شاءت الأديبة القاصّة المبدعة السيدة إنصاف حسن قلعجي، بعد إصدارها ست مجموعات قصصية منذ العام 1987 حتى العام 2014، وبعد عملها محررة ثقافية ومشرفة على صفحات ثقافية في مجلة (فرح) النسائية بعمّان، وكاتبة مقالات أدبية في صحيفة (المجد) الأسبوعية الأردنية لسنوات عدة، أن تلِج ميداناً آخر من ميادين الأدب هو ميدان ما يمكن وصفه بـ «القراءة الثقافية» لنتاج واحد من أهم الشعراء العراقيين والعرب، هو الشاعر الكبير حميد سعيد، الذي عُرف بموقعه المميّز في الساحتين الشعرية والثقافية منذ ستينيات القرن الفائت حتى اليوم.
ذلك؛ إن السيدة القاصّة إنصاف قلعجي «صنعت» بقدرة ثقافية عالية ومحبة كبيرة ووعي إنساني فريد، كتابها (تطواف في حدائق الموريسكي)، من نسيج من قراءة شخصية متأنيّة بعيدة عن مناهج النقد الحديث المعروفة وقريبة منها في آن، إذا ما أخذنا بالحسبان عدم رغبتها في ولوج ميدان النقد الأدبي ـ مثلما قررت في مقدمة كتابها هذا ـ من جانب، والتقاطاتها الذكية لنصوص الشاعر وقراءتها لها بعمق مع إضاءة ما رغبت في إضاءته من مداليلها العميقة، على وفق نظريات التلقي ومنهج النقد الثقافي من جانب آخر، التي لم تُشر إليها أو تتبجّح بالإفصاح عنها، ما دامت أرادت لكتابها ـ باختيارها ـ أن يكون «تطوافاً» أوّلاً، و»في حدائق الموريسكي»/ الشاعر لا في حرائقه واشتعالاته، ولهذا مداليل قد تبدو غائبة أو قصدت تغييبها ابتعاداً بكتابها عن عدِّه كتاباً نقدياً ككتب النقد المعروفة.
هو «تطواف» لأنها أرادت منه أن يكون هكذا بلا جدال، وهو «في حدائق الموريسكي»، الموريسكي ـ العربي ـ المسلم الخارج مطروداً من جنّات قرطبة وغرناطة، الذي اتخذ منه الشاعر حميد سعيد قناعاً منذ اختار عنوان (من أوراق الموريسكي) لديوانه الثالث عشر، لتجعل السيدة إنصاف من هذا التطواف في حدائق الموريسكي ( نصوصه الشعرية) أمراً مُغرياً للقراءة والمتابعة من جهة المتلقي، وتأسية لنفسها وللشاعر من جهة ثانية، في محنة ابتعاده عن بيته ووطن طفولته وصباه وشبابه، بعد احتلال العراق بهمجية ووحشية مطلع سنة 2003، واضطراره للرحيل عن بساتينه وحدائقه ـ بل حتى عن حديقة بيته العائلي ـ مكرهاً، وإن وجد في العاصمة الأردنية (عمّان) بيته الثاني ومستقرّهالأقرب إلى نفسه في شيخوخته.
ففي الصفحتين الخامسة والسادسة من الكتاب، تكتب المبدعة إنصاف قلعجي :»فأن تكتب عن حميد سعيد، يعني أن تضع أصابعك في جمر حرائقه واشتعالاته، وتدخل في أزقّة لا تعرف لها خروجاً، وفضاءات تبهرك بنورها وتوهجها، ففي كل ركن اعتزل فيه، وما كانت عزلة بقدر ما كانت ضجيج الروح، ترى بحدْسك أشخاصاً ومقاهيَ بغداد ووجوهاً من الحلّة وقادة عسكريين ومدناً صاخبة وأنهاراً وصيادين وطفلاً يضجّ بالأسئلة في طرقات الحلة، وجوهاً تحسّها دون أن تراها، فحركة الحياة هناك مستمرة في ذاكرة هذا الموريسكي الذي لا يتعب…»، أي إن السيدة إنصاف فرضت على نفسها أوّلاً أن يكون تطوافها ـ على الرغم من كثرة الحرائق التي ستصادفها ـ مقتصراً على ما يبتعد بها وبقارئها عن لهيب النار، ويتحوّل إلى جولات تُغنيها ـ بإصرار مدهش ـ بعبق نسائم الشعر وعطور المعارف وحلاوة الملامح الثقافية، التي تجعل من قراءتها للنصوص الشعرية الكثيرة التي توقفت عليها في دواوين حميد سعيدحتى (ما تأخّر من القول)، متعة وإثراءً لفهم أقرب لهذه النصوص، وقد فعلت هذا بمقدرة أديبة واسعة الثقافة ومتعددة المعارف، مثلما سينفتح أمام قارئها هذا كلما واصل القراءة/ أو التطواف رفقتها في صفحات الكتاب.
ومن جميل ما يستوقف المتلقي في هذا الكتاب؛ إن المؤلفة المبدعة تتخذ من مؤلفات الشاعر حميد سعيد النثرية، ومنها كتابه (المكان في تضاريس الذاكرة/ عمّان 2008)، وسيلة لتعزيز قراءتها الشخصية للنصوص الشعرية، بل تبدو مشاركة له في الدخول إلى عالمه الشعري وشؤونه الحياتية ومدى تعلقه مع الهم الشعري، أحد أكبر همومه بعد همّ ابتعاده القسري عن وطنه الأول، إذ لكي تقرأ قصيدته (عن القصيدة) مثلاً، تقتنص من كتابه المذكور :»يا لهذه المخلوقة الجميلة النافرة، كلما أسكنتها في بيت الطاعة، تمرّدت واختارت الغياب، فإن رضيت بغيابها، أطلّت بسحرها وأدخلتكفي حرائقها»، لتتنبّه وتُنبّه المتلقي على ما في عبارات الشاعر النثرية ونصّه من وشائج، فتذكر :»إنه الحوار الصامت، والمعركة التي لا تنتهي بين القصيدة وحميد، وتروح تُضيء مكامن هذا الحوار وهذه المعركة بمزيد من القراءة ومن الإحساس النبيل بما انطوى عليه النص، بأسلوب المشارك لا القارئ العابر.
ولقد تبدو المبدعة إنصاف قلعجي في مواضع كثيرة وثيقة الصلة بروح الشعر، مثلما نراها افتتحت الفصل الثالث من الكتاب هكذا :»هو تطفّل على هذا الموريسكي الجميل…/ هو استراق النظر والسمع على حروف محمّلة بالجمر؟…/ مثقلٌ أنت يا حميد بعبق التاريخ وعبْ الجغرافيا؟…»، لتروح تلاحق الشاعر منذ طفولته وصباه وما عاشه منهما وتعلّمه فيهما من فنون ومعارف مختلفة، أغانٍ وقراءات دينية حافلة بالشجن، وتتبّع لفنون تشكيلية وحكايات تراثية، لتمرّ على أهم ما أنجزه في دواوينه الشعرية، ولاسيما في المرحلة الإسبانية من حياته، عندما تم تعيينه مستشاراً ثقافياً في العاصمة الإسبانية وكتب هناك عدداً من أهم قصائده، ومنه قصيدة (ماريسا التي لا تتعب)، التي استعارت منها السيدة إنصاف عنوان فصل كتابها هذا، لتخلص إلى أن حميداً :»ما كان أسير التاريخ الإسباني الجميل، ولم يقف على الأطلال باكياً، ولم يكن مستلَباً أمام حضارةٍ تواجهه….، لقد تشبّع حميد بروح إسبانيا، تاريخاً وحاضراً، وتشبّع بروح كتّابها وفنانيها، وعاش التجربة بكل تفاصيلها»(ص 27).
وعندما تتوقف الأديبة المبدعة المنصفة إنصاف قلعجي في الفصل الرابع من كتابها (محاورات حميد سعيد في «أولئك أصحابي»)، تكتب عن الديوان :»برشاقة (التانغو) وحميميته، تتحرك الشخصيات الروائية وتذوب في عالم حميد الشعري، كأن كل شخصية تتأبّطه ليُحاور تفاصيلها التي شدّته إليها، ومن ةخلالها يتنفّس حميد سعيد بعمق الوجع، فتكون نافذة لبثّ أوجاعه واغترابه عبر مساحات تمتد بين الأرض والذاكرة الحيّة، ويكون دجلة والفرات يمثلان صخب الماء وتجلّياته، فيلجأ حميد إلى لغة الحوار مع الشخصيات التي اختارها وكأنها قريبة جداً منه» (ص38)، فإذ تُطيل الوقوفعلى قصيدة (يسأل عوليس.. إلى أين سأمضي)، وما ضمّنها الشاعر من تواشج بين بغداده ومدينة عوليس الأسطورية (إيثاكا)، تُطلق لنفسها عنان الثقافة الأدبية العالية التي تمتلكها لتعزز بها قراءتها لهذه القصيدة، فتأخذ بتبيين ما ألهمته هذه الأسطورة لكثير من الشعراء والكتّاب والروائيين العالميين، مستعيرة من الشاعر الإسكندري الشهير قسطنطين كافافي نصّاً جميلاً، ومما كتبه الكاتب المغربي أحمد بوزفور على غلاف رواية (الإبحار إلى إيثاكا)للكاتب المغربي عمرو القاضي :»إنّ لكل منّا إيثاكاه.. والحياة هي إبحار نحو هذه الإيثاكا، ولا ندرك إلا في آخر الحياة أن إيثاكا وراءنا لا أمامنا، إيثاكا ليست مرفأ نرسو عليه، بل هي الماء الأزرق الذي نُبحر فيه…» (ص55)، وكذلك تفعل مع بقية الشخصيات الروائية التي اختارها حميد سعيد لنصوص ديوانه هذا، فلا تترك أية شخصية منها من دون أن تبحث عن أسرارها وما كانته في كل رواية، لكي لا تبدو قراءتها لنصوص الديوان مجرّد قراءة لسطوحها أو الظاهر من مداليلها.
وفي الفصل السادس/ الأخير من هذا التطواف الجميل (إطلالة عبر شبابيك حميد سعيد الجديدة)، تأخذنا الكاتبة إلى عالم آخر من عوالم الشاعر، هو عالم المسرحية الذي دخله عبر ثلاث مسرحيات وجدت فيها الكاتبة ما أغنت قراءتها لها بمزيد من العمق والاهتمام والأبعاد الثقافية المفيدة، فهي إذ تلتقط «ثيمة» النوافذ في إحدى هذه المسرحيات، لا تكتفي بتحليلها بل ترجع إلى ما سبق للشاعر أن اتخذه من مداليلها في بعض نصوصه الشعرية، قبل أن تنقل عن الشاعر الفرنسي (بودلير) ما ذكره بشأنها في إحدى قصائده النثرية :»إن النافذة هي مرآة النفس، وهي عيون المنازل… فليس ثمة شيء يفوق نافذة تضيئها شمعة في العمق والغموض والخصب والإبهام والروعة معاً… ففي هذه الفجوة المظلمة أو المضيئة تحيا الحياة، تحلم الحياة، تتعذّب الحياة» (ص89)، ثم تنقل عن الكاتب البرتغالي (ألفونسو كروش) نصاً مما أورده في روايته (هيا نشترِ شاعراً)، يفيد بأن «الشاعر ـ في الرواية ـ يكتب على الجدار تحت الدرج، مكان نومه، جملة تقول «كيف للبحر الكبير جداً أن تحتويه نافذة صغيرة جداً»، ثم تنقل عنه :»النافذة هي النافذة، ولكن النافذة هي عصفور يطير، هي حقيقة أكثر عمقاً، أبعد من الزجاج، شيء أبعد من تعريف المعجم ولكن، جزء منها يمكن كتابته، وإن للحظة عابرة. النافذة أكثر من شيء» (ص90).
أخيراً؛ يمكن أن أستعيد لتحية الكاتبة الأديبة القاصة إنصاف قلعجي، عبارة سبق أن قالها ناقدنا الكبير، الأستاذ الدكتور علي جواد الطاهر رحمه الله، بعد قراءته لرواية مبكّرة أنجزها أحد روائيينا أعجبته فكتب مقالة مطوّلة عنها :»أشكرك يا بُنيّ، لأن روايتك لم تُمتعني فقط، بل دفعتني لكتابة المقالة عنها، وقلّما تدفعني رواية أو كتاب للكتابة، إلا أن تكون أو يكون مما دخل في دائرة إعجابي»… وهذا بعض ما فعلت.