أسبابٌ إقليميةٌ و اقتصاديةٌ وَرَاءَ التقاربِ التركيِّ مع السعوديةِ

تحتل تركيا موقعًا جغرافيًا ممتازًا،يمكن وصفه في العلوم السياسية الاستراتيجية بأنَّهEckmacht،أي قوة إقليمية ذات موقع استراتيجي معتبر. وسياسة التطبيع الجديدة التي ينتهجها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان منذ سنة ونصف مع الدول الخليجية التي اسْتَعْدَتْ تركيا بسبب موقفها من “الربيع العربي”و مناصرة حركات الإسلام السياسي،تُوِجَتْ مُؤخَرًا بزيارة أردوغان للمملكة السعودية، وإجرائه لقاءات مثمرة مع الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده محمد بن سلمان في جدّة .
زيارة أردوغان للمملكة السعودية
قام الرئيس التركي أردوغان يوم الخميس 28أبريل 2022،بزيارة تاريخية للمملكة السعودية ، استغرقت يومين،رافقه فيها عقيلته أمينة أردوغان، ووزراء الداخلية سليمان صويلو، والدفاع خلوصي أكار، والعدل بكر بوزداغ، والصحة فخر الدين قوجة، والخزانة والمالية نور الدين نباتي.كما رافقه وزيرا الثقافة والسياحة محمد نوري أرصوي، والتجارة محمد موش، إضافة إلى نائب رئيس حزب “العدالة والتنمية” بن علي يلدريم، ورئيس جهاز المخابرات هاكان فيدان، ورئيس دائرة الاتصال بالرئاسة فخر الدين ألطون، ومتحدث الرئاسة إبراهيم قالن.
وحرصت وكالة الأنباء السعودية “واس” على تأكيد أنَّ الزيارة كانت “تلبية لدعوة خادم الحرمين الشريفين”، الملك سلمان بن عبد العزيز،بينما قال الرئيس التركي في تغريدة على تويتر: “أجرينا زيارة إلى المملكة العربية السعودية تلبية لدعوة خادم الحرمين الشريفين. ونحن كدولتين شقيقتين تربطهما علاقات تاريخية وثقافية وإنسانية، نبذل جهودا حثيثة من أجل تعزيز جميع أنواع العلاقات السياسية والعسكرية والاقتصادية، وبدء حقبة جديدة بيننا”.
لكن “واس” حرصت في عنوان لها تناولت فيه تصريحات أردوغان عن ارتياحه للزيارة؛ على تأكيد أنَّ الزيارة كانت “تلبية لدعوة خادم الحرمين الشريفين”.
وتُعَدُّ زيارة أردوغان للمملكة الأولى له منذ خمس سنوات، حيث شهدت العلاقات بين المملكة السعودية وتركيا خلال تلك الفترة توترًا ومقاطعة اقتصادية من جانب السعودية، بسبب قضيتين رئيسيتين.
الأولى: من جراء اغتيال الصحفي السعودي عدنان خاشقجي في بداية أكتوبر 2018 في مقر قنصلية بلاده بإسطنبول والدور الذي لعبه أردوغان في تفعيل هذه القضية من خلال كشف المعلومات في حوزة السلطات التركية عن تحرّك الفريق السعودي الذي نفذ العملية، فضلاً عن إطلاع الاستخبارات الأميركية عليها، إذْ تسبّبتْ أزمة خاشقجي في احتداد العداوة الشخصية بين أردوغان وولي العهد السعودي محمد بن سلمان .وحين استجاب الرئيس أردوغان لمطالب المملكة السعودية بإغلاق القضاء التركي للمحاكمة الغيابية التي يُجريها بحق 26 مواطناً سعودياً يُشبته بضلوعهم في جريمة قتل خاشقجي، وتسليم الملف إلى القضاء السعودي، قام السعوديون بتوجيه دعوة رسمية إلى أردوغان لزيارة المملكة، وتدشين مرحلة جديدة في العلاقات.
الثانية:الموقف من “انتفاضات الربيع العربي” التي أسهمت في زيادة حدة الاستقطاب الإقليمي الذي كان سائداً، لا سيما حين تحولت إسطنبول إلى مركز إقليمي ودولي تتجمع فيه حركات الإسلام السياسي (تنظيمات الإخوان المسلمين ) التي يساندها التحالف التركي-القطري،في مواجهة التحالف السعودي-الإماراتي المناهض لحركات الإسلام السياسي الإخوانية، لا سيما بعد الزلزال المصري في نهاية حزيران /يونيو2013،الذي أطاح بسلطة الرئيس محمد مرسي في مصر.
لكنَّ انتصار الدولة الوطنية السورية على المخطط الأمريكي-الصهيوني-التركي الذي كان يستهدف تقسيم سورية،إلى دويلات طائفية ومذهبية وعرقية،وفشل حركات الإسلام السياسي التي وصلت إلى السلطة في إدارة شؤون دول “الربيع العربي “التي حكمت فيها من مصر إلى تونس و المغرب،مرورًا بليبيا، وتراجع شعبيتها ما أدّى إلى ضعفها بعد إطاحة الرئيس الراحل محمد مرسي في مصر في 2013، ،بل سقوطها ديمقراطيا في الانتخابات كما حصل في المغرب، كل هذه التطورات أسهمتْ في تراجع الالتزام التركي بدعم حركات الإسلام السياسي في المنطقة. وبرز هذا التراجع مع فرض تركيا قيوداً على النشاط الإعلامي للإخوان المسلمين على أراضيها في أعقاب دخولها في مفاوضاتٍ مع القاهرة، لا سيما أنَّ التحالف السعودي -الإماراتي نجح في كبح جماح المدِّ الإخواني في المنطقة ،وتغيير مسارها بعد الربيع العربي .
وأسهم توتر العلاقات التركية -الأمريكية،في جعل الرئيس أردوغان يغير في سياستة الإقليمية، منذ مطلع العام الماضي (2021)، مع إنهاء الأزمة الخليجية التي كان التحالف التركي القطري أحد أسبابها الرئيسية، ثم دخول أنقرة في مفاوضات لإنهاء القطيعة مع مصر في مايو/ أيار من العام الماضي، وما أعقبها من إبرام مصالحة مع الإمارات توّجت بزيارة ولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد، أنقرة في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي. مهّدت هذه التطورات الطريق للوصول إلى هذه المرحلة بين السعودية وتركيا.
لقد ترك تراجع الحضور السياسي العربي الفاعل في إقليم الشرق الأوسط فراغاً كبيراً ، سعت كل من القوى الإقليمية الجديدة الصاعدة على غرار إيران وتركيا إلى أن تملأه ، حيث تملك كل من تركيا و إيران مشروعاً إقليميا و سياسياً كبيراً ،و لكل مشروع أنصار داخل العالم العربي ، ولأنصار كل من المشروعين أيديولوجية تعارض أيديولوجية المشروع الآخر.
المصالح الاقتصادية المتبادلة بين الرياض و أنقرة
في زيارة الرئيس أردوغان للمملكة السعودية، كانت المصالح الاقتصادية حاضرة ، إذ كشفت صحيفة “خبر ترك” في تقرير للكاتب أتشيتينار تشيتين، كشفت أنَّ السعودية تعتزم شراء العشرات من المسيرات التركية على نظام دفعات واستخدام التقنيات الدفاعية التركية المتقدمة في مواجهة جماعة الحوثي باليمن.لكن واقعيا فإنَّ تركيا أيضا بحاجة إلى تدفق الاستثمار والأموال الساخنة من السعودية.
وتتجه السعودية وتركيا، اللتان أصبحت حاجتهما السياسية لبعضهما البعض أكثر وضوحا، نحو فتح صفحة جديدة من خلال حل هذه الصراعات العميقة التي استمرت لسنوات عديدة، وسيكون عنوان هذه الصفحة الجديدة، التي سيتم فتحها هو تعزيز المصالحة والتعاون في الملفات المختلفة من أجل التغلب على الصعوبات السياسية والعسكرية والاقتصادية التي يواجهها كلا البلدين من خلال إغلاق ملفات النزاع.
وتشكل إدارة جو بايدن تحدِّيًا مشتركًا لتركيا والمملكة السعودية، ويعد هذا السبب في أنَّ الأطراف الإقليمية تتجه نحو بناء شراكات أقوى لمقاومة الضغط الأمريكي وسياسات بايدن.
ومارست إدارة بايدن ضغوطًا كبيرة ًعلى السعودية، في ما يتعلق بحرب اليمن، والملفات القانونية وإنتاج النفط، لا سيما خلال الأزمة الروسية الأوكرانية الجارية.
وبالنسبة للسعودية، فإنَّها ترى أنَّ إدارة بايدن لم تعد تدعمها رسميا في حرب اليمن.وتشعر المملكة السعودية بالقلق من عودة الاتفاق النووي، الذي سيمنح إيران قوة أكبر في المنطقة، ولا يمكن للرياض أن تتصدى لذلك إلا بتعزيز تحالفاتها الإقليمية، لذلك يبدو أن تركيا هي الخيار الأول في هذا الصدد.
وتستخدم الولايات المتحدة أنظمة الدفاع الخاصة بها كأداة ابتزاز ضد المملكة العربية السعودية، ولهذا السبب تحتاج الرياض إلى التعاون مع تركيا في مجالات الدفاع، والاستفادة من أنظمة الدفاع المتقدمة في تركيا والطائرات المسيرة.
ونقلت الصحيفة عن مصادر في السلطات السعودية، أن أدارة الرياض تعد طلبا للحصول على 20 طائرة مسيرة على المدى القصير، و40 أخرى على المدى المتوسط.
تعتزم المملكة السعودية ، في الوقت الراهن، العودة إلى تطوير العلاقات الاقتصادية بين البلدين،من خلال إنهاء الحظر السعودي غير الرسمي، المفروض على الصادرات التركية، وإعادة تكثيف مشترياتها من السلع التركية، بعدما تراجعت بشكل حادّ خلال السنوات الماضية، وإعادة الزخم للاستثمارات السعودية في تركيا، وهو أمر يكتسب أهمية على وجه الخصوص للرئيس أردوغان الذي يسعى إلى دفع اقتصاده بلاده المتعثر، مع اقترابه من انتخابات رئاسية وبرلمانية حاسمة العام المقبل.
وشهد حجم التبادل التجاري بين البلدين هبوطاً منذ عام 2015، ولكنه ارتفع بشكل خفيف في نهاية عام 2018. وبلغ حجم الاستثمارات التركية في المملكة العربية السعودية 660 مليون دولار أمريكي تقريباً وفقاً لبيانات الإدارة العامة للاستثمار في المملكة. وهناك أكثر من 200 شركة تركية تعمل في المملكة العربية السعودية. كما تعد المملكة العربية السعودية الدولة الخليجية الثانية بعد قطر والدولة السابعة في العالم على صعيد حجم الأعمال التي ينفذها المقاولون الأتراك فيها. وقد تولت شركات المقاولات التركية تنفيذ ما يزيد عن 100 مشروع في المملكة العربية السعودية لغاية اليوم. ومن جهة أخرى، تقدر الاستثمارات السعودية في تركيا بحدود 2 مليار دولار.
وفي عام 2017 تملّك المواطنون السعوديون 3545 عقاراً في تركيا. ومن أهم الصادرات التركية إلى السعودية: السجاد والمنتجات النفطية المكررة واللوحات الكهربائية وحديد البناء والموبيليا. ومن أهم الواردات من السعودية: المنتجات النفطية والكيميائية
تركيا لا يمكن لها أن تلعب دوراً إقليمياً فاعلاً من دون أن تكون قوة اقتصادية ناشئة. فالدور الإقليمي لتركيا أساسه الاقتصاد المنفتح ،وتوفير الأسواق القريبة لصادراتها المتنامية،والحصول على الطاقة اللاازمة لنموّها. ولا تزال تركيا تبهر العالم العربي بنهضتها الاقتصادية التي شهدتها خلال العقد الحالي من القرن الحادي ولعشرين .فهي قوة اقتصادية ناشئة، و استطاعت أن تحقق نتائج اقتصادية مذهلة( بلغ معدل النمو السنوي 7في المئة) بين أعوام 2002 و2008،وبالتالي أن تنعم بالاستقرار الاقتصادي،وأن تحوزعلى اقتصاد متنامٍ يقترب سريعاً من رقم تريليون دولار من الناتج المحلي الإجمالي.وقد تطورت القدرة التصديرية لتركيا بين أعوام 2002 و2008 ،إذ بلغت 141 مليار دولار للعام 2008 وحده رغم بعض التراجع في العام 2009 بسبب الازمة المالية العالمية.
لقد أسهمت الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية في تعزيز موقع تركيا في مجموعة الدول العشرين التي حلّت محل مجموعة الدول الثماني الأكثر تصنيعاً في العالم ،من أجل مواجهة تداعيات الأزمة العالمية.وبما أن الاقتصاد التركي يحتل الآن المرتبة 16عالميا، فقدباتت تركيا أقرب إلى مجموعة البرازيل ،وروسيا، والهند، والصين ،منها إلى مجموعة الدول الأوروبية،علماً أنَّ تركيا عضو في منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي التي تشمل الدول الأوروبية كلها.
وتعتبر تركيا سوقًا استهلاكيةً كبيرة ً، ولاسيما أنها تضم 73مليون نسمة، وتعتمد على يد عاملة شابة وكفؤة استطاعت أن تحول البلاد إلى مصنع ناشط للمنتجات القابلة للتصدير مثل السيارات وقطع الطائرات والأجهزة الكهربائية والمعدّات والأقمشة.
وتتدفّق الاستثمارات الى تركيا من البلدان الخليجية،فقد أوضحت البيانات الرسمية الصادرة عن معهد الإحصاء التركي، أنَّ حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة في تركيا خلال الفترة من يناير/كانون الأول 2002 حتى نهاية عام 2020 بلغت نحو 165 مليار دولار أمريكي.
وبلغ مجموع الاستثمارات الخليجية في نفس الفترة الزمنية السابقة 11.4 مليار دولار، استحوذت الإمارات على المرتبة الأولى بين الدول الخليجية كأكبر مستثمر في تركيا بقيمة بلغت 4.3 مليار دولار، تلتها قطر والمملكة العربية السعودية.
لقد تعززت العلاقات الاقتصادية و التجارية بين تركيا و البلدان العربية خلال السنوات الأخيرة،يشهد على ذلك حركة الاستثمارات العربية الجديدة في تركيا التي تقدر الآن بنحو 20مليار دولار، وتعاظم دور شركات المقاولات التركية في تنفيذ بعض المشاريع في البلدان العربية. كما بلغ حجم التبادل التجاري بين تركيا والدول العربية نحو 50مليار دولار.
خاتمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة:
لقد اهتزت العلاقات القوية بين الرياض وواشنطن في عهد الرئيس جو بايدن بسبب مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي عام 2018 على يد سعوديين، وكذلك الحرب اليمنية التي يقاتل فيها تحالف عسكري تقوده السعودية ضد جماعة الحوثي منذ سبع سنوات.
وانزعجت السعودية والإمارات، اللتان تعتمدان على مظلة أمنية أمريكية، ما اعتبره البلدان تراجعًا في الالتزام الأمريكي تجاه المنطقة، لا سيما في ظل اقتراب التوقيع على الاتفاق النووي مع إيران في فيينا.
ويرى الخبراء في إقليم الشرق الأوسط ،أ،نَّ قرار الرئيس الأمريكي بايدن بسحبه “في إحدى المراحل” للمنظومات الأمريكية المضادة للصواريخ من المملكة في الوقت الذي تواجه فيه تصاعدًا في الهجمات الحوثية باستخدام أسلحة إيرانية مثل الصواريخ والطائرات المسيرة،ووقف الدعم لعمليات التحالف في اليمن وعدم مقابلته ولي العهد الأمير محمد بن سلمان،أسهم في فتور العلاقات الأمريكية-السعودية.
غير أنَّ الصراع الدائر في أوكرانيا ألقى الضوء على التوتر مع مقاومة الدول الخليجية المنتجة للنفط دعوات للمساعدة في عزل روسيا وضخ المزيد من النفط لتهدئة الأسعار. وذكر تقرير لصحيفة “وول ستريت جورنال” في 21 مارس، نقلا عن مسؤولين أمريكيين، أن إدارة الرئيس الأمريكي، جو بايدين، نقلت عددًا كبيرًا من منظومة الدفاع الجوي باتريوت إلى السعودية، الشهر الماضي، استجابة لطلب المملكة العاجل.وقال أحد المسؤولين إنَّ عمليات النقل سعت إلى ضمان تزويد السعودية بالمنظومة الدفاعية التي تحتاجها بشكل كاف لصد هجمات الطائرات المسيرة والصواريخ التي يشنها الحوثيون المدعومون من إيران في اليمن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى