تونس في طريقها لإعادة العلاقات مع سورية

احتفلت الجزائر يوم 5 تموز/يوليو الجاري بالذكرى الستين لاستقلالها، التي لها رمزية تاريخية للشعب الجزائري الذي فجر الثّورة التّحريرية الكبرى في 1نوفمبر 1954،وهي أهم ثورة تحررية راديكالية ضد الاستعمار الفرنسي الذي احتل الجزائر في عام 1830،وطُرِدَ منها في عام 1962.
وشهدت العاصمة الجزائرية بمناسبة الذكرى الـ 60 للاستقلال، عرضًا عسكريًا، أشرف عليه الرئيس عبد المجيد تبون، بحضور قادة دول يتقدمهم رؤساء تونس قيس سعيد، وفلسطين محمود عباس، وإثيوبيا ساهلي وورك زودي، والنيجر محمد بازوم، والكونغو دونيس ساسو نغيسو.
كما حضر الاستعراض رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، وأمين عام جبهة “البوليساريو” إبراهيم غالي، ورئيسة مجلس الشيوخ الإيطالي ماريا اليزابيتا ألبيرتي كازيلاتي، ووزير الرياضة التركي محمد قصاب أوغلو، ووزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش، ووزير التسامح الإماراتي نهيان بن مبارك آل نهيان.
في هذه الاحتفالات بالذكرى الستين لاستقلال الجزائر، أجرى وزير الشؤون الخارجية الجزائري
رمضان لعمامرة،يوم الإربعاء 6تموز الجاري، محادثات ثنائية مع وزير الخارجية السورية الدكتور فيصل المقداد، الذي زارالجزائر للمشاركة في احتفالات الاستقلال الوطني.
ومن المعروف أنَّ الجزائر ستحتضن مؤتمر القمة العربية في شهر نوفمبر القادم، وهي تبذل مساعي كبيرة لإقناع الدول العربية بمشاركة دمشق في هذه القمة المقبلة ،وهو الأمر الذي يصطدم برفض عدد من الدول العربية التي لا تريد أن تصطدم مع الموقف الأمريكي الرافض لعودة سورية إلى شغل مقعدها في جامعة الدول العربية.
لكنَ الحدث الأبرز في احتفالات الجزائر بعيد استقلالها الوطني، هو اللقاء الذي عُقِدَ بين الدكتور فيصل المقداد على هامش وجوده في الجزائر مع الرئيس التونسي قيس سعيَّدْ، إذ قال بيان صادر عن الخارجية السورية، إنه “على هامش احتفالات ذكرى الاستقلال التقى الدكتور المقداد مع رئيس الجمهورية التونسية قيس سعيد الذي طلب من الوزير المقداد نقل تحياته إلى السيد الرئيس بشار الأسد.. وأوضح أن الإنجازات التي حققتها سوريا وكذلك الخطوات التي حققها الشعب التونسي ضد قوى الظلام والتخلف تتكامل مع بعضها لتحقيق الأهداف المشتركة للشعبين الشقيقين في سورية وتونس “.
ويُعَدُّ لقاء المقداد وسعيد ثاني لقاء بين مسؤول من الحكومة السورية ومسؤول تونسي منذ تلك الفترة، إذ كان المقداد قد التقى وزير الخارجية التونسي عثمان الجرندي في أغسطس/آب 2021.
التطبيع بين تونس ودمشق أمام ساعة الحقيقة
مع توافد الوفود التونسية لزيارة سورية ،بدءًا من الوفد الكبير للاتحاد العام التونسي للشغل الذي زار دمشق في شهر تموز 2017، ولقائه مع الرئيس بشار الأسد،مرورًا بالزيارات العديدة لوفود نيابية تونسية،لدمشق،ولقائها مع مسؤولين سوريين ،وكذلك مع الرئيس بشار الأسد،كانت كل الإشارات تؤكد أنَّ عودة العلاقات التونسية -السورية باتت قريبةً.
ومع نهاية عام 2018 حطت طائرة “أجنحة الشام” في أول رحلة طيران قادمة من دمشق إلى مدينة المنستير منذ أوائل عام 2011، و قد شهدت مواقع التواصل الاجتماعي تفاعلاً  مثيرًا بين التونسيين ترحيبًا بالحدث .مائة وخمسون سائحًا سوريًا اختاروا قضاء عطلة نهاية العام في أحضان تونس إذ ورغم القطيعة الديبلوماسية التي استمرت سبع سنوات بين البلدين فإنَّها لم تمتد إلى التونسيين والسوريين الذين تتجاوز علاقاتهم الإنسانية كل الحدود الجغرافية والخلافات الحكومية..
وعلى الرغم من هذه المبادرة المهمة للوفد السياحي السوري الذي حملته “أجنحة الشام” إلى مطار المنستير ،والتي لاقت ترحابًا كبيرًا من الشعب التونسي ،و تفاعلاً إيجابيًا جدًا من مكونات المجتمع المدني ،فإنً رئيس الدولة التونسية الراحل الباجي قائد السبسي لم يتخذ قرارًا بإعادة العلاقات الديبلوماسية كاملة مع سورية مع مطلع 2019،وتعيين سفير تونسي جديد في دمشق ، وتوجيه الدعوة بشكل رسمي للرئيس بشار الأسد لكي يحضر أعمال القمة العربية الثلاثين التي عقدت في تونس في أواخر شهر مارس2019.
مع وصول الرئيس قيس سعيَّدْ إلى قصر قرطاج عقب الانتخابات الرئاسية في عام 2019،كان السؤال المطروح تونسيًا وعربيًا ،هل يمتلك الرئيس سعيَّدْ استراتيجية وطنية وفكر سياسي راديكالي لتحويل الدولة الوطنية التونسية من موقع خاضع للسيادة الرأسمالية الأوروبية -الأمريكية إلى موقع متمرد على هذه السيادة، وإعادة فتح الحقل التاريخي العربي المقاوم للمشروع الإمبريالي الأمريكي والمشروع الصهيوني ،لا سيما أنَّ إعادة بناء الدولة الوطنية الديمقراطية التعددية في تونس هو التحول إلى ثورة وطنية جذرية قادة على التحررو الانعتاق كليًا من الحقل السيادي للهيمنةالإمبرياليةالغربية الأوروبية والأمريكية.
فهل يستطيع الرئيس التونسي الجديد قيس سعيد قيادة حركة التمرد على السيادة الأمريكية-الأوروبية المهيمنة على الدولة الوطنية التونسية في عصر العولمة الليبرالية المتوحشة، وقطع حبل الولادة السرّي الذي يربط الدولة الوطنية التونسية بالحقل السيادي الأوروبي -الأمريكي ،وتحقيق السيادةالوطنية للدولة التونسية ، لكي تصبح تونس نموذجًا يحتذى به في تحقيق إعادة بناء الوطنية الديمقراطية التعددية؟
فالمعنى التاريخي الحقيقي للسيادة الوطنية من وجهة نظر الثورة التونسية التي تريد تجسيد القطيعة الثورية مع منظومة الحكم الفاسدة التي حكمت طيلة العشرية السوداء (2011-2021)، هو تموقع وانعتاق الدولة الوطنية التونسية في خيار استراتيجي جديد، على صعيد السياسة الخارجية.
إنَّ المعيار الوطني والقومي الحقيقي لموقف رئيس الجمهورية التونسية د قيس سعيَّدْ،للدفاع عن رؤية جديدة للسياسة الخارجية التونسية ، يتمثل في الموقف من الأزمة السورية ، إذْ أضحتْ سورية بعد عشر سنوات من الحرب ، ساحة للصراع التنافسي بين أطراف إقليمية ودولية.ويُعَدُّ التدخل الإقليمي و الدولي المناصر للحركات الإرهابية و التكفيرية السبب المباشر لإطالة أمد هذه الأزمة، نظرًا لتعارض و تشابك هذه الأطراف مع بقاء الدولة الوطنية السورية، تجلى في الساحة السورية جسامة الصراعات الداخلية و الإقليمية و الدولية، وخطورتها على فكرة الدولة الوطنية ،ذاتها، وكيانها القانوني والسياسي.
لقد شكل انحياز السلطة التونسية في عهد حكم الترويكا بقيادة حركة النهضة الإسلامية إلى المحور الإقليمي و الدولي المتكون من الدول الخليجية، وتركيا، والدول الغربية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية ، كطرف ضعيف في هذه المعادلات الإقليمية، خطيئة تاريخية كبرى في تاريخ الديبلوماسية التونسية، طيلة مرحلة ما بعد الاستقلال و لغاية ثورة 2011، لجهة إقحام تونس في الشؤون الداخلية لدولة عربية ، والحال هذه سورية، التي تربطها أحسن العلاقات مع تونس في ظل التاريخ المعاصر.
وتعود الأزمة الدبلوماسية بين تونس وسورية إلى مطلع عام 2012 مع إغلاق السفارة التونسية في دمشق في فترة الرئيس التونسي السابق و المؤقت وحكومة الترويكا،وقطع العلاقات الديبلوماسية بين تونس وسورية، واستضافة تونس المؤتمر الأول لما يسمى “أصدقاء سورية”في شهر فبراير2012، و انخراط الحكومة التونسية في المحور الغربي-الصهيوني-التركي –الخليجي ،الذي أصبح يدير الصراع في سورية من أجل إسقاط دولتها الوطنية.
إنّ مراجعة الأداء الدبلوماسي للخارجية التونسية، والقيام بتصحيح تاريخيّ فيه عودة إلى التقاليد التونسية بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان العربية، واتخاذ قراروطني سيادي تونسي من جانب رئيس الدولة قيس سعيد بإعادة العلاقات الديبلوماسية السورية – التونسية كاملة ،يُعَدُّ استجابة حقيقية لمطلب شعبي تونسي،طالبت به مختلف الأحزاب السياسية التونسية على اختلاف مرجعياتها الفكرية والسياسية، إضافة لمنظمات المجتمع المدني وعمودها الفقري الاتحاد العام التونسي للشغل، باستثناء حركة النهضة الإسلامية و المجموعات المتطرفةالتي تدور في فلكها.
خاتمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة:
من الجدير ذكره في هذا الصدد، أنّ تونس لم تقاطع في السابق دبلوماسياً أيّ بلد لاعتبارات داخلية تخص ذلك البلد، فمقاطعة الكيان الصهيوني تعد مسألة طبيعية باعتباره كياناً ااستيطانياً لفلسطين، ومقاطعة جنوب إفريقيا لما كان النظام فيها عنصرياً كانت قراراً إفريقياً بل دولياً، ومقاطعة مصر كانت قراراً من الجامعة العربية.وتشكل عودة العلاقات كاملة مع سورية، خطوة مهمة تعلن فيها تونس ابتعادها عن سياسة الأحلاف وعدم ارتهان مواقفها إلى أي طرف من الأطراف الإقليمية والدولية.
مع هزيمة حركة الإخوان المسلمين و التنظيمات الإرهابية في سورية،وجدت دول عربية في الرئيس الأسد حليفًا مشتركًا ضد حركة الإخوان المسلمين التي ترى فيها تهديدًا على استمرارية معظم الأنظمة الوراثية في الخليج. ومن هذا المنطلق بدأت الدول الخليجية بالتعاون مع الرئيس الأسد لتخفيف تأثير الرئيس رجب طيب أردوغان، الداعم التقليدي للإخوان المسلمين في كل الوطن العربي، والذي لا يخفي طموحاته في السيطرة الإقليمية على العديد من البلدان العربية مثل ليبيا وتونس ،من خلال ولاء الحركات الإسلامية الحاكمة في البلدين كليهما للسلطان العثماني الجديد . ويريد السعوديون والإماراتيون المشاركة في عمليات الإعمار والتعاون الأمني مع الأجهزة الأمنية السورية من أجل احتواء الخطر الإسلاموي في بلادهم، واستخدام الدعم المالي لإعادة إعمار سورية كورقة نفوذ ضد التأثير الإيراني في المنطقة العربية.
كل المؤشرات و الوقائع في المنطقة العربية تؤكَّدان أنَّ عزلة الدولة الوطنية السورية انتهت عربيًا، لكنَّ هذا لا يترجم لمكاسب على صعيد إعادة الإعمار من جانب الدول الخليجية التي تملك المال الوفير،فلا تزال إعادة الإعمار في سورية،تصطدم بموقف إدارة بايدن التي ترفض في الوقت الحاضر رفع العقوبات التي فرضتها إدارة ترامب السابقة على سورية بناء على قانون قيصر، ما يسمح بعودة الاستثمارات. فسوريا في حاجةٍ ماسَّةٍ إلى الأموال والاستثمارات الأجنبية، لكسر الحصار وتنشيط الاقتصاد، والشروع بمرحلة إعادة الإعمار، خاصة أنَّ إيران غير قادرة على إعادة الإعمار في سوريا، كما أن روسيا ليست لديها الرغبة بتحمل المسؤولية، والصين غير جاهزة لتحمل هذا العبء ،الأمر الذي عزَّز القناعة لدى السوريين للبحث عن مصادر تمويل أخرى لإعادة الإعمار، مع إدراكٍ للدولة السورية أنَّ الدول الخليجية هي وحدها التي تستطيع الحصول على استثناءات ولو محدودة من العقوبات الأمريكية، كما حصل مع الأردن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى