رؤيتان لتأسيس الجمهورية الجديدة في تونس

أصدرَ الرئيس التونسي قيس سعيَّدْ المرسوم رقم 30 لسنة 2022،ويقضي بإحداث “الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة”، بهدف “إعداد مشروع دستور جديد”،ونشر هذا المرسوم يوم الجمعة 20آيار/مايو 2022في الجريدة الرسمية للبلاد (الرائد الرسمي).
وبموجب هذا المرسوم عيَّن الرئيس سعيَّدْ رجل القانون الدستوري المخضرم الصادق بلعيد رئيسًا منسقًا لـ”الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة” التي تم إحداثها بنفس المرسوم،إذ ستقوم هذه الهيئة بإعداد مشروع دستور جديد تقدمه إلى رئيس الدولة الذي سيقوم بمراجعته ، ونشره في أجل أقصاه يوم 30 يونيو /حزيران 2022، قبل أن يعرضه على الاستفتاء يوم 25 تموز/ يوليو 2022.
وتتفرّع من هذه الهيئة لجان ثلاث، هي “اللجنة الاستشاريّة للشؤون الاقتصاديّة والاجتماعية” و”اللجنة الاستشاريّة القانونية” و”لجنة الحوار الوطني”، بحسب بيان لرئاسة الجمهورية.
وحسب المرسوم فإنَّ لجنة الحوار، “تتكون من أعضاء لجنتين استشاريتين”، إحداهما: “اللجنة الاستشارية للشؤون الاقتصادية والاجتماعية” ،ويترأسها الأستاذ إبراهيم بودربالة عميد نقابة المحامين التونسيين وتقترح أعضاءها “المنظمات الوطنية”، التي يحدد المرسوم بـ “الاتحاد العام التونسي للشغل، والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، والاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري، والاتحاد الوطني للمرأة التونسية والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان”.
وحدَّد الباب الرابع من الأمر الرئاسي مهام “اللجنة الاستشارية القانونية” ومكوناتها، “، وتتكون من “عمداء كليات الحقوق والعلوم القانونية والسياسية بتونس، ويتولى رئاسة اللجنة أكبر الأعضاء سنا”.وستتولى هذه اللجنة الاستشارية القانونية إعداد مشروع دستور جديد قال المرسوم إنَّه “يستجيب لتطلعات الشعب، ويضمن مبادئ العدل والحرية، في ظل نظام ديمقراطي حقيقي، وفق ما جاء في الفصول 14 و 15 و 16 و 17”.
ويتطرق الباب الأخير من المرسوم إلى لجنة الحوار الوطني والمكونة من أعضاء اللجنتين الاستشاريتين، على أنْ تتولى لجنة الحوار، وفق الفصل 20 التأليف بين المقترحات التي تتقدم بها كل لجنة، بهدف تأسيس جمهورية جديدة تجسيما للتطلعات الشعبية المشروعة، وحسب الفصل 22، يقدم إلى رئيس الدولة التقرير النهائي للجنة الحوار الوطني في أجل أقصاه يوم 20 حزيران/ يونيو المقبل.
وبحسب خارطة الطريق التي كشف عنها الرئيس التونسي نهاية العام الماضي، فإنَّ من المنتظر أن تكتب اللجنة المكلفة مشروع دستور جديد بناء على المقترحات المجمعة من الاستشارة الإلكترونية، التي لم يشارك فيها سوى 7 بالمئة من المعنيين بالحق الانتخابي، قبل أن يقع عرض المشروع على استفتاء شعبي في 25 تموز/ يوليو المقبل.
واعتبرت “جبهة الخلاص “التونسية المعارضة التي يقودها السياسي المخضرم أحمد نجيب الشابي،وتقف وراءها حركة النهضة الإسلامية، والتي باتت تدافع عن عودة المنظومة السياسية السابقة التي حكمت تونس طيلة العشرية السوداء،وتريد تونسة السيناريو التركي لعام 2016، في بيان لها، مساء الجمعة 20مايو 2022، بعد اطلاعها على المرسوم المتعلق بتشكيل هيئة تحضيرية للاستفتاء المزمع اجراؤه يوم 25 يوليو القادم، أن “الهيئة المذكورة شكلها رئيس الجمهورية بصفة انفرادية وخارج كل شرعية دستورية أو قانونية وأناط بعهدتها مهمة صياغة مشروع دستور في أجل أقصاه خمسة وثلاثون يوماً (20 جوان /يونيو/حزيران( 2022 وألزمها بسرية مداولاتها وباتخاذ قراراتها دون توقف على توفر النصاب القانوني لاجتماعاتها”.
وتعتبر”جبهة الخلاص” أنَّ التونسيين سيُدعون يوم 25 جويلية/يوليو المقبل للإجابة بنعم أو لا عن وثيقة استراتيجية تهم مستقبل البلاد، لم يَدُرْ حولها نقاش عام، بعد أنْ أقصى رئيس الجمهورية من تركيبة الهيئة التحضيرية للاستفتاء كل الأحزاب السياسية وكافة منظمات المجتمع المدني، من المشاركة في تعديلها أو صياغتها.وحتى يَرُدَّ الرئيس على المشككين، فقد أعلن عن تأسيس” الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة”، التي ستتولى إكمال صياغة الدستور، وستشرف على إدارة الحوار بعد اختيار من سيشارك فيه.
وبعد ذلك، سيدعو الرئيس سعيّدْ التونسيين للمشاركة في انتخابات تشريعية، دون رئاسية، سابقة لأوانها بناء على النظامين السياسي والانتخابي الجديدين، في ذكرى اندلاع الثورة التونسية الموافقة لـ17 كانون الأول/ ديسمبر 2022.
اتحاد الشغل يرفض حوار الرئيس سعيد، ويطالب بالحوار الوطني
أعلن الاتحاد العام التونسي للشغل في بيانه الصادر الإثنين 23 مايو 2022 موقفه النهائي من المشاركة في الحوار الذي يريده الرئيس قيس سعيد، ب”رفض أيّ حوار شكلي متأخّر متعجّل تُحدَّد فيه الأدوار من جانب واحد وتُفرض فرضا ويقصي القوى المدنية والسياسية الوطنية، فضلا على أنّه حوار استشاري لا يمكن أن يفضي إلى اتفاقات جدّية، وتراد منه تزكية نتائج معدّة سلفا يتمّ إسقاطها بشكل فردي وفرضها على طريقة المرور بقوّة وفرض الأمر الواقع”.
وقال الأمين العام المساعد للاتحاد سامي الطاهري ،أنّ “اتحاد الشغل يجدد تمسكه بالحوار سبيلًا وحيدًا للخروج من الأزمة المعقدة التي تمر بها البلاد، وأنّ المرسوم رقم 30 حول إرساء الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة غير منبثق عن تشاور أو اتفاق مسبق، ولا يرقى إلى التطلعات الوطنية، ولا يستجيب إلى الانتظارات التي رأت في 25 يوليو 2021 فرصة للقطع مع عشرية سوداء، وبناء مسار تصحيحي يرسي ديمقراطية حقيقية”.
وأكد الأمين العام المساعد للاتحاد: “نعتبر الحوار الذي دعا له سعيّد بعد 10 أشهر من الانتظار، والرفض والتردد، وبالطريقة المضمّنة في المرسوم، غير قادر على إخراج البلاد من أزمتها، بل سيعمقها ويطيل أمدها”، معلنًا أنّ “الهيئة الإدارية الوطنية في حالة انعقاد دائم لمتابعة الوضع، ونحتفظ بحقنا الكامل وبكل استقلالية في اتخاذ الموقف والقرار المناسبين بخصوص الاستفتاء والانتخابات التشريعية القادمة، وأي محطة سياسية أخرى”.
وفي وقت سابق، قال الأمين العام المساعد لاتحاد الشغل سامي الطاهري، لإذاعة “شمس” الخاصة: “نحن لا نشتغل مستشارين لدى الرئيس”، في إشارة إلى أنَّ الهيئة التي أعلن عنها سعيّد هي هيئة استشارية فحسب.
وأوضح الطاهري أنَّ “فكرةَ اللجنة الاستشارية تعني أنَّ الحوارَ يصبح حوارًا استشاريًا”، مُشَدِّدًا على أنَّ الحوار “يجب أنْ يخرج باتفاقٍ وليس باستشارةٍ”.
وانتقد الطاهري تأخر رئيس الجمهورية في إعلان الانطلاق الرسمي للحوار، وقال إنَّ “التوقيتَ مَحْدُودٌ”، وجَدَّدَ التأكيد على أنَّ “الاتحادَ متمسكٌ بمشاركة الأحزاب في الحوار، ويرفضُ أي تهميشٍ أو إقصاءٍ لهم”.
قراءة في بيان الرفض لإتحاد الشغل
في هذه القراءة نطرح الأسباب التي جعلت اتحاد الشغل يرفض الحوار الاستشاري للرئيس سعيَّدْ،ومنها:
أولاً: للاتحاد العام التونسي للشغل رؤية سياسية لا تتطابق مع الرئيس سعيد في طرحه لكيفية إعداد دستورٍ جديدٍ وإصلاحاتٍ سياسيةٍ كبرى  مُعَدَّةٍ سلفًا ولم يتمّ تشريك الاتحاد فيها وليس له علم    بتفاصيلها، ويخشى الاتحاد أنْ يَتمّ تَمْريرُها بالقوة وتُحْسَبُ  عليه. إنّ امتناع اتحاد الشغل عن المشاركة في الحوار تُضْعِفُ  الجبهة القريبة من الرئيس سعيّد   خلال المرحلة المقبلة، لكنّ ذلك  لا يعني أنّ الاتحاد سيُساند   الجبهة المعارِضة للرئيس سعيَّدْ ،فقد عَبَّر الاتحاد في بيانه يوم الإثنين الماضي،أنّه   يحترم رأي المؤيّدين للحوار والرافضين له أيْ أنّه يقف موقف   الحياد مؤقتا من مسألة الحوار.
ثانيًا:لا يتطابق مشروع الاتحاد الاجتماعي مع مشروع حكومة الرئيس سعيد في الجانب الاجتماعي.  فالاتحاد يَتَبّنَّى فكرة الاقتصاد  الاجتماعي وطرْحًا جديدًا للعدالة  الاجتماعية والعدالة الجبائية.
ثالثًا:الاتحاد العام التونسي للشغل لا يرفض تغيير شكل النظام السياسي والنظام  الانتخابي الحالي بل يرفض النظام القاعدي الذي يريد الرئيس سعيَّدْ تطبيقه في تونس.كما أنَّ الاتحاد ومعه القوى الوطنية و الديمقراطية ومنظمات المجتمع المدني يريد محاسبة الطبقة السياسية التي حكمت تونس على فسادها طيلة العشرية السوداء(2011-2021).
رابعًا:أكَّدَ اتحاد الشغل مرَّة أخرى في بيانه يوم الإثنين 23مايو2022،أنَّه متمسك بإجراءات 25 يوليو/جويلية التي يرى فيها “فرصة تاريخية للقطع مع عشرية سوداء وبناء مسار تصحيحي يرسم ديمقراطية حقيقية تكونُ للعدالة الاجتماعية المحلّ الرئيس فيها. “لكنَّ اتحاد الشغل لا يوافق رؤية الرئيس سعيَّدْ المتعلقة ببناءِ جمهوريةٍ جديدة نظامها الأساسي القاعدي أو الديمقراطية المباشرة ،وتقوم على أنقاض الديمقراطية التمثيلية وتنفي الحاجة لأجسامها الوسيطة، لا سيما الأحزاب السياسية. ولكنَّ بحكم فقدان تونس لمقومات السيادة وهشاشة انتقالها الديمقراطي، فإنَّ وضعها لن يكون محكومًا باستراتيجيات الفاعلين المحليين؛ بقدر ما سيكون مشروطا بمعادلات الصراع الإقليمي،وما يستدعيه الصراع بين الغرب والمحور الصيني الروسي، وكذلك “مشروع القرن الأمريكي الجديد” (PNAC) من إعادة هندسة للمشهد الإقليمي.
خامسًا: الاتحاد العام التونسي للشغل لن يصطف مع   معارضة راديكالية أو غير راديكالية ضد الرئيس قيس سعيد،لأنّ الاتحاد يعتبر أنَّ المنظومة السياسية الحاكمة قبل25جويلية 2021 مسؤولة بدرجة    كبيرة عن الأزمة السياسية   والاقتصادية الخانقة التي تعيشها   تونس اليوم بل أنّ الاتحاد تَحَدَّث  في بيانه عنْ عَشرية سوداء شهدتها تونس منذ 2011.
سادسًا:يعرف الاتحاد أيضًا أنّ الجبهة المعارضة للرئيس سعيَّدْ جملة وتفصيلا مدعومة بقوة من طرف حركة النهضة. وهنا نُشير إلى أنّ الاتحاد لا ينسى محاولة هرسلة القيادة النقابية في أحداث اعتداء ميليشيات محسوبة على حركة النهضة في ديسمبر 2012 ضد النقابيين في ذكرى اغتيال مؤسس اتحاد الشغل فرحات حشاد.
سابعًا: حين طرح الرئيس سعيَّدْ الاستشارة الألكترونية مع بداية هذا العام،اجتمعت الهيئة الإدارية للاتحاد العام التونسي للشغل في يناير/كانون الثاني 2022، وأصدرت بيانًا آنذاك ،جاء فيه أنَّ “تحديد آجال الانتخابات، على ما عليها من تحفّظات، خطوة أساسية تُنهي الوضع الاستثنائي، ولكنّها لا تقطع مع التفرّد والإقصاء وسياسة المرور بقوّة، دون اعتبار مكوّنات المجتمع التونسي ومكتسباته، ونرى أن الاستشارة الإلكترونية لا يمكن أن تحلّ محلّ الحوار الحقيقي، لكونها لا تمثّل أوسع شرائح المجتمع وقواه الوطنية، فضلا عن غموض آلياتها وغياب سبل رقابتها ومخاطر التدخّل في مسارها والتأثير في نتائجها، واكتفائها باستجواب محدود المجالات قابل لكلّ الاحتمالات قد لا يختلف كثيرا عن نتائج سبر الآراء”.
وأضاف البيان: “نعبر عن توجّسنا من أنّ آلية الاستشارة الإلكترونية قد تكون أداة لفرض أمر واقع والوصول إلى هدف محدّد سلفا، علاوة على أنّها إقصاء متعمد للأحزاب والمنظّمات التي لم تتورّط في الإضرار بمصالح البلاد، كما أنّها سعي مُلتبس قد يُفضي إلى احتكار السلطة وإلغاء المعارضة وكلّ سلطة تعديل أخرى”.
ثامنًا:والحال هذه،أصبح اتحاد الشغل عاملاً معرقلاً للمشروع الرئاسي رغم تقاطعه معه في رفض العودة إلى ما قبل 25 جويلية / يوليو. فالمركزية النقابية ترفض مسار 25 جويلية / يوليو وتنتقد انفراد الرئيس بإدارة المرحلة الانتقالية والتحكم في مخرجاتها، كما أنَّها قد أعلنت رفضها للمشاركة في الحوار الوطني تحت سقف مخرجات الاستشارة الوطنية الإلكترونية ورفضها لسياسة “قتل الأحزاب”، كما أكدت إصرارها على حوار وطني جامع برعاية الاتحاد العام التونسي للشغل.
ويأتي طرح الاتحاد العام التونسي للشغل للإضراب العام من دون تحديد زمنه، في سياق معارضة المركزية النقابية ل”التأسيس الجديد” وخارطة طريقه، وهو ما سيجعلها هدفا للهجمات الرئاسية في المرحلة المقبلة. فصندوق النقد الدولي يمكن أن يمنح تونس القرض بنحو 4مليارات دولار، ويغض النظر عن إشراك الفاعلين السياسيين أو حتى عن عودة الديمقراطية في تونس، ولكنَّه لن يقبل بإقراض تونس دون إمضاء الشركاء الاجتماعيين، وفي مقدمتهم اتحاد الشغل الذي عليه التعهد بعدم تشغيل “الماكينة” لإفشال الإملاءات الاقتصادية.
عمداء كليات الحقوق بتونس أعربوا عن تمسكهم بحياد المؤسسات الجامعية
اعتذر عمداء وعميدات كلّيّات الحقوق والعلوم القانونية والسياسية بتونس، مساء الثلاثاء25مايو الجاري ، عن دعوة الرئيس قيس سعيّد إلى المشاركة في اللجنة الاستشارية القانونية لـ”هيئة الجمهورية الجديدة” ولجنة الحوار الوطني، تمسكًا بحياد المؤسسات الجامعية.
وقال العمداء في بيانهم إنهم “ومع تقديرهم لثقة رئاسة الجمهورية في الإطارات العليا للدولة، فإنَّهم يعبرون عن تمسكهم بحياد المؤسسات الجامعية، وضرورة النأي بها عن الشأن السياسي”، وذلك طبقا لأحكام الفصل 15 من دستور 27 كانون الثاني/ يناير 2014، وبالقيم والحريات الأكاديمية المعمول بها والمتفق عليها، حتى “لا ينجروا إلى اتخاذ مواقف من برامج سياسية لا تتصل بمسؤوليّاتهم الأكاديميّة والعلميّة والبحثيّة والتأطيرية”.
وذكر العمداء أنه، ولئن يحق للجامعيين، شأنهم شأن سائر المواطنين، أن تكون لهم آراء سياسية، وأن يعبروا عنها بكل حرية، فإن “ممارسة هذا الحق تكون باسمهم الخاص، لا باسم المؤسسة الجامعية، خاصة عندما يشغلون منصب مسؤولية بالجامعة التونسية، التزاما بواجب التّحفظ”.
في قراءة البيان المشترك لعمداء كليات الحقوق الصادر بتاريخ 25 أيار/ مايو 2022 يمكن أن يستنتج المرء أنَّ سبب رفض المشاركة في اللجنة الاستشارية القانونية ليس سياسي في تموقع ضد الخيار السياسي للرئيس سعيّد،بل هو رفض مبني على أساس دستوري، وهو عدم تسييس الجامعة بما يشكله من خطر على الحريات الأكاديمية، التي هي أحد مكتسبات الجامعة التونسية التي ضمنها دستور 2014. وهذا إقرار ضمني منهم بكون أعمال اللجنة القانونية سياسية بإمتياز.
وكانت دعوة العمداء من جانب الرئيس بصفتهم المهنية و الأكاديمية وليست بصفاتهم الشخصية، الأمر الذي يمكن أن ينعكس على حياد الجامعة تجاه التجاذب السياسي الحاد الذي تعيشه تونس.
ماهي انتظارات الشعب التونسي؟
أثبتت التجربة التاريخية المعاصرة القريبة منا زمنيًا ،والحاضرة في وعينا و وجداننا ،أنَّ التحرك الفعلي والمتبقي للشعب التونسي ، يتقدم بتوافر شرطين أساسيين ضروريين :أولهما وجود دولة وطنية تونسية كدولة مصر الناصرية هي جنين دولة قومية أو دولة قومية بالقوة ، يمكن أن تصبح كذلك بالفعل عند توافر الشروط الذاتية و الموضوعية اللازمة، و ثانيهما نمو الحركة الشعبية التونسية في مناخ الحرية الفكرية و السياسية .
فلن تتبلور ملامح المشروع الوطني الديمقراطي المؤمن بإعادة بناء الدولة الوطنية التونسية خارج تموقعها في شبكة الحقل السيادي الرأسمالي العالمي بقيادة الدول الغربية الأمريكية والأوروبية الوارث التاريخي للحقل التاريخي الإسلامي، إلا في ظل إسقاط أحزاب المنظومة السياسية التي حكمت تونس طيلة العشرية السوداء(2011-2021)، والنخب الفرنكوفونية التي تشكل حزب فرنسا في تونس،ولوبيات الفساد والعائلات التونسية المتحكمة في دواليب الاقتصاد التونسي ذي الطبيعة الريعية والرأسمالية الطفيلية ، والمندمجة في نظام العولمة الليبرالية الرأسمالية الأمريكية المتوحشة ،التي ما لبثت جميعها أن خذلت الشعب التونسي إن لم نقل خانته.
ولقد اتضح خلال العشرية السوداء كم دفعت الثورة التونسية ثمنًا باهظاً ،نتيجة عجز الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية ،والتنظيمات اليسارية والقومية،والاتحاد العام التونسي للشغل ومنظمات المجتمع المدني، عن بناء الكتلة التاريخية الشعبية،إذْ عادتْ تونس بعد انتخابات 23أكتوبر 2011،ووصول الإسلام السياسي إلى الحكم وتحالفه مع الدولة العميقة، إلى مُرَبَّعِ الانقسامِ والاحْتِرَابِ والْفِتَنِ والْاِسْتِقْوَاءِ بالقوى الإقليمية والدولية على بعضنا البعض..
أيدت الأكثرية الشعبية في تونس،الإجراءات التي اتخذها الرئيس قيس سعيَّدء في 25جويلية /يوليو 2021،حين أسقط المنظومة السياسية الفاسدة التي حكمت تونس طيلة العشرية السوداء،لكنَّ الشعب التونسي الذي خرج بعشرات الآلاف في معظم المدن التونسية يوم 25جويلية /يوليو2021، مؤيدًا للرئيس سعيَّدْ، طالتْ انتظاراته طويلاً ، من دون تفعيل الإصلاحات والبرامج التي أعلنها الرئيس يوم 25 جويلية/يوليو ،لا سيما مقاومة الفساد، واسترداد أموال الشعب التونسي المنهوبة ،وتحسين المستوى المعيشي لعموم المواطنين.
فبعد مرور تسعة أشهر على إعلان هذه الإجراءات ، لم ير الشعب التونسي من الرئيس سعيَّدْ قيامه بفتح ملفات الفساد والإرهاب والتسفيرللجهاديين التونسيين إلى بؤر التوتر،خاصة إلى سورية،ولا ملفات الجرائم الإرهابية ضد رموز المعارضة اليسارية والقومية، لا سيما الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، زمن حكم الترويكا بقيادة حركة النهضة، ،ولا ملفات رجال الأعمال الفاسدين والسارقين لأموال الشعب التونسي ، والناهبين لثرواته،وتقديم المتهمين إلى القضاء، إذْ ظلت شعارات الرئيس سعيَّدْ عن “الفاسدين”و”الخونة” حبرًا على ورقٍ، ولم يعرف الشعب من “هم”، ولا “أولئك”، ولا ما ارتكبوه من جرائم تُدِينَهُمْ.
كما أنَّ الشعب التونسي ومعه القوى الوطنية والديمقراطية، ومنظمات المجتمع المدني،واتحاد الشغل ، الذين يشكلون جميعًا حِزامًا سِياسيًا واجتماعيًا مُؤيِّدًا لإجراءات 25جويلية/يوليو2021،يتساءلون الآن،لماذا لم يواجهْ الرئيس سعيَّدْ لوبيات الفساد الإداري والنقابي والمالي والجهوي (أي النواة الصلبة لمنظومة الفساد)، وحصرَ “حروبه” في خصومه السياسيين دون غيرهم؟ وهل يمكن للشركات الأهلية أن تكون مخرجًا من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الخانقة التي يعيشها المواطنون التونسيون، وهل يكفي “الصلح الجبائي” مع رجال الأعمال الفاسدين للخروج من المنوال التنموي الفاشل، والذي وصل إلى مأزقه المسدود بشهادة المؤسسات الدولية المانحة، ولا تزال حكومة بودن متمسكة بهذا المنوال التنموي الليبرالي؟ وماذا فعلت لجنة استرجاع الأموال المنهوبة التي شكّلها الرئيس إلى حدِّ هذه اللحظة؟ وكيف ينوي الرئيس تحسين الوضع الاقتصادي لعموم الشعب التونسي ؛ والحال أنَّ كل الإجراءات (وآخرها الرفع في معدلات الفائدة من جانب البنك المركزي) تتحرك ضمن منطق ضريبي يستهدف الأجراء والفئات الهشة دون الفئات المحظوظة أو اللوبيات الناهبة للاقتصاد الوطني؟
ورغم السياسة التي يعلنها الرئيس سعيَّدْ لجهة حرصه على الدور الاجتماعي للدولة،فإنَّه في الوقت عينه تسارع حكومته لطمأنة المؤسسات الدولية المانحة (لا سيما صندوق النقد الدولي) عبر جملة من الإجراءات اللا شعبية، أي تطبيق شروط صندوق النقد الدولي المعروفة : رفع أسعار المحروقات، رفع الفائدة المديرية، القبول بمبدأ التفويت في المنشآت الوطنية وتقليص المصاريف العمومية.. الخ
خاتمة: نحو بناء عقد اجتماعي جديد في تونس
إنَّ أزمة السياسة في تونس هي أزمة المجتمع والدولة وأزمة العلاقة بينهما . و قد كانت الأزمة و لا تزال تتجلى في ضآلة الطبقة السياسية الحاكمة في تونس،وهشاشتها ،واختراقها من قبل الدول الإمبريالية الأمريكية والفرنسية والصهيونية ،وطابعها النخبوي الفرونكوفوني ،فضلا عن تأخر وعيها واستلابها الإيديولوجي و السياسي بوجه عام ،إضافة إلى صمت الشعب التونسي .
إنَّ حلَّ الأزمة التونسية لا بُدَّ أنْ يكون عن طريق الحوار الوطني،بعيدًا عن الشروط التعجيزية التي تفرضها الأطراف الماسكة بالحكم وبزمام الأمور والمتورطة في هذه الأزمة،لأنّ الخلافات الموجودة اليوم تفرض لمعالجتها التوافق بين الفرقاء ولا مجال لحلِّها بالاستقواء بالشارع كما فعلت حركة النهضة عبر ما يسمى “جبهة الخلاص الوطني” التي تدور في فلكها ،وهو ما يستوجب حواراً أكيداً وسريعاً،مع أخذ بعين أنَ ظروف أزمة سنة 2013، تختلف عن ظروف الأزمة الراهنة. ومع ذلك ،لا بديل عن الحوار الوطني الذي يجب أن تلعب فيه المنظمات الوطنية الأربع دورًا بارزًا فيه،ووضع أهداف وخارطة طريق، تماماً مثلما فعل الرباعي الراعي للحوار سابقاً في سنة 2013، الذي أسهم في إخراج تونس من أزمتها .
ويمثل الحوار الوطني السبيل الوحيد لتحقيق التجديد والنجاح في مجال الديمقراطية السياسية والاجتماعية المعاصرة، من خلال عدم العودة إلى المنظومةِ السياسيةِ الفاسدة السابقةِ، وعبر إشراك القوى الوطنية والديمقراطية التونسية، والمنظمات الوطنية الأربع،ومنظمات المجتمع المدني ،وكل العقلاء من سياسيين ونقابيين، في هذا الحوار الوطني،الذي يُمْكِنُ أنْ يَجِدَ له أصداء شعبية واسعة لكيْ يُصْبِحَ أحد الحلول الرائدة لحل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية وضمان الاستقرار السياسي في البلاد، والقيام ببناء الجمهورية التونسية الجديدة،والإسهام في بلورة عقدٍ اجتماعيٍّ جديدٍ للبلادِ،عبر تشريكِ كل الأطرافِ الاجتماعيةِ في العقد الاجتماعيِّ الجديدِ، ليتمَّ تحديد كل المسؤوليات ،وتشكيل حكومة إنقاذ وطني حقيقية تخرج البلاد من أزمتها العميقة.
ويَرْتَكِزُ هذا العقد الاجتماعي الجديد على ضرورةِ التحرُّرِ الحقيقيِّ من عقلية الدولة الغنائمية (حيث لاتزال أحزاب الفساد تعتبر الدولة في نظرها دولة الغنيمة ) ،وإعادة بناء الدولة الوطنية الديمقراطية أي دولة القانون ،بما تتضمنه دولة المؤسساتِ،عبر استبدال القانون الانتخابي الحالي القائم على العتبة،والقيام بالإصلاحات السياسية الحقيقية التي تَشْمِلُ صياغة دستور جديد للبلاد،وسدّ الثغرات في الإطار الدستوري عبر تشكيل المحكمة الدستورية، وإنشاء نظام سياسي رئاسي متوازن ،وبناء الاقتصاد الاجتماعي الذي يُدَافِعُ عن الضماناتِ الاجتماعيةِ لدعمِ حقوقِ العمالِ والشبابِ والفلاحين ،ومحاربةِ البطالةِ، ويسعى لإرساءِ أساسٍ مشتركٍ لمعالجة القضايا الإشكالية الضاغطة على الاقتصاد والبنية التحتية ،وتحديدِ إطلاقِ برنامجٍ مشتركٍ لمعالجة البطالة وإيجادِ فرصِ عملٍ جديدةٍ ، وجعل المنافسة الاقتصادية أكثر عدلاً وعقلانية ،والتشديد على ضرورةِ خلقِ التوازناتِ بين أساليب التمويل الفاعلة ومطالب العدالةِ الاجتماعيةِ ،والمساواةِ، وتقليصِ الضغطِ الضريبيِّ .
أخيرًا، يرى الخبراء والمحللون للمشهد السياسي التونسي ، أنَّه في غياب مثل هذا الحوار الوطني المنتج،فإنَّ الصراع المستقبلي الأهم في المرحلة القادمة سيكون بين رؤيتين مختلفتين لتأسيس الجمهورية الثالثة في تونس، وهو ليس الصراع بين الرئيس وخصومه السياسيين بقيادة “جبهة الخلاص الوطني”، بل بين الرئيس سعيَّدْ والاتحاد العام التونسي للشغل الشريك الاجتماعي الأهم، الذي ما فتىء طيلة تاريخه يلعب دور “الحزب المعارض” الذي يقفُ ندًّا للدولة ، منذ عهد المرحوم أحمد بن صالح، مرورًا بالمرحوم الحبيب عاشور، وصولاً إلى الطور الراهن من مرحلة ما بعد الثورة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى