ربيع تونس بعد 25 جويلية.. حركة تصحيحية أم انتكاسة سياسية؟

 

عوامل كثيرة ساعدت المجتمع السياسي التونسي على السير بخطى حثيثة نحو “واقعة” 25 تموز/جويلية2021، ما أوقف المسار المجتمعي الذي خطّ ملامحه الدستور التونسي لسنة 2014. ومن أبرز تلك العوامل فشل الإسلام السياسي الذي تقوده وتهيمن عليه حركة النهضة الإسلامية في إصلاح ما فسد في عالم الاقتصاد والسياسة والمجتمع إبان حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي (1987-2011).
الإسلام السياسي واستراتيجية التمكين للسيطرة على مفاصل الدولة التونسية
منذ البداية اعتبر الإسلاميون التونسيون توليهم الحكم نهاية سنة 2011 مدخلاً لتنفيذ خطة التنظيم العالمي للإخوان المسلمين في التمكين والهيمنة على دول الربيع العربي وأبرزها تونس، أين أزهر ذلك الربيع، بعد أن كان هو المنطلق الذي ستقتدي به مختلف الأقطار العربية التي عرفت نجاحا في إسقاط الأنظمة القديمة. جاء في كتاب “إلياس العماري” “تحولات الجماعات الإسلامية: التنظيم العالمي للإخوان المسلمين أنموذجا” (ص 125)، أنَّ علاقة حركة النهضة الإسلامية التونسية بالتنظيم العالمي للإخوان المسلمين هي “علاقة فرع بالأصل وقد سبقتها علاقات فكرية ومنهجية متينة، بحيث لم تعتمد النهضة في تونس الأدبيات النظرية الدينية للتنظيم الدولي للإخوان فحسب بل وعلى أساليب مخطط تكوين الفرد والجماعة ونظام الأسرة المعتمدة كذلك. ثم اعتمدت كذلك على وسائل التنظيم العالمي في التمكين والوصولية والاندساس في أجهزة الدولة ومكونات المجتمع المدني والجامعات. كما تعلّم التنظيم الإخواني التونسي أساليب اختراق الأجهزة الأمنية من جماعته الأم في القاهرة”.
بالتوازي مع فكرة التمكين الإخوانية عملت حركة النهضة على استنساخ تجربتي الحزب الدستوري الحرّ ثم الاشتراكي والتجمع الدستوري الديمقراطي في الحكم (1956-2011) ، بمحاولة الهيمنة على الحياة السياسية والعمل على احتكار السلطة وإعادة إنتاج فكرة حزب الدولة، رغم التشريك الشكلي لبعض الأحزاب (حزب المؤتمر من أجل الجمهورية وحزب التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات)، ووضع إمكانيات الدولة وأجهزتها في خدمة التنظيم الإسلامي، حتى أن ووكلاء الشركات الأجنبية المحليين ورأس المال المحلي الذي كان يحتمي بالدستوريين ويضمن لهم مصالحهم ويوفر لهم ما يحتاجونه من أموال وخدمات مقابل الحفاظ على ريعه من الدولة وامتيازاته هاجر إلى الإسلاميين للعب نفس الدور والوظيفة وتحقيق نفس الأهداف.
ولكنَّ وجود مجتمع مدني قوي ديناميكي وإرث سياسي- حزبي نشأ في السرِّية إبان حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، وجد في الثورة التونسية مهدًا للنمو والتطور والحصول على تأشيرات العمل القانوني والإعلان عن الذات الحزبية في مختلف المحطات السياسية والانتخابية التي عرفتها تونس في الفترة الممتدة من سنة 2011 تاريخ انتخاب المجلس الوطني التأسيسي إلى سنة 2019 السنة التي عرفت الانتخابات التشريعية والرئاسية الثانية بعد انتخابات 2014 مرورا بالانتخابات البلدية سنة 2018، الأمر الذي كان يهدف إلى الحدّ من الهيمنة الإسلامو- سياسية على الحياة العامة ويقلص من دور الإسلاميين تدريجيا، خاصة وأن تجربتهم لم تكن بمنأى عن الفساد والهدر الذي عرفته البلاد في ظلّ توليهم الحكم (حكومتا حمادي الجبالي وعلي العريض 2011-2014) أو المشاركة فيه وإدارته على هواهم بسبب أغلبيتهم في المجلس التأسيسي والمجلسين النيابيين (حكومات مهدي جمعة والحبيب الصيد ويوسف الشاهد وإلياس الفخفاخ وهشام المشيشي 2014- 2021).
ولقد ظهر تأثير المجتمعين المدني والسياسي في محتويات مراسيم الانتخابات والأحزاب السياسية والجمعيات والصحافة والإعلام التي وضعتها “الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي”، وهي بمنزلة برلمان غير منتخب استمرّ قرابة السنة، وفي مضامين الدستور التونسي المتضمن روحا علمانية تتناقض أحيانا تناقضا عميقا مع مبادئ الحركة الإسلامية وقناعات أفرادها واتجاهاتهم المحافظة وتبشيرهم بنماذج حكم قديمة كانت منسجمة مع طبائع عصورها، إلا إذا اعتبرنا تبني راشد الغنوشي فكرة العلمانية المؤمنة التي نظّر لها عبد الوهاب المسيري ووجدت لها طريقا للتطبيق في تجربة حكم حزب العدالة والتنمية الإسلامي التركي بمثابة الحيلة الفقهية التي ستمكن حزبه الإسلامي من التعايش مع مجتمع سياسي بلون علماني بيّن وجليّ لم يخف عداءه للإسلام السياسي عموما وحركة النهضة على وجه الخصوص.
المحافظة على نموذج التنمية الذي وصل إلى طريق مسدودٍ
وعلى عكس الثورات التقليدية التي عرفتها مجتمعات كثيرة في روسيا اللينينية والصين الماوية ومصر الناصرية وفنزويلا البوليفارية، كان الرهان فيها على التوزيع العادل للثروة وحماية المواطن اقتصاديا وتمكينه من العيش الكريم، بالتصدي للإقطاع والرأسمالية، فإنَّ الثورة التونسية أهملت كليا الديمقراطية الاجتماعية أو ما يعرف محليا بالعدالة الاجتماعية. إذ حافظت الطبقة الحاكمة في تونس على المنوال التنموي والمنزع الاقتصادي اللبرالي الذي انطلق العمل به منذ سبعينيات القرن العشرين وبلغ أوجه إثر الأزمة الاقتصادية والمالية الحادة التي عرفتها تونس سنة 1986 في ظل حكومة رشيد صفر، وتمت معالجتها عن طريق الوصفة التي اقترحها آنذاك صندوق النقد الدولي، بتخلي الدولة عن دورها الراعي وسياستها الاجتماعية وإعطاء الأولوية للقطاع الخاص والتفويت قدر الإمكان في المنشآت والمؤسسات الاقتصادية العمومية وتحرير السوق ورفع الدعم عن المواد الأساسية وتنازل الدولة عن أدوارها تدريجيا في مجالات الصحة والتعليم والنقل والاستثمار عن طريق بعث الشركات الوطنية.
لقد استمرّ هذا النموذج المصحوب بتفشي الفساد واختلال التوازن بين الجهات والطبقات طيلة فترة حكم زين العابدين بن علي، ورغم تعالي أصوات كثيرة من بينها صوت الإتحاد العام التونسي للشغل وبعض الأحزاب السياسية ذات التوجه الاجتماعي الحمائي، للقطع مع هذا الخيار بعد سنة 2011 واستبداله بنموذج تنموي- اقتصادي يقوم على العمل والإنتاج واسترجاع السيادة الاقتصادية والمالية وإعادة الاعتبار للدولة كفاعل تنموي رئيسي وحماية القطاعات الإستراتيجية واحتكارها بدلاً من التوجه إلى التوريد بالعملة الصعبة، والإمعان في المديونية لاسيما لدى البنك وصندوق النقد الدوليين، التي تجاوزت قيمة الناتج الوطني الخام بأكثر من 100 مليار دينار، فإنَّ التحالف الحاكم الإسلامي- العلماني 2011-2014 ونظيره الإسلامي- الدستوري 2015-2021 لم يول للمسألة الاقتصادية الاجتماعية أهمية تضاهي الأهمية التي لاقتها المسألة السياسية وقضية الحكم. الأمر الذي جعل من العشرية الممتدة من 2011 إلى 2021 تعرف عشرات الآلاف من الاحتجاجات الاجتماعية في شكل إضرابات واعتصامات ومظاهرات بالتوازي مع استهداف الدولة والمجتمعين السياسي والأمني من التنظيمات التكفيرية والإرهابية، نتج عنه ارتقاء مئات الشهداء من أبرزهم الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي وشهداء المؤسستين الأمنية والعسكرية.
وقد تفاقم الوضع الاقتصادي والمالي والاجتماعي ليصل أرذل عمره مع الأزمة الصحية التي عرفتها تونس بسبب جائحة كورونا ووصول الدولة التونسية حافة الإفلاس مع حكومة المشيشي (2/9/2020- 25/7/2021) التي كانت تلقى حماية تيار الإسلام السياسي (حركة النهضة وائتلاف الكرامة) المتحالف برلمانيا مع حزب قلب تونس صاحب الخلفية البورقيبية- الدستورية وبعض الكتل البرلمانية (كتل الإصلاح وتحيا تونس والوطنية) التي تشترك مع هذا الحزب في الخلفية التاريخية والسياسية.
الإجراءات الاستثنائية للرئيس سعيَّدْ لإسقاط منظومة الفساد طيلة العشرية السوداء
مثلت أحداث 25 تموز/يوليو2021 مدخلا سلطويا بامتياز. فقد استغلّ الرئيس قيس سعيد المظاهرات والاحتجاجات التي عرفتها البلاد ليوسّع مجال نفوذه المحدود المقتصر وفق نص الدستور على الإشراف على وزارتي الدفاع الوطني والشؤون الخارجية بالتشاور مع رئيس الحكومة، ليصبح صاحب الأمر كلّه بعد ذلك التاريخ. وجاءت قراراته بتجميد مجلس نواب الشعب ورفع الحصانة على نوابه في البداية وعزل رئيس الحكومة هشام المشيشي وحلّ الهيئة الوقتية للنظر في دستورية القوانين وغلق هيئة مكافحة الفساد، اعتمادا على الفصل 80 من الدستور الذي أُنطق بغير ما ينطق به باعتبار أنه يفرض على البرلمان البقاء في حالة انعقاد دائم ولا يسمح بتوجيه لائحة لوم ضد الحكومة عند الخطر الداهم، ثم تعليق العمل بأغلب فصول الدستور واستبداله بالمرسوم عدد 117 المؤرخ في 22 سبتمبر/أيلول 2021 الذي يمكنه من مطلق السلطة في تشكيل الحكومة التي باتت مسئولة أمام الرئيس وليس أمام مجلس نواب الشعب، وحلّ المجلس الأعلى للقضاء المنتخب وتعويضه بمجلس مؤقت منصب جميع أعضائه معينين إما بالصفة أو من القضاة المتقاعدين، وبعد ذلك حل مجلس النواب نهائيا دون الإعلان عن انتخابات تشريعية خلال 90 يوما كما يقتضيه الدستور.
ولا يبدو أنَّ الرئيس قيس سعيد اختار هدم ما أنتجته العشرية الأولى للثورة التونسية من نصوص أساسية وخاصة دستور 2014 وما انبثق عنه من مؤسسات ديمقراطية على علّتها نظرا إلى أنها لا تزال في مرحلة التجربة، بصورة تلقائية دون دراسة وفهم وترو. فالرجل لم يعترف بمجلس النواب منذ بداية ولايته الرئاسية ولم يتقدم له بأي مبادرة تشريعية وله موقف سلبي من الأحزاب السياسية ومن كل الأجسام الوسيطة النقابية والمدنية كما عبّر عن ذلك في حوار أجرته مع الصحفية كوثر زنطور ونشرته في جريدة الشارع المغاربي في شهر جوان 2019 قبل فوزه بالرئاسة بأشهر قليلة.
وهذا الموقف يناقض اتجاهه القديم الذي عبّر عنه في مقال منشور بجريدة الصباح يوم 6 في شباط/فبراير 2011 بعنوان “من أجل دستور جديد لتونس” فحواه أن جمعية تأسيسية منتخبة انتخابا مباشرا بمشاركة الأحزاب السياسية دون إقصاء لأي حزب هي من يمتلك مشروعية وضع دستور للبلاد. ويقدّم سعيد بديلا في المستوى السياسي يسميه البناء القاعدي يقوم على تشكيل مجلس من الأفراد وليس من الأحزاب والكتل، يعتمد على نوع من التصعيد المباشر للأفراد من العمادات (أصغر وحدة إدارية في الدولة) مع إمكانية سحب الوكالة منهم، وبالتوازي مع ذلك الرجوع إلى النظام الرئاسي بعد إجراء إستفتاء على دستور جديد تضعه لجنة معينة من قبله أو على بعض الفصول، عوضا عن النظام البرلماني المعدّل الذي أقرّه الدستور التونسي لسنة 2014، وبعث الشركات الأهلية المحلية والجهوية في المستوى الاقتصادي، استجابة لـ “لشعب يريد” (برنامج قيس سعيد الانتخابي) بعد أن عبّر عن إرادته واختياراته في الاستشارة الوطنية التي تمثّل مقاربة الرئيس في الحوار مع الشعب، بالرغم ضعف المشاركة في هذه الاستشارة بنسبة لا تتجاوز 7 بالمائة من جمهور الذين يحق لهم المشاركة.
بدأ سعيد إجراءاته الاستثنائية التي أعلن عنها يوم 25 جويلية/يوليو2021 مدعومًا بطيفٍ واسعٍ من التونسيين ونخبهم الفكرية والسياسية والمدنية والإعلامية، ولكنَّ ذلك الدعم الشعبي والنخبوي الواسع أخذ في التلاشي بتعليق العمل بالدستور التونسي وإصدار الأمر عدد 117 المؤرخ في 22 سبتمبر 2021 بوصفه نظاما مؤقتا للسلطات العمومية. ومنذ ذلك الوقت بدأ سعيد يستفرد بالسلط واحدة بعد أخرى إلى أن جمع في يده كافة السلطات التنفيذية (كان يشترك فيها مع الحكومة ورئيسها) والتشريعية (كان يتولاها مجلس النواب) والقضائية (كانت من اختصاص المجلس الأعلى للقضاء). وما أتاه سعيد من استفراد بالسلطة كانت تعيشه تونس في زمن البايات الحسينيين ولكن محاولات القطع معه بدأت منذ حكم محمد الصادق باي الذي عرف عهده دستور 1861 وهو الأول في التاريخ العربي الإسلامي. أما في فترة حكم الرئيسين الأسبقين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي لم تصل الممارسة الاستبدادية المنعوت بها نظاميهما إلى درجة تولي التشريع وتسيير القضاء بالتوازي مع ممارسة الحكم.
تحولت أحداث 25 جويلية/يوليو2021 الاحتجاجية التي كانت تهدف إلى محاسبة الإسلام السياسي وحلفائه من السياسيين ورجال الأعمال الفاسدين الذين تعاملوا مع الدولة كغنيمة، وإبعادهم عن السلطة وتحقيق المطالب الشعبية في الشغل والتنمية العادلة بين الجهات والطبقات وحماية الدولة من أخطار التفكك وفقدان سيادتها أمام حجم التدخل الأجنبي، إلى نكسة سياسية كبرى نسفت مراكمات المجتمع السياسي التونسي من نضالات حقوقية وديمقراطية وحزبية ومدنية على مدى أكثر مائة سنة (منذ تأسيس حركة الشباب التونسي سنة 1907 إلى اليوم) الهدف منها التداول السلمي على السلطة على قاعدة حرية بعث الأحزاب وحريات الفكر والتعبير والتنظيم والإعلام والانتخابات الحرّة النزيهة، بعد أن تحقق بعضها في ظل الثورة التونسية.
ولقد لخّصت صورة أبواب البرلمان التونسي موصدة بواسطة دبابة عسكرية بأمر من الرئيس سعيد التي انتشرت في كافة أصقاع الدنيا، المشهد السياسي التونسي بجميع حيثياته وملامح مقاربة حكم الرئيس 25 جويلية/تموز،وحملاته التفسيرية التي عوّضت الأحزاب السياسية بمن فيها المساندة لسعيد. وعاد الشارع التونسي بذاكرته ووعيه إلى أحداث 9 نيسان/أبريل 1938 التي ارتقى فيها شهداء وهم يحملون رايات كُتب عليها “برلمان تونسي”، وعادت نضالات النخب السياسية إلى تلك النقطة التاريخية، لكنها لا تناضل هذه المرة ضدّ الاستعمار الفرنسي، وإنما تواجه رئيس الجمهورية التونسية أستاذ القانون الدستوري الذي درّس طلاب الجامعات وكليات القانون على مدى ثلاثين سنة أو يزيد كيفية احترام الدساتير والقوانين وضرورة الالتزام بها من قبل الحاكم والمحكوم، وفي أول تجربة له في عالم السياسة والحكم مارس نقيض ما كان يدرّسه ويبشّر به ويحثّ الآخرين على تطبيقه.

*وزير التربية التونسية السابق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى