قرب نهاية الجمهورية الفرنسية الخامسة!

قواعد اللعبة الفرنسية تكاد تتقوض، النخب السياسية مأزومة حد الاحتضار، والتوازنات اختلت حد بات وصول اليمين المتطرف إلى قصر الإليزيه مسألة وقت، إن لم يكن هذه المرة فى جولة الإعادة بين «مانويل ماكرون» و«مارين لوبان»، ففى مرة مقبلة.
الأسباب التى استدعت إحداث تغييرات جوهرية فى طبيعة نظام الحكم عام (1958)، فيما يعرف بـ«الجمهورية الخامسة»، تكاد تقارب من حيث الأجواء العامة ما يحدث الآن من فوضى وارتباك وغياب أية قواعد تضمن سلامة الأداء العام.
فى ذلك الزمن البعيد، قبل (64) عاما، قاد الجنرال «شارل ديجول»، بوزنه الذى اكتسبه من دوره الاستثنائى فى مقاومة احتلال النازى لبلاده، انتقالا دستوريا باستفتاء شعبى تغير بمقتضاه نظام الحكم من «جمهورية برلمانية» إلى «جمهورية شبه رئاسية».
كانت تلك خطوة سياسية جراحية لوقف الفوضى التى ضربت «الجمهورية الرابعة»، التى كانت بصورة أو أخرى امتدادا لـ«الجمهورية الثالثة» التى حكمت فرنسا قبل الحرب.
فى مدى (12) عاما بين (1946) و(1958) شهدت فرنسا (21) حكومة!
طلبت «الجمهورية الخامسة» رفع مستوى كفاءة الإدارة السياسية أمام تحديات ضاغطة فى أزمان جديدة.
كما كانت استجابة لحقائق ما بعد الحرب العالمية الثانية، خسرت فرنسا قوتها الإمبراطورية، والمصير نفسه طال بريطانيا التى لم تكن تغرب الشمس عن امبراطوريتها.
تكفلت حرب السويس عام (1956) بإعلان ذلك التطور الجوهرى فى بنية النظام الدولى.
بالوقت نفسه وجدت فرنسا نفسها أمام استحقاقات إرثها الاستعمارى فى الجزائر، التى اخذت تنتفض وتتصاعد ثورتها المسلحة طالبة حقها فى التحرر الوطنى والاستقلال.
أمام حقائق النظام الدولى الجديد، كما الأزمة الداخلية، نحت فرنسا الديجولية إلى تأسيس نظام سياسى جديد.
على أعتاب جولة الإعادة فى الانتخابات الرئاسية الفرنسية يطرح السؤال نفسه: هل استنزفت الجمهورية الخامسة أسباب وجودها بالقرب من تأسيس نظام دولى جديد تلوح ضروراته ومقدماته فى الحرب الأوكرانية؟
القضية فى الأحوال الجديدة ليست فى طبيعة نظام الحكم بقدر ما هى فى البيئة العامة وأزماتها الاجتماعية والثقافية والسياسية وتدهور مكانة الحزبين الرئيسيين «الجمهوريون» و«الاشتراكى»، اللذين قدما لفرنسا رئاساتها باختلاف أوزانها وتبادلا السلطة طوال سنوات الجمهورية الخامسة، بصورة وصلت فى الانتخابات الأخيرة إلى حد التحلل.
كان نصيب «فاليرى بيكريس» مرشحة حزب «الجمهوريون»، الذى قدم لفرنسا الرؤساء الجنرال «شارل ديجول» و«جورج بومبيدو» و«فاليرى جيسكار ديستان» و«وجاك شيراك» و«نيكولاى ساركوزى» (4.8%) من أصوات المقترعين فى الجولة الأولى!
وكان ما حازته مرشحة الاشتراكى «آن هيداليجو»، الذى قدم لفرنسا الرئيسين «فرانسوا ميتران» و«فرانسوا أولاند»، مهينا لتاريخ الحزب ودوره فى الحياة السياسية حيث قبعت فى المركز العاشر بين اثنتى عشر مرشحا بـ(1.8%)!
بدا ذلك زلزالا فى قلب الحياة السياسية أفضت تداعياته إلى التساؤل عن مستقبل فرنسا، ومستقبل أوروبا كلها بأحوال اضطراب فى بنية النظام الدولى.
لم تنكسر المؤسسة الفرنسية مرة واحدة، ولا دخلت «الجمهورية الخامسة» فى أخطر أزماتها بغير توقع وانتظار.
لقد تفشى الفساد فى الرءوس الكبيرة، وبدت المنازعات فى بعض الحالات أقرب إلى حروب المافيات.
كان صعود «ساكوزى» نقطة فاصلة فى تاريخ الجمهورية الخامسة سحبت منها أى رصيد سياسى وأخلاقى.
حسب رواية الصحفى الفرنسى الشهير الراحل «إريك رولو»، كما استمعت إليها قبل انتخابات الرئاسة الفرنسية عام (2007)، فإن وزير الداخلية «ساكوزى» أخذ يتعمد إهانة الرئيس «شيراك» والتقليل من شأنه كلما اتيحت الفرصة أمامه.
فى (14) يوليو، عيد الثورة الفرنسية، استدعى إلى مقر الوزارة عددا من الصحفيين المقربين فى ذات التوقيت الذى كان «شيراك» يستقبل كبار الصحفيين الفرنسيين فى قصر الإليزيه.
عندما أخذ الرئيس يوجه للأمة كلمة متلفزة بدا أن وزير داخليته، المتوثب للجلوس على مقعده فى الإليزيه، ضجرا إلى حد عدم احتمال الاستماع إليها.
قال بصوت مرتفع وهو ينتفض من على كرسيه: «ما هذا الكلام الفارغ الذى يقوله؟!»، ثم أمسك بـ«الريموت كونترول» مغلقا جهاز التلفزيون.
فى مشهد استعراضى أراد أن يقول لضيوفه: «أنا الرجل القوى الآن، شيراك لا يعنى شيئا».
أخذت القصة تنتشر، بدلالاتها السياسية، التى تتجاوز ما هو متعارف عليه فى العلاقات بين الرؤساء ووزرائهم.
فيما بعد دفع العالم العربى أثمانا باهظة لصعود رجل بمواصفات «ساركوزى» إلى قصر الإليزيه، كان أخطر ما أقدم عليه قيادة عمليات «الناتو» فى ليبيا، التى أجهضت ذلك البلد العربى لسنوات طويلة وهددت وحدته الترابية، لتصفية حسابات قديمة مع العقيد «معمر القذافى»، وربما لإخفاء معالم جريمة تلقيه رشى ليبية لتمويل حملته الانتخابية بحسب تحقيقات فرنسية رسمية.
«ساركوزى» نقطة تصدع خطيرة فى مؤسسة «الجمهورية الخامسة»، لكنها ليست النقطة الوحيدة، فقد تآكلت المؤسسة من داخلها، صدقيتها واحترامها ومستقبلها.
من حيث الشكل العام لنتائج الانتخابات الأخيرة فلا جديد تحت شمس باريس.
المرشحان للإعادة هما نفسيهما اللذين دخلا جولة حسم مماثلة قبل خمس سنوات عام (2017)، حسب استطلاعات الرأى العام فإن «ماكرون» مرشح للفوز بفارق أقل مما حصده المرة السابقة.
اللافت فى ظاهرتى «ماكرون» و«لوبان» أن الأول صعد للرئاسة من خارج الحزبين الكبيرين، قريبا من اليمين ومتمردا على اليسار الذى زكاه لمقعد وزير اقتصاد فى عهد الرئيس الاشتراكى «أولاند».. والثانية طرحت نفسها بديلا لوالدها «جان مارى لوبان» مؤسس أقوى الأحزاب اليمينية المتطرفة، غيرت اسم الحزب من «الجبهة الوطنية» إلى «التجمع الوطنى» وخففت من لهجته دون أن تفقده هويته حتى يتسنى اجتذاب أعداد أكبر للتصويت لصالحها من اليمين التقليدى.
كلاهما جاءا من خارج مؤسسة الجمهورية الخامسة، أحدهما بالقفز خارجها.. وثانيتهما، بكراهية قيمها.
فى المواجهات الانتخابية السابقة بدت «مارين لوبان»، ووالدها قبلها، خطرا كامنا يستحيل تماما أن يصل إلى الإليزيه، أو أن يفرض على بلد ممعن فى اعتزازه بما يسميه «قيم الجمهورية» المستمدة من إرث الثورة الفرنسية التخلى عنها والتنكر لها.
هذه المرة، الخطر ماثل، إن لم يكن اليوم فغدا.
بحقائق الأرقام هناك زحف إلى الأمام خطوة بعد أخرى.
لم يكن الفارق كبيرا فى الجولة الأولى، حيث حصد «ماكرون» على (27.85%) من الأصوات فيما تلته «لوبان» بـ(23.15%)، الفارق أقل مما حدث فى الانتخابات السابقة، استطلاعات الرأى العام ترجح فوزه بفارق ضئيل عكس المرة السابقة بجولة الحسم حيث وصل الفارق إلى (32%).
لم يعد ذلك ممكنا.
فى أولى المواجهات الانتخابية عام (2002) مع مرشح اليمين المتطرف «جان مارى لوبان» جرى استدعاء خطاب الاصطفاف لمنع وصوله إلى الإليزيه قبل أن يتكرر السيناريو نفسه مع ابنته مرتين على التوالى.
مشكلة فرنسا أن خطاب التفزيع من اليمين المتطرف، على أهميته، لم يعد كافيا.
فى الأحوال الجديدة فإن هناك صعودا للتشدد على ناحية اليمين واليسار معا، تآكل اليمين واليسار التقليديين، لم يعد يصدقهما أحد.
كان حصول المرشح اليسارى الراديكالى «جان لوك ميلنشون» على (21.95%) دليلا جديدا على إفلاس المؤسسة، فهو من خارجها تماما، ويحصد ثقة واسعة بأوساط الشباب.
لو تمكن «ميلنشون» من حصد (500) ألف صوت من بين أصوات اليسار المبعثرة لكان هو من يخوض جولة الإعادة مع «ماكرون»، وربما كسبه بفائض تراجع شعبيته الأخير.
هكذا تتبدى أزمة النخبة السياسية المتحكمة فى المصير الفرنسى لأكثر من ستة عقود.
وأزمة مؤسسة «الجمهورية الخامسة» نفسها!
إنها مسألة قيم وصدقية وسياسات تستجيب لحقائق العصور المتغيرة على أبواب نظام دولى جديد يوشك أن يطل على العالم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى