عاقل ان مصر منذ معاهدة كامب ديفد لم تعد دولة مستقلة ذات سيادة، وانما حولها السادات الى محمية امريكية تحت الوصاية الاسرائيلية، او محمية اسرائيلية تحت الوصاية الامريكية”.

مسك الختام.. ستبقى ثورة ٢٣ يوليو فكراً مُتجذراً يتعمق في الأذهان، وبدراً منيراً يبدد حلكة الظلام، وجمراً متوهجاً يستعر تحت الرماد، ونهراً سخيّاً يفيض بالحكمة والتجربة والموعظة الثورية، وذخراً ثميناً لكل احرار مصر والعرب والافارقة والمسلمين.. “والله غالبٌ على أمرهِ ولكن أكثر الناس لا يعلمون”، صدق الله العظيم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى