ليلة الثورة … كما رواها جمال عبدالناصر

قيل الكثير و كٌتِب الكثير عن تلك الثورة المجيدة التي انطلقت في فجر الثالث و العشرين من يوليو قبل سبعين عاماً لتصبح من أهم العلامات الفارقة في تاريخ مصر و العالم العربي. كَتب عنها حشد كبير من المؤرخين من مختلف الجنسيات و مختلف اللغات سواء من الذين عاصروها أو المحدثين، كما أدلى بِدَلْوِه بعض الذين شاركوا في انجازها. و الملاحظ أن معظم ما كُتِب عن هذه الثورة باللغة العربية جاء بعد رحيل قائدها، و كثيراً ما جاء على شكل مذكرات ذاتية من شخصيات شاركت في صنع الثورة أو كان لها دور في أحداث تلك الحقبة. و المعروف عن الباحثين في التاريخ أنهم يتوخون الحذر عند قراءتهم للمذكرات الشخصية لأن كاتبها ينحاز دائماً إلى نفسه سواء كان عن قصد أو غير قصد مما يعيب شهادته على الاحداث. الحافز الذي يدفع مسئولاً ما لكتابة مذكراته يكون عادة تبرئة ساحته أو الانتقام من غيرة (أو كلا الحافزين)، و لهذا لن تجد في في مذكرات مسئول عربي انتقاداً و لا حتى مجرد ذكر لأخطائه، بينما يستفيض و يبالغ، أو يكذب، في وصف أخطاء الآخرين.

لا يختلف اثنان على أن جمال عبد الناصر كان هو العقل المدبر و القوة الدافعة التي فجَّرت الثورة صبيحة يوم ٢٣ يوليو ١٩٥٢، أو كما لخص السادات الموقف عندما قال لأحمد بهاء الدين ”يجب أن نعترف ان هذه الثورة هي ثورة عبدالناصر، هو اللذي صنعها“. لكن صانع الثورة كان دائماً مشغولاً بشئون الدولة و هموم الأمة و لم يكن معه وقت ليكتب قصته أو يجلس ساعات في الاستوديو ليسرد مذكراته. هذا يجعلني أتساءل ماذا كان سيكتب الزعيم لو سنحت له الفرصة و ماذا كان سيقول عن ما كتبه الآخرون؟ و هو تساؤل مشروع لكن ربما لن نجد له إجابة شافية. و لحسن الحظ أن عبد الناصر لم يكن صامتاً تماماً حول هذا الموضوع بل كثيراً ما تحدث عن أحداث الثورة في خطبه و أمام الشعب و على مسمع من زملائه، و كعادته إذا تحدث، فقد كان حديثه عن الثورة واضحاً صادقاً و بلغة بسيطة واضحة لا مراوغة فيها و لا تعمية لأنه كان يصف الحقائق و يقول الحق الذي لم يخشَ فيه يوماً لومة لائم.

و فوق ذلك فقد روى قصته لكاتب أميركي اسمه روبرت سان جون، الذي زار مصر و لبث فيها وقتاً كافياً لجمع المعلومات اللازمة لكتابة قصة حياة جمال عبد الناصر. تحدث ذلك الكاتب المعروف مع الرئيس شخصياً و زاره في بيته ورسم صورة ذهنية دقيقة لمكتبة و لنظام حياته اليومي. و تحدث أيضاً مع أكثر من مائة شخصية من رفاقه و أقاربه و خصومه، في مصر و خارجها، ثم نشر كتابه سنة ١٩٦٠ تحت عنوان ”الريِّس“ عندما كان كل اللاعبين الأساسيين على قيد الحياة، و لم يعترض أحد منهم على سرد الأحداث كما وردت في الكتاب. جدير بالذكر أنه لا توجد طبعات جديدة من الكتاب و النسخة التي اقتنيها من الطبعة الأولى و اشتريتها عندما رأيتها في الانترنت فبل نحو ١٠ سنوات. روبرت سان جون لم يكن ناصرياً (بل كان تعاطفه مع اسرائيل واضحاً) لكنه كان يكتب بالأمانة و الدقة و الاحتراف التي عُرِفَ بها، قصة حياة زعيم شاب لفت أنظار الدنيا بوقوفه بقوة مدافعاً عن حقوق شعبة و كرامة وطنه.

و حسب ما رواه عبد الناصر فإنه كان في تقديره أنه سيكون بإمكانه تنفيذ الثورة سنة ١٩٥٥. لكن مع حلول سنة ١٩٥٢ كانت الأوضاع السياسية في مصر قد تدهورت كثيراً خاصة بعد حريق القاهرة في يناير من ذلك العام. في الأشهر التي سبقت الثورة دخلت مصر في حالة من عدم الاستقرار انعكست على قرارات الملك بإقالة الحكومات المتعاقبة كل بضعة أسابيع. تلك الحالة من الغليان الوطني جعلت البلاد بحاجة ماسة للتغيير و فرضت نفسها على تخطيط عبد الناصر الذي قرر أن يكون عام ١٩٥٢ هو عام الثورة، وحدد لها موعداً محدداً و هو يوم الخامس من أغسطس. اختيار ذلك اليوم بالذات كان بناء على رغبة زملائه في أن يتقاضوا مرتباتهم (ربما لآخر مرة) و يعطوها لأسرهم. في بداية شهر يوليو كان عبد الناصر يقضي إجازته الصيفية مع اسرته في الاسكندرية لكنه اضطر أن يعود الى القاهرة مبكراً للمشاركة في تصحيح أوراق امتحانات طلبة الكلية الحربية التي كان يحاضر بها.

كانت السيدة تحية، قرينته، تلاحظ أن زوجها يعمل لساعات طويلة كل يوم و أنه فوق عمله المعتاد كان كثير الاجتماعات بزملائه سواء في بيته أو في بيوتهم. كانت تحس أن زوجها مهموم بشيء ما يتعلق بالوطن لكنها كانت تتعمد أن لا تضايقه بالأسئلة. في غضون ذلك كانت المعلومات التي تصله تشير إلى أن القصر بدأ يعرف عن التنظيم و قد يستهدفه بضربة قاصمة في أي وقت، و لهذا قَدَّم ميعاد الثورة إلى يوم ٢٢ يوليو. كان عبد الناصر مٌصِرّاً على تحرير وطنه – حياً أو ميتاً – و من أجل ذلك كان يخطط لثورتين: الثورة التي سيقودها في ذلك العام و التي كان يأمل نجاحها و لكن احتمال فشلها كان عالياً، و ثورة أخرى تنطلق في المستقبل يقوم بها من بقي على قيد الحياة من رفاقه. من أجل ذلك ابتكر نظام الخلايا أو المجموعات بحيث يكون مستحيلاً على أي فرد منهم يقع في الأسر الافشاء عن كافة أفراد التنظيم مهما كانت درجة التعذيب – لأنه ببساطة لا يعرفهم.

كان عدد الضباط الاحرار قد بلغ نحو ٣٠٠ ضابط و كان جمال عبد الناصر هو الوحيد الذي يعرفهم كلهم. اختار من أفراد التنظيم مجموعة من تسعين فرداً لتقع عليهم مسئولية تنفيذ الثورة. كانت التعليمات لكل أفراد المجموعة المشاركة في القاهرة أن الثورة ستقوم في أي وقت و أن عليهم أن يتواجدوا في بيوتهم من بعد ظهر يوم ٢١ يوليو لتلقي التعليمات النهائية. في الليلة السابقة لميعاد الثورة لم تكن خطتهم النهائية قد اكتملت و بسبب ذلك تأجل التنفيذ إلى يوم ٢٣ يوليو.

بعد ظهر يوم ٢٢ يوليو عُقد الاجتماع الأخير لقادة الضباط الاحرار في منزل خالد محيي الدين و فيه تمت مراجعة خطة الثورة و الاتفاق على النقاط النهائية. ليس صحيحاً ما يشاع من أن زكريا محيي الدين، الذي كان له دور مشرف في نجاح الثورة و بناء دولتها، هو الذي وضع خطة الثورة و كتبها بيده. ربما كان كتبها بيده لكن الخطة شارك فيها أكثر من ضابط و كان دور عبدالناصر فيها محورياً و كانت موافقته على كل تفاصيلها أساسية. كانت الخطة تقتضي أولاً السيطرة على القيادة العامة للقوات المسلحة و إلقاء القبض على مجموعة محددة من كبار قادة الجيش و احتجازهم في الكلية الحربية. كما نصت الخطة على قطع الاتصالات العسكرية، و هي المهمة التي اُنيطت بالسادات.

غادر جمال عبد الناصر منزل خالد محيي الدين و هو مدرك أنه لم يبق أمامه سوى ساعات قليلة لإبلاغ الجميع بالتعليمات النهائية و ساعة الصفر و التي كانت الواحدة بعد منتصف الليل. ثم تذكر الاسكندرية و التي كانت بالنسبة له حلقة الضعف لأنه لم تكن توجد لدية أية وسيلة لإبلاغ مجموعة الضباط فيها بالتعليمات النهائية كما وعدهم. لم يكن أمام عبد الناصر إلا أن يكسر واحداً من أهم قوانينه التي حافظ بها على تنظيم الضباط الأحرار و هو قانون السرية المطلقة! اضطر، و الضرورات تبيح المحظورات، أن يستعين بأخيه عز العرب الذي كان يزوره في القاهرة و الذي لم يكن من الضباط الاحرار و لم ينخرط أساساً في السلك العسكري، لكنه على الأقل كان يثق به. سافر عز العرب فوراً الى الاسكندرية و نفذ تعليمات أخيه تماماً و بلغ الرسالة لأصحابها بأمانة .. لكنهم لم يصدقوه! و من جانبه استقل جمال عبد الناصر سيارته و شرع فوراً يجوب شوارع القاهرة و يطوف على بيوت رفاقه لإبلاغهم بالتعليمات الجديدة و أيضاً ليشحذ هممهم و يطمئنهم بأن الخطة محكمة و أن كل شيء يسير على ما يرام.. لكنه و هو ينتقل من بيت إلى بيت بدأ شيئاً فشيئاً يكتشف أن كل شيء لم يكن يسير على ما يرام..

كانت خيبة أمله الأولى في السادات الذي لم يكن متواجداً في بيته كما نصت التعليمات بل خرج مبكراً إلى السينما مع زوجته! ترك عبد الناصر ورقة مع البواب فيها تعليمات واضحة بأن يتواجد في بيت عبد الحكيم عامر الساعة الحادية عشرة و أوصى البواب أن يسلم الرسالة للسادات شخصياً. ثم زار ثروت عكاشة و مجموعة من ضباط سلاح الفرسان الذين أوضحوا له أنه تنقصهم بعض الذخيرة فوعدهم بأنه سيؤمنها لهم. ثم جاءت خيبة الأمل الثانية عندما ذهب الى بيت الضابط المسئول عن توفير الذخيرة فلم يجده في بيته ولم يجد أحداً في البيت. كان الوقت يمضي بسرعة و ساعة الصفر تقترب و جمال عبد الناصر يسابق الزمن فإذا بعسكري مرور يتتبع سيارته و يستوقفه بسبب قيادته لسيارته ليلاً و أضواءها الخلفية لا تعمل. كانت تلك الدقائق مع شرطي المرور امتحان عصيب لتحكم عبد الناصر في أعصابه، فقد تظاهر بأنه لم يكن على عجل من أمره و تعمد أن لا ينظر إلى ساعته حتى لا يثير شكوك الشرطي .. ثم انتهى الأمر على خير. لم يكن ذلك الشرطي يعرف أنه، لدقائق معدودة، كان يتحكم في مصير أمة!

وصل جمال عبد الناصر بيته حوالي الحادية عشر ليلاً و وجد زوجته و أطفالها نيام بينما كان أخويه الليثي و شوقي يستمعان إلى الراديو. كان مرهقاً لكنه فضل أن لا يستريح على الكنبة خشية أن ينام فاخد دوشاً سريعاً و ارتدى بدلته العسكرية. تحدث مع أخويه و أخبرهما بأنه سيقوم بمهمة خطيرة و أعطاهما ٢٠٠ جنيه لتسليمها لزوجته و أوصاهما خيراً بأسرته. ثم سمع دقاً على الباب و كان الطارق النقيب سعد توفيق، أحد الضباط الأحرار الذين يعملون في المخابرات و واحداً من الذين استبعدهم عبد الناصر من الاشتراك في الثورة – فقط بسبب ظروف عمله في المخابرات. كان الضابط منفعلاً و سأل على الفور: هل هناك شيء يجري هذه الليلة؟ فأنكر عبد الناصر، لكن الضابط لم يصدق و قال “ بل هناك شيء بدليل أنك ترتدي البدلة العسكرية لكني ارجوك أن تلغي كل شيء لأن القصر اكتشف الحركة و استنفر قادة الجيش و هم الآن مجتمعون في القيادة العامة“ و أضاف أنه يعرف ذلك لأنه هو ضابط المخابرات المناوب في تلك الليلة. فقال له جمال عبد الناصر قولته المشهورة ”ان العجلة بدأت في الدوران و لا يمكن ايقافها“، ثم طلب منه أن يهدأ و يعود إلى مكان عمله لكن الضابط رفض و ألح في أن يشارك في تنفيذ الثورة فطلب منه عبد الناصر أن يذهب إلى بيته و يرتدي ملابسه العسكرية و يتسلح بمسدس و ينتظره ليصطحبه بسيارته.

كان النقيب سعد توفيق محقاً في هلعه ليقينه بأن كارثةً باتت تُحيق بالضباط الأحرار بعد انكشاف أمر الثورة. كما كان ذلك الضابط متفانياً في وطنيته و صادقاً في إخلاصه عندما خاطر بترك مقر عمله و سعى الى عبد الناصر لعله ينقذ الموقف. كان رد فعل قائد الثورة في ذلك الموقف نموذجاً لطريقة تفكيره و تعامله مع المصاعب، فلم يرتبك لحظة واحدة و استطاع بحدة بصيرته أن يرى من خلال الخطر. رأى أن ذلك التطور الخطير يعني شيئاً واحداً و هو أن ساعة الصفر تغيرت من الواحدة صباحاً لتصبح فوراً. أما اجتماع قادة الجيش في القيادة العامة فقد رأي فيه فرصة متنكرة على شكل مصيبة – فهو إذا تحرك فوراً فيمكنه إلقاء القبض على كل القادة المجتمعين بضربة واحدة – عشرون من الطير بحجر واحد!

تحرك بسيارته فوراً و اصطحب معه عبدالحكيم عامر الى معسكرات العباسية و لكن كان القصر اسرع منهم اليها. ثم تذكر عبد الناصر موعده مع النقيب سعد توفيق فاتجه الى حيث كان ينتظره ثم عاد ادراجه نحو مصر الجديدة و كان الوقت قد أصبح بعد منتصف الليل. ثم لاحظوا رتلاً من السيارات العسكرية يتحرك باتجاههم فتساءل عبد الناصر مندهشاً: ”من يكون هؤلاء؟ رجالنا؟ لكن الوقت مبكراً لساعة الصفر“ و أدرك عبدالحكيم عامر أنها الكتيبة ١٣ فقال: هم فعلاً من رجالنا لكنهم أصيبوا بالجنون فتحركوا مبكراً! توقفت إحدى سيارات القافلة بجانبهم و نزل منها ملازم على درجة من الحماس الزائد و قال لعبد الحكيم عامر ”أنت صاغ قف هناك” ثم نظر لعبدالناصر وقال له ”أنت بكباشي فأنت إذاٍ رهن الاعتقال!“ و عندما قال له عبدالناصر أنه يعرف قائدهم صرخ به “انت لا تعرف شيئاً و لا تعرف أي ليلة تعيشها!“. كانت تعليمات عبد الناصر لرجاله أن يعتقلوا كل الضباط برتبة بكباشي أو أعلى و من المفارقات أنه كان أول من تُنَفّذ به تلك التعليمات! من الروايات الشائعة عن هذا الموقف تزعم أن عبد الناصر كان بملابسه المدنية! و منطقياً كيف يعرفون أنه بكباشي لو كان بملابس مدنية؟ ناهيك عن العديد من الصور التي ظهرت له فجر الثورة و هو يرتدي الملابس العسكرية.

ثم نادى أحدهم ”جمال!“ و ما كان المنادي إلا البكباشي يوسف صديق الذي خرج مبكراً بسبب بعض سوء الفهم. كان عبد الناصر قد زار يوسف صديق في النهار و لاحظ سوء حالته الصحية بسبب ازدياد أعراض السل الرئوي الذي كان يعاني منه، فحاول إقناعه بضرورة الاستراحة و عدم الاشتراك في الثورة لكنه رفض رفضاً قاطعاً و أصر أن حالته جيدة و يستطيع المشاركة في الثورة. أوضح له عبد الناصر أن الثورة قد كُشِفَ أمرها و أن عليهم جميعاً التحرك فوراً إلى حيث ينعقد إجتماع كبار قادة الجيش في مبنى القيادة العامة. و فعلاً تحركت القوة إلى القيادة العامة و داهموا المبنى و اقتحموه بعد مقاومة بسيطة و استسلم جميع القادة المجتمعين و سيقوا الى الكلية الحربية حيث تم احتجازهم كل في غرفة منفصلة حسب الخطة الموضوعة. و هكذا نجحت أهم و أخطر خطوة في الثورة و ما جاءت الساعة الواحدة و النصف حتى كان جمال عبد الناصر يجلس على مكتب رئاسة الأركان و يتابع تحركات و نجاحات رجال الثورة في مختلف انحاء القاهرة.

كانت الأخبار تأتي بتأييد متزايد من قطاعات الجيش للثورة، ففي سيناء تمكن صلاح سالم مع أخيه جمال سالم من السيطرة على مركز القيادة في العريش و بالتالي على القوات المسلحة في سيناء. في غضون ذلك دق جرس التلفون و كان المتحدث محمد نجيب و قال ”لقد أبلغني وزير الداخلية عن وجود مشاكل في القاهرة و طلب مني الاستفسار، فما الذي يجري؟“. فعَرَّفه عبد الناصر بنفسه و قال ”لقد تحركنا الليلة و أحكمنا السيطرة على الجيش و على القاهرة“ ثم سأله ”ما هو موقفك؟ هل تريد أن تنضم إلينا؟“ فوافق نجيب. كان عبد الناصر و عامر قد زارا نجيب قُبَيل الثورة و عرضا عليه فكرة تعيينه رئيساً فخرياً لحركتهم فيما لو انضم اليهم، لكنهم لم يطلعوه على نواياهم و لا على خطتهم. كان عبد الناصر قد دعم نجيب في انتخابات نادي الضباط لكن بعد تلك الزيارة ساورته بعض الشكوك في كونه الشخص المناسب ليكون وجه الثورة رغم ثقة عامر به. بعد وصول نجيب إلى مبنى القيادة حوالي الثالثة صباحاً دق جرس التلفون مرة أخرى و كان المتحدث هذه المرة رئيس الوزراء الهلالي فأعطى عبد الناصر سماعة التلفون لمحمد نجيب. كانت المكالمة بطيئة و طويلة، فقد كان رئيس الوزراء يحاول التفاوض لانهاء الأزمة و كان كلما اقترح شيئاً يستأذنه نجيب في الانتظار ثم يعطيه الإجابة التي سمعها من عبد الناصر و عامر. ثم عرض الهلالي أن يتخلص من بعض الشخصيات غير المرغوب بها و إجراء تعديلات في حكومته و أن يجعله وزيراً للحربية .. و هنا نظر نجيب لعبد الناصر و عامر بانتظار إجابتهما فقالا له أرفض .. فرفض.

ثم وصل إلى مبنى القيادة علي صبري و دخل لمقابلة عبدالناصر الذي كان أرسل اليه. كان عبد لناصر يعرف أن علي صبري تربطه علاقة صداقة مع موظف في السفارة الأمريكية و أراد أن يعرف أن كانت العلاقة لا تزال قائمة. و عندما أجاب بالايجاب طلب منه عبد الناصر ان يذهب فوراً إلى ذلك الصديق و يوقظه من نومه و يبلغة بما حدث في مصر و يؤكد له أن حركة الجيش سلمية و تهدف لإجراء اصلاحات داخلية و لا تهدد مصالح أمريكا و لا مصالح بريطانيا، و أن يطلب منه تبليغ تلك المعلومات للسفارة البريطانية.

وصل السادات متأخراً لمبنى القيادة و بعد أن كان نجاح الثورة قد تأكد و ترسخ ، و كان قد تم توقيفه خارج المبنى لبعض الوقت لعدم معرفته لكلمة السر. في ظل النجاح الساحق للثورة تقرر صرف النظر عن تنفيذ فكرة قطع الاتصالات العسكرية والتي كان المفروض أن يقوم بها السادات (أي ان مسيرة الثورة كانت أفضل من غيره) بل ثبت أن استمرار الاتصالات ساعد في تعزيز نجاح الثوره. بسبب وصوله المتأخر لم هناك شيء ممكن أن يفعله السادات فطلب منه عبد الناصر أن يأخذ بيان الثورة إلى دار الإذاعة لإذاعته في نشرة السابعة صباحاً. طلب السادات من المذيع أن يقرأ البيان بنفسه (و كان معروفاً عنه حبه للظهور المسرحي) و كان له ما طلب و أصبح ذلك الاجراء المسرحي عملاً بطولياً في نظر أنصاره. في تاريخ كل الثورات و الانقلابات كانت ذاكرة الشعوب لا تحتفظ بإسم من يقرأ بيان الثورة إلا عند أنصار السادات!

تلك كانت احداث ليلة الثالث و العشرين من يوليو ١٩٥٢ كما رواها صانع الثورة. بعض تلك الاحداث، مثل تغيب السادات، تثير تساؤلات كثيرة و جديرة بدراسة خاصة، و كذلك الضابط المسئول عن الذخيرة (و الذي لم يذكر الزعيم إسمه لأحد). و كذلك يلاحظ أن جمال عبد الناصر لم يتصل مع محمد نجيب ليعلمه بنجاح الثورة، ربما لفتور حماسه لفكرة تعيين رئيس إسمي أو لأنه كان مشغولاً فأجل ذلك الإجراء الشكلي ليوم آخر. و واضح أن محمد نجيب كان جاهلاً تماماً بخطة الثورة التي انضم اليها فقط بعد أن تأكد نجاحها و لم تبق أمامه خيارات أخرى. و يجدر بالذكر أن علي نجيب، شقيق محمد نجيب، كان من الضباط الذين تم القاء القبض عليهم في تلك الليلة. و ملفت للنظر أيضاً موقف نجيب المتردد عندما عٌرضت عليه وزارة الحربية مما يدل على أنه لم يكن مدركاً لأهداف الثورة و لا متشرباً لمبادئها و أن حافزه للانضمام اليها كان الحصول على ذلك المنصب الفخري الموعود. و في تناقض مع موقف السادات كان دور يوسف صديق مُشَرِّفاً و بطولي لإصراره على المشاركة في الثورة رغم تفاقم مرضة. لم يكن خروج يوسف صديق مبكراً نتيجة علم بالغيب و لا عبقرية عسكرية بل كان نتيجة خطأ و كان (نظرياً) يمكن أن يؤدي الى عواقب سيئة لو تغيرت الظروف، لكنه تصادف أنه جاء في وقت مناسب، أو كما وصفه جمال عبد الناصر ”كان توفيقاً من الله“. هناك الآن من يتاجر في ذلك الموقف لا حباً في يوسف صديق و لا إعجاباً به و لكن لتجريد عبد الناصر من كل انجازاته و الايحاء بأنه كان يصنع لنفسه مجداً شخصياً على أكتاف غيره. بعد لقاء عبد الناصر و يوسف صديق أصبحت الكتيبة ١٣ عملياً تحت قيادة قائد الثورة و قاموا جميعاً باقتحام و احتلال مبنى القيادة بلا مقاومة تذكر و بلا دماء تنزف تماماً كما أراد عبد الناصر و كما خطط و توقع.

(فيديو  في زاوية مختارات)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى