لهذه الأسباب تناسى (إيهود براك) هزيمة جيشه في لبنان سنة 2000

بقلم: أحمد أشقر

“عليه زأرت الأشبالُ
وأطلقت أصواتَها
وجعلت أرضَهُ دماراً
ومدنه احترقت فلا ساكن فيها”. (مراثي يِرِمْياهو 2: 14)

يكتسب تقدير حال دولة إسرائيل ومستعمريها الذي نشره رئيس حكومتها ووزير حربها السابق، (إيهود براك)، في الثامن من شهر أيار 2022 في موقع (ynet) أهمية قصوى، وهذا لا يرجع فقط إلى كونه يخلط الأسطورة بالواقع المعيش كحال سائر الجماعة اليهودية في العالم؛ أو حديثه عن كيانيّن يهوديّين لم يتمّ كل واحد منهما في البقاء أكثر من ثمانية عقود واندثرا؛ أو القلق الظاهر من أن لا تتمّ إسرائيل هي الأخرى عقدها الثامن (وبهذا الأمر وجهة نظر بالمنهج الخلدوني)؛ أو دعوته الكيان لرفع مستوى ومنسوب قمعه ‒السافر والمستتر‒ للعرب الذي يتصاعد يوميّا سواء بقواه الخشنة والناعمة، وإنما ترجع أهمية ما صرح به (براك) لكونه وزير الحرب “العبقري، والشجاع والماكر”‒ كما وصفه (أوري ميليشطاين) مؤرخ الجيش و”المفكر الإستراتيجي”‒ الذي اضطر إلى سحب جيش كيانه من جنوب لبنان والهرب منه ليلاً دون أن يتمكن من إيجاد غلام واحد من بين القابعين في مغاور المختارة، معراب أو بكركي وما أكثرهم، للتفاهم مع جيشه وكيانه. فقد تحدث العجوز، أي (براك) ابن العقد الثامن من عمره، عن خرافات تعود إلى 3500 سنة خلت وأحداث جرت في السبعين سنة الاخيرة، لكنه ‘فَشَّق’ أو تناسى ما كان شاهداً عليه وقام به قبل 22 سنة وأسبوعين، في الخامس والعشرين من أيار 2000 عندما قاد انسحاب جيشه ليلاً دون عِلم إحدى كتائبه المتقدمة المتمثلة بوسائل الإعلام التي تكثر من النباح كالكلاب المسعورة على العرب وتهديدهم بـ”عدّ الجثث”.
في سياق تصاعد القمع الإسرائيلي ضد عرب فلسطين حذّر كل من عضوي الكنيسيت الحالييّن والوزيرين السابقين، (يسرءل كاتس) و(يؤاف جلانط)، العرب من اقتراف نكبة ثانية بحقهم على خلفيّة قيام الطلبة العرب في جامعتي (تل أبيب) و(بن جوريون) برفع الأعلام الفلسطينية بالذكرى الرابعة والسبعين للنكبة في أيار 2022. وما مسلسلات القمع من قبل الجيش والشرطة، ومحكمة العدل العليا في آخر قرار لها القاضي بتهجير حوالي ألف عربي من مسافر يطّا، المتواصلة والمستمرة على مدار الساعة في كل بقعة في فلسطين إلا تصعيداً للقمع الذي تحدث (براك) عن ضرورته (كتبت أكثر من مرّة عن التهديدات اليهودية باقتراف نكبة أخرى ضدّ عرب فلسطين).
يمكن الاتفاق مع (براك) على العديد من النقاط التي ذكرها مثل: التحديات التي تواجه كيانه من تنامي شدّة المقاومة بالصواريخ المختلفة والدقيقة؛ والتموضع الإيراني في هضبة الجولان الذي خطط له كيانه أن تكون منطقة عازلة (مثل جنوب لبنان سنة 1982، حيث فشلت خطة بن جوريون بإقامة منطقة عازلة والتحالف مع الأطراف)؛ وإمكانيّة تحول إيران إلى “دولة حافة نووية” (بالمناسبة: هل هناك من يعتقد بأن أصحاب “قرآن الفُرس” فرّطوا يوماً بمصالحهم؟)، لكن لا يمكن الاتفاق مع تحذير (براك) من حرب أهليّة بين اليهود في كيانه، لأن اليهودي الذي يعمل في شركة عابرة للقارات ولديه ممتلكات في دول أخرى ويملك سفطة جوازات سفر لن يطلق النار على جاره اليهودي، بل سيهرب إلى شركة أخرى. في هذا السياق، أعتقد أن اليهود الذين يحذرون من حرب أهلية، يرمونها طعماً للإعلام العربي‒ الذي يعمل بعضه بالسخرة عند كيانهم‒ ويتحدث عن حرب أهلية بينهم، لـ’يطمئن’ مستمعيه الكسولين الذين لا يميّزون- للأسف- بين الزواجة والجنازة، (أو بين الناقة والبعير كما قال معاوية بن أبي سفيان عن مؤيديه في سياق صراعه ضد علي بن أبي طالب). نعم، إن الحديث عن الحرب الأهلية تعتبر طُعماً للعرب يتسلون به، وبما أن النخب والإعلام اليهودي يعي مدى نهم العرب وإعلامهم لمثل هذه الطعوم فإنهم يكثرون منها في كل مناسبة ممكنة. بالمناسبة: لا علاقة للحرب الأهليّة بتوصيف السيّد حسن أن إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت، لأن السيّد حسن أطلق هذا الوصف في سياق المقاومة التي يقف على رأسها- وليس في سياق الناشطين الذين يُغرقون شاشات الفضائيات بتحليلات كاريكاتوريّة عن الحالة الإسرائيلية.
يكتسب تقدير موقف (براك) أهمية كبرى لأنه يُعتبر ‒ وفقاً للإعلام الإسرائيلي ونخبة الجيش في تاريخ الكيان ‒ مفكرا استراتيجيا ورجل أعمال ناجحا وعسكريا لامعا (على ما يبدو لأنه شارك باغتيال العديد من الشخصيات الفلسطينية). لكن هذا الإعلام يقلل من أهميّة علاقاته مع المؤسسة الأمنيّة- العسكريّة الأمريكية، التي عاش بينها عدّة أشهر بعدما أنهى مهامه كقائد أركان في بداية سنة 1995 لتجهيزه للدخول إلى عالم السياسة. لذا يمكن القول إنه كتب تقدير موقفه كصدى لتقرير الـ(C.I.A) من سنة 2009- كما سنرى لاحقاً- وقلما أشار الإعلام إلى علاقاته الخاصة بالمليونير الأمريكي الفاسد، (جيفري أبستين)، الذي امتهن الاعتداء على القاصرات واغتصابهن وقيل إنه انتحر أثناء اعتقاله سنة 2019، بينما الأرجح أن شركاءه من الفاسدين مثله أقدموا على تصفيته داخل السجن كي لا يكشفهم. كما يمكن القول إن (براك) هو من أهم قادة إسرائيل الذين يدركون المصالح الأمريكية في المنطقة. بهذا يكون الوريث الأمين على تراث حزب (المعراخ/ العمل) الإسرائيلي في هذه الجزئية تحديداً (بإمكان أصحاب الذاكرة الخصبة العودة إلى فترتي حكم كلاً من (رابين) و(شامير) للوقوف على سنوات الهدوء والتوتر مع المصالح الأمريكية).
بات من المعروف أن إسرائيل اضطرت لسحب جيشها من جنوب لبنان المحتل في آيار 2000 أثناء ولاية (براك) على وزارة العدوان، دون أن تتمكن من التفاهم على الإنسحاب مع أي طرف في السلطة أو عملائها اللبنانيين (كانت المقاومة خارج هذه الحسابات). الأمر الذي يؤكد أن إسرائيل عجزت عن الاستمرار باحتلال الجنوب، وأن قادم الأيّام والأحوال سيكون أكثر سوءاً كما أكدت أحداث عدوان تموز 2006، التي وصف (بريجينسكي) نتائجها كمؤشر على نهاية إسرائيل. وجاء في تقرير موازٍ أعده (البنتاجون) حول ثرثرات تقرير (فينوجراد، 2008) أن الجيش الإسرائيلي وحده لا يمكنه الانتصار في حرب قادمة. بعد عدوان 2006 توقفت إسرائيل عن مواصلة العدوان وشنّ الحروب على لبنان متى شاءت، حتى عندما هاجم حزب الله في كانون الثاني سنة 2015 قافلة عسكرية إسرائيلية في مزارع شبعا قتل خلالها أربعة جنود وجرح تسعة آخرين ودمر عدد من الآليات. وقد كتبت مقالاً على إثر ذلك بعنوان (لم يَعُد بإمكان جيش الكيان الصهيوني شنّ عدوان متى شاء [على لبنان]). وفي الثامن من شهر أيّار 2019 قامت سورية بإطلاق 55 صاروخاً إلى الجولان المحتل (…). وصمتت إسرائيل التي اعتادت على الردّ العسكري على كل صبيّ فلسطيني يحمل سكينة لتقطيع الخضار. وفي الخامس والعشرين من شهر آب من السنة ذاتها، ورداً على استهداف مُسيّرتين إسرائيليتين فوق الضاحية الجنوبية أسقطهما حزب الله دون أن تنفجرا بهدفيهما، أعلن السيّد حسن نصر الله عن قرار الحزب بإسقاط أية طائرة مسيّرة تدخل الأجواء اللبنانية. وفعلاً قام الحزب بعد أسبوعين، في التاسع من شهر أيلول 2019 بالاستيلاء على مسيّرة إسرائيلية دخلت المجال الجوي اللبناني. وكما راقبنا لاحقاً موقف إسرائيل من شن الحرب على قضاء غزة بعد معركة سيف القدس 2021.
وبالانسحاب الإسرائيلي من الجنوب دون اتفاق أو تفاهم مع أي طرف لبناني خسرت إسرائيل المنطقة العازلة والبعد الإسترتيجي ليس في مواجهة سوريا فقط، بل وفي إمكانية الفصل بين شقّيّ منطقة الجليل: اللبناني والفلسطيني. لذا تأخذ إسرائيل على محمل الجدّ إعلان حزب الله عن إمكانية تحرير الجليل في معركة قادمة. ولهذا بدأت بالاستعداد لها بشقّ الطرقات وحرق الغابات والأحراش في المنطقة المتاخمة للبنان في شقّي الجليل. هذا هو إرث (براك) الذي توقع انهيار النظام السوري “خلال ثلاثة أسابيع- إلى ثلاثة أشهر” عندما بدأت أمريكا وعملاؤها الخلايجة والمحليّين حربها على الدولة السورية سنة 2011. ويغضب (براك) عندما يواجهه أحد الإعلاميين بهذا الفشل ويقول في حياتي قدمت مئات التقديرات ولم أخطئ إلا هذه المرّة. إلا أنه أخطأ طوال عمره، والدليل هو خشيته من ألا يتمّ كيانه عقده الثامن رغم كل الدعم الغربي والعربي وقمعه للقوى العربيّة التي ترفض وجوده.
باتت الأزمة الوجودية التي يتحدث عنها (براك) واقعاً بفعل المقاومة التي بدأها وطورها حزب الله في إطار إقليمي من لبنان- سوريا- إيران- اليمن وأخيراً قضاء غزّة، ولن ننسى روسيا التي تطوّرت علاقاتها مع محور المقاومة على خلفيّة صمود سوريا وعودتها إلى المياه الدافئة في المتوسط وخلافاتها الآخذة بالإتساع مع إسرائيل نتيجة الحرب على أوكرانيا (سأنشر قريباً مقالاً مفصلاً عن هذا الموضوع). هذه الخلافات من شأنها أن تغدو إستراتيجيّة روسيّة مستقبلاً بسبب ارتباط إسرائيل بحبل سرّة أعدائها. فكلنا يعلم أن روسيا سمحت لسوريا بتزويد المقاومة في غزة بصواريخ (سكاد) استخدمتها في معركة سيف القدس، و(ستريلا) المضادة للطائرات التي استخدمتها المقاومة ليلة التاسع عشر من آيار 2022، كما أنها سمحت لإيران بتسليح حزب الله بصواريخ (ياخوند) المضادة للسفن، (فصاروخ حزب الله على البارجة الإسرائيلية في المتوسط في حزيران 2006 لا يزال ماثلاً أمام كل إسرائيلي والعالم). باتت روسيا تدرك أن صمود الدولة والنظام في سوريا بمساعدة حزب الله وإيران هو تحوّل نوعي وإستراتيجي في ميزان القوى وهذا ما ظهر بمبادرة محور المقاومة (أو “حلف القدس” كما أسماه السيّد حسن في معركة سيف القدس أيار 2021) بشنّ حرب على الكيان. وقد أسهم هذا بإطمئنان روسيا عندما أعلنت الحرب على أحادية القطب الأمريكي في الميدان الأوكراني. وهذا ما يدركه العسكري والمفكر الإستراتيجي (براك)، ويعرف خباياه وتداعياته بدقة متناهية. بهذا أصبحت المقاومة التي بدأت في لبنان تحاصر إسرائيل من كل جانب. كما أن معركة سيف القدس أعادت الوعي بالصراع إلى المربع الأول: فلسطين الانتدابية من البحر إلى النهر؛ عكا، حيفا، يافا، اللد والرملة هي مدن عربيّة- وليس مختلطة.
كما ذكرت أعلاه يمكن القول إن (براك) الذي يحتفظ بعلاقات وطيدة جداً بالمؤسسات الأمنية، العسكرية والسياسيّة الأمريكية، والذي يتفهم ويتماشى مع مصالحها كتب تقدير موقفه كصدى واستجابة لتقرير وكالة الاستخبارات الأمريكية(CIA) الصادر سنة 2009 والمعنون بـ”الاستعداد لشرقٍ أوسطيٍّ بعد إسرائيل”، والتقرير مكون من 82 صفحة شارك في إعداده 16 وكالة استخبارات أميركية تبلغ ميزانيتها 70 مليار دولار؛ هذا التقرير توقع اختفاء إسرائيل سنة 2022. وفي أيلول 2012، صرّح وزير الخارجية الأميركي الأسبق (هنري كيسنجر)، بأن إسرائيل لن تكون موجودة بعد 10 سنوات. في حينه لم تَحتجّ إسرائيل على ما ورد في التقرير وأقوال كيسنجر.
بناءً على ما تقدم يمكن القول أن زوال إسرائيل لن يتم في الفترة المذكورة وما من أحد يمكنه التنبؤ بتسونامي كهذا. لكنّ- وهذا هو الأهمّ- إن تقريري (البنتاجون، 2006) ووكالات الاستخبارات الأمريكية سنة 2009 وتحليلات (بريجينسكي 2006) و(كيسنجر 2012) لا تتحدث عن أزمة ستمرّ بها إسرائيل وضرورة إنقاذها، بل تتحدث عن زوالها لأنها أدت دورها مقابل أثمان وأجور باهظة دفعتها أمريكا (والغرب) لإسرائيل، واليوم يأتي الخلايجة وبقية العرب ليقدموا خدماتهم بالسخرة لأمريكا والغرب. بكلمات أخرى؛ هذا ما فهمه (براك) من الأمريكان، أو ما قالوه له صراحة: دوركم الوظيفي انتهى!
يكتسب تحليل (‘الحكيم’ كيسنجر) أهمية بالغة خاصة أنه نصح أوكرانيا بالتنازل عن بعض أراضيها لروسيا، ونصح أوروبا بعدم إطالة الحرب مع روسيا لأن العواقب ستكون وخيمة. وباعتبار (كيسنجر) و(بريجنسكي) هما العقل المدبر للسياسة والعلاقات الدوليّة لأمريكا خلال نصف القرن الأخير، علينا أن نصغي للـ’عجوز الحكيم’ عندما يتحدث حتى لو اضطر سامعوه إلى تكرار سماع أقواله المُسجلة عدة مرات لعدم وضوحها بسبب تقدمه في السنّ وتجاوزه من العمر 99 سنة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى