تساءل المراقبون و الخبراء في الشؤون المغاربية عن الأسباب الحقيقية الكامنة وراء تصاعد الأزمة بين الجزائر و إسبانيا خلال الفترة الأخيرة، رغم أنَّ مدريد كانت تعوّل على إقامة تحالفات قوية مع الجزائر، كبلد تراهن عليه في استراتيجيتها على المديين المتوسط والطويل، بالنظر لمكانته الهامة في المغرب العربي وأفريقيا.
ما يزيد في تأكيد هذا المنحى التصاعدي في الأزمة بين الجزائر ومدريد، الهجوم العنيف الذي شنته وكالة الأنباء الرسمية الجزائرية الرسمية يوم الإربعاء 15حزبران/يونيو 2022، ضد وزير الخارجية الإسباني خوسي مانويل ألباريس، إذْ تمَّ وصفه بأنَّه “مؤجج الفتن” و”المتسلل إلى الدبلوماسية” و”الوزير غير الكفء”.
وتضمن تقرير وكالة الأنباء الرسمية التي تديرها الحكومة، انتقادات وتوصيفات حادة لوزير الخارجية الإسباني، في خضم ما وصفها التقرير بـ”أزمة غير مسبوقة” في العلاقات الجزائرية-الإسبانية منذ نحو ثلاثة أشهر.
واعتبر التقرير أن “تنقلات رئيس الدبلوماسية الإسبانية مؤخرا بين مدريد وبروكسل، تثير تساؤلات حول قدرات دبلوماسي لا يليق بهذا البلد المتوسطي الكبير”، مضيفا “نجح هذا الوزير غير الكفء والهاوي بأكاذيبه السخيفة في وضع حكومته محل سخرية، إذ عزلها على مستوى البرلمان وأمام الرأي العام الإسباني، منتهجا سياسة الهروب إلى الأمام”.
ووصف التقرير الجزائري ألباريس بأنه “تسلل إلى الدبلوماسية، ولم يكف قط عن ارتكاب الأخطاء، ويجب أن نعترف له بذلك، تمكن من التلاعب بأحد من أبناء وطنه، زميل في الحزب ووزير خارجية بلده سابقا، الذي هو اليوم على رأس العلاقات الخارجية للاتحاد الأوروبي (جوزيب بوريل)، ضاربا بذلك مصداقية هذه الهيئة القارية البالغة الأهمية، التي أقدمت على نشر بيان لا أساس له ضد الجزائر”، في إشارة إلى البيان الذي صدر عن كل من بوريل وألباريس بشأن الأزمة بين الجزائر ومدريد، بعد قرار الجزائر إلغاء اتفاقية الصداقة وحسن الجوار مع إسبانيا.
تغير موقف إسبانيا من قضية الصحراء لمصلحة المغرب
بشهادة الجميع كانت العلاقات الجزائرية-الإسبانية ممتازة ، لا سيما في بعدها الاقتصادي، لكنَّ العامل الرئيس الذي أسهم في تدهور العلاقات بسرعة مذهلة بين البلدين ،تغير الموقف الإسباني من النزاع في الصحراء، إذْ باتت مدريد تؤيد الطرح المغربي الذي يصر على منح هذا الإقليم الواقع في جنوب المملكة المغربية الحكم الذاتي كحل تاريخي ونهائي لما عُرِفَ بقضية الصحراء الغربية، منذ رحيل الاستعمار الإسباني عنها في عام 1975.
هذا الموقف الإسباني الجديد الذي بات يدعم خيار الحكم الذاتي في النزاع حول الصحراء الغربية، اعتبرته الجزائر “تواطؤاً سياسياً”، وردت عليه باستدعاء سفيرها للتشاور، ولم يعد حتى الآن.ولم تستطع الديبلوماسية سواء من مدريد أو من الجزائر أن تجد تسوية لهذه الأزمة الجديدة بين الجزائر وإسبانيا.
وفي تطور ملفت للغاية ،أقدمت الجزائر في أعقاب اجتماع مجلس الأمن القومي، برئاسة الرئيس عبد المجيد تبون،على إلغاء اتفاقية الصداقة و التعاون مع إسبانيا،التي كانت قد وُقِّعَتْ في الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول 2002.
وأكَّد بيان للرئاسة الجزائرية أنَّ “السلطات الإسبانية باشرت حملة لتبرير الموقف الذي تبنته إزاء الصحراء الغربية، والذي يتنافى مع التزاماتها القانونية والأخلاقية والسياسية”.
واعتبرتْ الرئاسة الجزائرية أنَّ “السلطات الإسبانية تعمل على تكريس سياسة الأمر الواقع الاستعماري باستعمال مبررات زائفة، وهذه السلطات نفسها تتحمل مسؤولية التحول غير المبرر لموقفها منذ تصريحات 18 مارس 2022، التي قدمت الحكومة الاسبانية الحالية من خلالها دعمها الكامل للصيغة غير القانونية وغير المشروعة للحكم الذاتي الداخلي المقترحة من قبل القوة المحتلة”.
وكان لإلغاء هذه الاتفاقية الموقعة بين الجزائر و إسبانيا تداعيات كبيرة ، تمثلتْ في تجميد التعاون بين البلدين بالكامل، في المجالات الأمنية والدفاع والهجرة السرية وتدفقات الهجرة، وفي مجال مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة وتجارة المخدرات والتعاون القضائي، وإلغاء كل الاجتماعات السياسية التي كانت مقررة بين المسؤولين في البلدين وتجميد أطر التعاون الاقتصادي.
من الجانب الجزائري ، اتخذ مفعول إلغاء الاتفاقية أيضًا أبعادًا جديدةً،عبر فرض قرار المقاطعة الاقتصادية ، من خلال منع الجزائر عمليات ا لاستيراد و التصدير من إسبانيا و إليها،بعد قرار الجمعية المهنية للبنوك والمؤسسات المالية (كارتل البنوك الحكومية في الجزائر)، تعليق ومنع كل عمليات توطين بنكي (تغطية مالية(لإجراء عملية تصدير، أو توريد منتجات وسلع من إسبانيا، وهو نوع من الحظر الاقتصادي الذي تتوجه إليه الجزائر في الوقت الحالي إزاء مدريد.
إزاء هذا التصعيد الجزائري ، لا سيما بعد رفض الجزائر إعادة سفيرها إلى مدريد،لا يستبعد الخبراء أن تتجه العلاقات الدبلوماسية المتهورة بين البلدين نحو القطيعة،فالجزائر الآن في موقع قوة وتدافع عن مصالحها الاستراتيجية، وستفعل ما تقتضيه ذلك، حسب قول دبلوماسي جزائري.
وجاءت ردة فعل مدريد، على لسان وزير الخارجية الإسباني خوسيه مانويل ألباريس، الذي أكد، مؤخرًا ، أن الحكومة الإسبانية “ستدافع بقوة” عن مصالحها الوطنية في ضوء قرار الجزائر إلغاء اتفاقية الصداقة و التعاون مع إسبانيا.
وقال: “نحن نحلل نطاق ذلك الإجراء وعواقبه على الصعيدين الوطني والأوروبي بطريقة هادئة وبنّاءة، ولكن أيضاً بحزم في الدفاع عن إسبانيا و مصالح المواطنين الإسبان والشركات الإسبانية”. وأضاف أن إسبانيا تراقب تدفقات الغاز من الجزائر، أكبر مورد لها، التي لم تتأثر في الوقت الحالي بالخلاف الدبلوماسي بين البلدين.
وأعلنت وزيرة الطاقة الإسبانية، تيريزا ريبيرا، في مقابلة مع إذاعة “أوندا سيرو” الإسبانية، أنها واثقة من أن شركة الغاز الجزائرية المملوكة للدولة “سوناطراك” ستحترم عقودها التجارية لتوريد الغاز الطبيعي إلى إسبانيا، على الرغم من الخلاف الدبلوماسي. وقالت: “لا نعتقد أنه يمكن مخالفة (العقود) بشكل أحادي بقرار من الحكومة الجزائرية”.
ومن المعروف أنًّ الجزائر تُعَدُّ أحد المصدرين الرئيسيين للغاز إلى بلدان الاتحاد الأوروبي عبر خط إسبانيا،وبالتالي في ضوء تصاعد الصدام السياسي و الاقتصادي بين الجزائر و إسبانيا ، السؤال الذي يطرحه المحللون، هل سيقود هذا الوضع إلى قطع الجزائر الغاز نهائيًا عن إسبانيا؟
قد لا تقدم الجزائر إلى اتخاذ هذا الإجراء الخطير ، تفاديًا من أن يتحول الصدام الجزائري-الإسباني إلى صدام جزائري -أوروبي، وهذا لا يخدم المصالح الجزائرية،غير أن هناك بعض الآراء تعتبر أنه إذا قررت الجزائر الذهاب إلى نقطة أبعد، تخصّ وقف علاقاتها مع مدريد، فإن توقيف ضخ الغاز يصبح أمراً آلياً، خصوصاً أن الجزائر تحضّرت مسبقاً لهذا السيناريو، عبر التزامها تأمين حاجيات أوروبا من الغاز عبر إيطاليا، بعد اتفاق زيادة الإمدادات الموقع في 11 إبريل/نيسان2022.
الجزائر مستفيدة من الحرب في أوكرانيا
وفي ضوء تداعيات الحرب الروسية-الأوكرانية على صعيد أزمة الطاقة العالمية،فإنَّ إسبانيا ستكون أكبر المتضررين ، فبعد العقوبات الاقتصادية التي فرضها الغرب (أمريكا والاتحاد الأوروبي ) على روسيا،و التي شملت أيضا مبيعات النفط و الغاز الروسي ،حيث من المرجح أن تواجه الأسر والشركات في معظم البلدان الأوروبية ارتفاعًا في أسعار الطاقة بسبب العقوبات المفروضة على النفط و الغاز ، مما سيؤدي إلى زيادة التكلفة الإجمالية للمعيشة في أوروبا، وإجبار الحكومات على إبقاء الإنفاق المالي مرتفعا وزيادة مخاطر الاضطرابات الاجتماعية،من المتوقع الآن أن تعمد الجزائر إلى إقرار مراجعة لأسعار الغاز المبيع إلى إسبانيا، وإخضاعها لأسعار الأسواق الدولية، وهذا لا يلغي السيناريو الأسوأ، وهو قطع إمدادات الغاز، وخصوصاً في ظل أزمة الطاقة العالمية.
ستكون إسبانيا الخاسر الأكبر من السوق الجزائرية الواعدة ، لأنَّ الجزائر تعدُّ الممون الموثوق لإسبانيا في مجال الغاز ، إذْ تزود الجزائر إسبانيا بنحو 40 في المائة من حاجاتها، وسيكون عليها البحث عن مصادر تموين أخرى أكثر كلفة.
لقد جعلت الحرب الروسية الأوكرانية الجزائر رقماً صعبًا في المعادلات الإقليمية و الدولية، بسبب ازمة الطاقة، لأنَّ الحرب الروسية الأوكرانية أثرت على الكثير من السياسات حول العالم، ولكن أبرز ما تؤثر عليه هي سياسات الطاقة العالمية، فمن جهة تسعى الدول المناوئة لروسيا إلى استبدال وارداتها من الطاقة الروسية لتحقيق المزيد من الضغط على بوتين لوقف الحرب، ومن جهة أخرى تحاول العديد من الدول ذات الإنتاج العالي من الطاقة مثل الجزائر الاستفادة من تلك الفرصة على حساب روسيا، التي أمضت عقودًا، في محاولة لاستخدام احتياطياتها من النفط والغاز للاندماج في الاقتصاد الرأسملي العالمي.
و يشهد العالم إعادة ترتيب عالمية مفاجئة لأسواق الطاقة ، إِذْ إِنَّ مصدري النفط والغاز الآخرين الذين لم يكونوا من قبل في مقدمة محادثات الطاقة العالمية -مثل الجزائر وأنغولا ونيجيريا والكونغو- بدؤوا يبرزون أيضا كلاعبين محتملين لمستقبل أوروبا، حيث تتجه الدول الأوروبية التي تسارع لفك اعتمادها على الغاز الروسي إلى مزودي الغاز الطبيعي المسال الأكثر موثوقية، مثل الجزائر وقطر والولايات المتحدة.
لهذه الأسباب مجتمعة، تبدو الجزائر في موقع القوة على صعيد علاقاتها الخارجية مع دول الاتحاد الأوروبي ، إضافة إلى تطور علاقاتها الاقتصادية الاستثمارية و النوعية مع تركيا والصين وروسيا، فضلاً عن علاقاتها المتميزة مع إيطاليا، كشريك موثوق به في الضفة الشمالية للمتوسط، ومنحها الأولوية في العلاقات المتوسطية، واتخاذ روما كمدخل إلى الاتحاد الأوروبي.
لكنَّ الخبراء يرون أنَّ معادلة الجزائر و إسبانيا أطرافها غير متكافئة ، فإسبانيا عضو في أساسي في الاتحاد الأوروبي كتكتل سياسي واقتصادي دولي محكوم بمنطق التضامن بين أعضائه، خصوصاً في القضايا المتعلقة بالأمن الأوروبي المشترك، الذي يحتل فيه أمن الطاقة مكانة محورية، بينما الجزائر تعيش في بيئة مضطربة، بل ربما معادية حتى، خصوصاً بعد الاختراق الذي حققه مشروع الكيان الصهيوني باختراق المنطقة عبر تطبيع المغرب، وربما قريباً موريتانيا.
خاتمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة:
يشكل التطبيع بين المغرب و الكيان الصهيوني اختراقًا كبيرًا لإقليم المغرب العربي ،فاستنجاد المغرب بعدو الأمة العربية لتهديد الجزائر، شكل نقطة حسم فاقمت الخلاف، إضافة إلى شن الأجهزة المغربية حربا إعلامية مستمرة ضد الجزائر .فالحضور الإسرائيلي الاستخباراتي والعسكري و الاقتصادي في المغرب يُعَدّث تغيرًا استراتيجيًا على صعيد ميزان قوى بين المغرب و الجزائر ، لا سيما عندما يتعلق الأمر بكل ما له علاقة بالمعلومات الاستخباراتية والتمكن من المعطيات الميدانية وتوظيف التقنية العسكرية.
وفي ضوء اعتراف الولايات المتحدة بمغربية الصحراء عبر دعمها لمقترح الحكم الذاتي فإنَّ جميع المؤشرات السياسية والدبلوماسية الملموسة تؤكد أن الحل المغربي الذي قايض مغربية الصحراء بالتحالف الاستراتيجي مع الكيان الصهيوني ،ماض في حصد تأييد عدد كبير من دول العالم في القارات الخمس بشكل متواتر وغير مسبوق، حيث تقدر الدول الغربية ومعها الكيان الصهيوني أنَّ المغرب يلعب أدْوَارًا استراتيجية كبيرة في مجال التطبيع مع الكيان الصهيوني،وفي عدد من الملفات الدولية الحارقة، كمحاربة الإرهاب والتطرف والتصدي للهجرة غير الشرعية والمساهمة النوعية في حل عدد من القضايا والنزاعات الإقليمية، كالملفين الليبي والمالي.
في ذكرى رحيله الـ ٥٣ .. قراءة في حيثيات “العروة الوثقى” بين عبد الناصر وجماهير الشعب العربي
بعض الناس يشبهون الوطن، إن غابوا عنا شعرنا بالغربة (نجيب مح... إقرأ المقال