هل تشكل الحرب في أوكرانيا نهاية للعولمة الليبرالية المتوحشة؟

بقلم: توفيق المديني

بعض المحللين والخبراء يرى أنَّ المخرج الحقيقي للأزمة الاقتصادية والمالية التي تعيشها العولمة الليبرالية الأمريكية المتوحشة في طورها الراهن ، لن يكون سوى من طريق حرب جديدة ومؤثرة، من شأنها أن تساعد في إيجاد سبيل لاجتياز هذه الأزمة البنيوية للعولمة الليبرالية. وفضلاً عن ذلك ، فقد أظهرت الأحداث من الناحية التاريخية أنَّ هناك ترابطاً جدلياً بين أزمة الرأسمالية الامبريالية والحرب.
شكَّلتْ الحرب الروسية – الأوكرانية صدمة خارجية عنيفة جدًّا للنظام العالمي الليبرالي الجديد الذي يقوم على العولمة الليبرالية الأمريكية المتوحشة،التي اعتقدت أنَّها حققت انتصارًا كاسحًا ونهائيًا على الماركسية والإشتراكية في نهاية عقد الثمانينيات من القرن العشرين ،إذ وقعتْ العولمة الليبرالية هي الأخرى في فخ لاهوت الخلاص وميكانيزماته الذي وقعت فيه الماركسية حين طرحتْ نفسها على أنَّها إيديولوجية خلاص البشرية.
فالمعتقد الماركسي يقول إنَّ المحرك الرئيس لهذا الخلاص ليس الشعب، وإنما طبقة البروليتاريا أخص منتجات الصناعة الرأسمالية، التي يجب أن تتحد في الكون كله من أجل تحقيق سعادة البشرية وإيصالها إلى “أرض الميعاد” أي الشيوعية, حيث الرفاه والمساواة للجميع.
والعولمة الليبرالية الأمريكية المتوحشة ، أو ما يطلق عليها علماء الاقتصاد النيوليبرالية أو الليبرالية الجديدة ، تقول الشيء ذاته معكوسًا، حيث لم تعد البروليتاريا هي منقذة البشرية بل الشركات المتعددة الجنسية ورجال الأعمال والبيزنس، والمؤسسات المالية الدولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي والمنظمة العالمية للتجارة, التي صارت حارس المعبد ومديروها الرهبان الكبار وأنبياء البشرية الجدد,إجتماعات زعماء وقادة الدول الصناعية الثمانية (G8) التي باتت تشبه إجتماعات اللجان المركزية للأحزاب الشيوعية الكبرى التي كانت تقاريرها الصادرة عنها بمنزلة الكلام المقدس.
ما علاقة الحرب بالأزمات الدورية للرأسمالية؟
يتساءل معظم المحللين الأكاديميين في مجال الاقتصاد عن الأسباب الحقيقية التي تقود إلى الحرب ؟ وهل تكفي الأسباب الاقتصادية لوحدها لإشعال فتيل الحرب ؟
في الحرب العالمية الأولى 1914-1918، التي يعرفها لينين بأنَّها حرب بين البلدان الرأسمالية الغربية من أجل إعادة إقتسام العالم بين الرأسماليين على أساس قوة وحجم رؤوس الأموال المستثمرة.وتُعَدُّ الحرب العالمية الأولى بمنزلة حرب إمبريالية،لا سيما أنَّ الإمبريالية مُعَرَّفَةٌ من قبل لينين هي المرحلة الإحتكارية من الرأسمالية. وكذاك:” إنَّ الإمبريالية هي الرأسمالية التي وصلت إلى مرحلة متطورة تتأكد فيها سيطرة الإحتكارات ورأس المال المالي, وفيها يكتسب تصدير رؤوس الأموال أهمية من الدرجة الأولى, ويبدأ إقتسام العالم بين التروستات الدولية, وينجز إقتسام كافة أقاليم الكرة الأرضية بين أكبر البلدان الرأسمالية”.
لقد شكلت الحرب العالمية الأولى نهاية العصر العظيم الأول للعولمة في مرحلة الرأسمالية التنافسية، الذي بدأ في ستينيات القرن التاسع عشر وامتد لغاية 1913، وكانت القوة الدولية القائدة لهذا العصر الأول من العولمة الليبرالية في مرحلة الرأسمالية التنافسية و التجارية والماركنتيلية هي بريطانيا العظمى .
يعتبر الاقتصادي الروسي نيكولاي كوندراسياف الذي مات إبان مرحلة القمع الستالينية ،هو أول من ربط بين اندلاع الحروب و الدورات الطويلة للاقتصاد, عندما أشار إلى وجود موجات طويلة تمتد إلى خمسين سنة مشتركة لمجمل البلدان الرأسمالية الأوروبية .و كانت تتناوب في هذه الموجات أطوار من التوسع الاقتصادي ، و أخرى من الانكماش ، تمتد لمدة خمس وعشرين سنة لكل واحد منها .
وقدم مؤرخون أمثال أرنولد طونبي , واقتصاديون أمثال جوزيف شومبيتر ،إسهاماتهم النظرية في موضوع العلاقة بين الدورات الاقتصادية و الحرب .غير أن الإسهام النظري الحديث كان قد قدمه الاقتصادي الأمريكي جوشيا غولدشتاين في كتابه ” الدورات الطويلة،حرب و ازدهارفي العصر الحديث “،إذ ركز على العناصر التالية :
-إن الدورات الاقتصادية هي حقيقة ملازمة للاقتصاد الرأسمالي الغربي منذ القرن الخامس عشر.
-إن أطوار التوسع الاقتصادي للموجات التي نظر لها كوندراسياف لا تكشف لنا الحروب أكثر من أطوار الكساد .
-في كل مرة تندلع حرب كبيرة ،تظهر على المسرح الدولي قوة عظمى مسيطرة لمدة قرن
و نصف ،الأمر الذي يفسر لنا التفاوت التاريخي بين دورة قوة ودورة اقتصادية .
ويمثل الطور الصاعد من الدورة الاقتصادية المرحلة التي تنتشر فيها الابتكارات التكنولوجية في الجسم الاقتصادي والاجتماعي ،أما في الأطوار الانكماشية فهي تفسر لاعادة إزالة المواد والمصانع القديمة لتحل محلها الجديدة .وهو ما يطلق عليه اسم ” الهدم المبدع”.
ويتساءل الآن المحللون الأكاديميون في الغرب،كيف أثرت الصراعات المسلحة الحديثة على الوضع الاقتصادي في الولايات المتحدة ؟
كانت للحرب العالمية الثانية ( 1941 – 1945 )،والحروب في كوريا( 1950 – 1953 )،وفيتنام ( 1965 – 1973 ) تأثيرات إيجابية ،لكنها ليست دائمة،على نمو الاقتصاد الأمريكي.
وعمل المؤرخون والاقتصاديون على تحديد الأسباب الاقتصادية للحروب ونتائجها ، معطين أحيانا لهذه العوامل وظيفة محددة في شن الحروب ،وللحروب وظيفة محددة في انفجار الأزمات الاقتصادية .ومع ذلك ،فإن المؤرخين الذين يقومون بدراسة تسلسل القرارات السياسية والتاريخية التي تقود إلى الحروب ،أو العلماء المتخصصون بدراسة علم الحرب أيضا الذين يحللون الحروب ” كواقع اجتماعي شامل ” واضعين تحت- توتر الأنشطة الاقتصادية ، لا يعتقدون أن هذه الأخيرة هي المحددة في تفجير الحروب أكثر من غيرها . فحسب المؤرخ هوغوس تيرترايس،المتخصص في حروب الهند الصينية ، فإن الدافع الرئيسي لخوض حرب فيتنام هو المركب الصناعي العسكري الأمريكي ،إذ إن سباق التسلح النووي ،و برنامج أبولو، يمنحانه موازنات مهمة .
لقد كلفت حرب فيتنام في عام 1968، 26 مليار دولار،أما الصواريخ النووية 80 مليار دولار.إذا فالسبب الرئيس لاندلاع الحرب في الهند الصينية كان بالدرجة الأولى سبباًجيوبوليتيكياً ,من أجل محاصرة المد السوفياتي في جنوب شرق آسيا و إفريقيا وأمريكا اللاتينية .
انطلاقا من هذا التحليل يمكن أن نستنتج فكرتين جوهريتين,
الأولى:إذا كان الاقتصاد،و الصناعة،والبرامج التسليحية هم المكون الأساس للقوة السياسية،فإنَّ البيانات نظرا لما تمتلكه الفواعل السياسية والعسكرية من وسائل النجاح والإرغامات في محيطها الاقتصادي ,هي التي تؤثرعلى قراراتهم.
الثانية: إنَّ الحرب سواء أكانت مولدة للكوارث, أو للفوائد الاقتصادية ,بمجرد أن تندلع , تتحول إلى شركة رأسمالية عملاقة,بما يتضمنه ذلك من وجود نفقات,ومداخيل,ونمط من الإدارة و التصرف.
انبثاق عصر العولمة الليبرالية وهزيمة الكاينزية
منذ بداية عقد السبعينات من القرن الماضي،دخلت الرأسمالية في أزمة بنيوية، وشهد العالم الرأسمالي سلسلة من الأزمات المالية والنقدية، إضافة إلى الإتجاه نحو التضخم والركود. وانهار بذلك كل نظام بريتون وودس(1944) الذي تمخض عنه ولادة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي, وهو النظام الذي أقامته الولايات المتحدة الأمريكية التي خرجت منتصرة من الحرب العالمية الثانية، وكانت تهدف إلى تحقيق تكامل في الاقتصاد العالمي تحت قيادتها, لكي يخدم إقتصادها الأقوى والأغنى.
فقد سمح هذا النموذج (نظام بريتون وودس1944)لجميع عملات النقد الإلزامي في العالم باستثناء عدد قليل منها بالتوازن مقابل عملة الدولار الأمريكي، في حين تمت موازنة فاتورة مطالبة 35 دولاراً أمريكياً بأونصة واحدة من الذهب، وهذا أعطى الثقة الاقتصادية والاستقرار وربط جميع العملات مقابل الدولار الأمريكي والدولار الأمريكي مقابل الذهب وتم تثبيت أسعار صرف العملات مما أدى إلى ازدهار اقتصادي في الولايات المتحدة. ثم شَرَعَتْ الولايات المتحدة في طباعة الدولار الأمريكي بلا هوادة دون أي نسبة ثابتة للذهب، وهو ما تنبَّه إليه الرئيس الفرنسي شارل ديغول فطلب من أمريكا تداول الذهب مقابل الدولار. أرسل دولارات إلى الولايات المتحدة وأعاد شراء الذهب الخاص به، واتّبعت دول أخرى النموذج الفرنسي، وفي غضون بضع سنوات، فقدت أمريكا 50٪ من احتياطي الذهب. مع العلم أنه لا يمكن الحفاظ على معيار الذهب ويمكن أن يتحول إلى كارثة اقتصادية عالمية.
وفي يوم 15 آب 1971، قرر رئيس الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك ريتشارد نيكسون إلغاء قابلية تحويل الدولار إلى ذهب، وتقديم نموذج اقتصادي جديد يحوّل جميع العملات العالمية إلى عملة نقد الزامي.
كل ثلاثين إلى أربعين سنة كان لدى العالم نظام نقدي جديد تماماً، كان هناك نظام الذهب الكلاسيكي قبل الحرب العالمية، ونظام تبادل الذهب بين الحروب، ونظام بريتون وودز من الحرب العالمية الثانية إلى عام 1971م، ونظام الدولار العالمي من سنة 1971م حتى اليوم.
ومنذ ذلك التاريخ شهد العالم ولادة ما يمكن أن نطلق عليه إسم ” الرأسمالية الجديدة”, لأنها أعادت حرية المناورة النقدية لواشنطن، وفتحت الطريق للإجراءات الأكثر راديكالية على صعيد الإضطراب المالي, وسمحت لإزدهار العولمة الليبرالية. وتعرضت الثورة الكينزية في السنوات اللاحقة ( التي شكل تدخل الدولة في النشاط الإقتصادي والإجتماعي جوهرها) لثورة مضادة، سواء على صعيد الفكر الاقتصادي أو صعيد السياسات الاقتصادية. وتوصل منظرو المدرسة النقدية الذين تكونوا في جامعة شيكاغو- وتجمعوا حول الأستاذ ميلتون فريدمان (جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1976 وأحد المناهضين الكبار لجون مايناردكينز )-إلى السلطة، أولا داخل الفرق التي تحيط بالجنرال بينوشيه في التشيلي، ثم ثانيا مع مارغريت تاتشر في المملكة المتحدة, وأخيرا مع رونالد ريغان في واشنطن.
فبإسم ” الثورة المحافظة”، بدأ هؤلاء الليبراليون المتطرفون ينشرون نيوليبرالية عدوانية ومضاعفة بنوع من الأنتي -كينزية المناضلة للقضاء على ذلك التقليد القديم ألا وهو ضرورة تحجيم دور الدولة وتدخلاتها في النشاط الاقتصادي والإجتماعي, منادين في الوقت عينه بأن الحرية الاقتصادية هي أساس حياة الفرد والمجتمع. وركزوا في هجومهم على السياسات الإجتماعية التي تطبقها الدولة في مجال السوق, مثل دعم صندوق التضامن الإجتماعي وإعانات البطالة, والرقابة على الأسعار، ودعم الخدمات التي توجه للطبقات الفقيرة, ومحدودي الدخل( كالدعم السلعي و العلاج المجاني أو الرخيص, فضلا عن الإسكان والتعليم إلخ).
الثورة النيو ليبرالية هي الجواب التاريخي الذي تقدمه البرجوازية الإحتكارية لأزمة الرأسمالية العالمية من أجل تحجيم دور الدولة في النشاط الاقتصادي والإجتماعي, وخفض معدلات الضرائب على الدخول والثروات المرتفعة, وإطلاق العنان لقوى السوق العمياء في بيئة يغلب عليها طابع الإحتكار, وحل أزمات الرأسمالية، وبالذات أزمة التضخم, التي لن تتم إلا في ضوء القبول الواسع بالبطالة وبالتالي قبول التحول من الإفقار النسبي إلى الإفقار المطلق داخل البلدان الرأسمالية، بعد أن تم التخلي تماما عن هدف التوظيف الكامل كأحد مرتكزات الدولة الكينزية.
حين يعتبر الغرب حرب أوكرانيا حلقة في نهاية العولمة الليبرالية الأمريكية
تختلف الرأسمالية المعاصرة(الليبرالية الجديدة)منذ الربع الأخير من القرن الماضي ,إلى حد بعيد عن رأسمالية ما بعد الحرب العالمية الثانية, حين شكلت الكينزية النظرية السائدة في العالم الرأسمالي.
مشهد “الرأسمالية المعاصرة”منذ انهيار المنظزمة السوفياتية وهزيمة الشيوعية ,بات مشهد “رأسماليات” أو نماذج رأسمالية, وأشكال رأسمالية, بدأت تتحدد وتتمثل في الليبرالية الجديدة “النموذج الامريكي – البريطاني-أي نموذج السوق الحرة الانكلوساكسونية ” , ونموذج “أوروبا الوسطى”, أي نموذج اقتصاد السوق الإجتماعية الألمانية, أو مابات يعرف ب”نموذج الراين” للرأسمالية المختلف اختلافا أساسيا و جذريا عن رأسمالية السوق الحرة الأمريكية, ونموذج “الرأسمالية اليابانية” المهندسة على أساس من الترابطات المتبادلة للاقتصاد الياباني, التي تجعله جزءا لا يتجزأ من حياة المجتمع.وهذا بدوره مثل السوق الاجتماعية الالمانية, يختلف اختلافا جذريا و أساسيا عن المذهب الفردي- و المغرق في فرديته- المتمثل في نموذج السوق الحرة الانكلوساكسونية.
إنَّ الفلسفة الليبرالية الجديدة تركز على تنظيم الاقتصاد, و عولمة الأسواق , بوصفهما عاملين سوف يحلان المشاكل الكبرى للإنسانية, وأن تحرير الأنانيات سوف يسمح بمحاربة عدم المساواة على صعيد عالمي, وتحقيق العدالة في الكون كله أيضا.
غير أن قناعات “الثوريين الرأسماليين” هذه انتهت الى وهم خطير. ففي أوقات الآزمة تعجز الليبرالية الأمريكية المتوحشة عن تقديم أجوبة سياسية, إذ ذكرت أحداث 11 أيلول/سبتمبر2001،ودخول النظام المالي العالمي في أزمة سنة 2008 ،عندما انهار بنك ليمان براذرز في أمريكا ،وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سنة 2016 ،عندما صوت البريطانيون لمغادرة أكبر منطقة تجارة حرة في العالم، وانتخاب الأمريكيين شخصية تلفزيونية شعبوية كرئيس لأمريكا في نوفمبر2016، واستيقاظ العالم على جائحة كورونا في نهاية 2019،حيث جمد الفيروس جمد سلاسل التوريد وأجبر العالم أجمع على السبات، واندلاع الحرب الباردة الجديدة بين الولايات المتحدة و الصين،حين تم تقسيم العالم بين من جهة الأخيار (الغرب الديمقراطي الليبرالي المدافع عن الحرية السياسية،وحقوق الإنسان)،والأشرار (الشرق الاستبدادي تدريجيًّا:روسيا،الصين، كوريا الشمالية، الشرق الأوسط ) ،
ذكرت كل هذه الأحداث بعدة حقائق كان انتصار الفلسفة الليبرالية الجديدة قد طردتها من قاموسها: القطع بين الاقتصاد العالمي و السياسة هو وهم, وبدون دولة وقطاع عام,لا يوجد أمن, وبدون ضرائب, لا توجد دولة.وبدون ضرائب لا توجد ديمقراطية. وبدون رأي عام ,وديمقراطية,و مجتمع مدني, لا يوجد شرعية. وبدون شرعية, لايمكن أن يتحقق الأمن .
وبعد سنوات من تمتع الولايات المتحدة بدولار قوي, و نقد صلب, تستيقظ اليوم, وقد أصيبت بجفاف في بلعومها, وانقطاع في أنفاسها, فقد تلقت الليبرالية الجديدة, التي تشكل حجر الأساس في النمو الأمريكي صفعة قوية,بسبب الحرب الروسية-الأوكرانية.
و الحال هذه ،اعتبرت الإمبراطورية الأمريكية ومعها الدول الأوروبية الحرب الروسية بمنزلة الهجوم الصارخ لإسقاط النظام العالمي الليبرالي الأمريكي، بل اعتبرت حرب أوكرانيا نهاية حلقة واحدة رائعة في تاريخ البشرية .فكان الردّ الصارم من جانب كل الغرب فرض العقوبات الاقتصادية و المالية على روسيا، فتعطل بذلك توريد السلع الأساسية، من القمح إلى النيكل ومن التيتانيوم إلى النفط. ويبذل الغرب كل ما في وسعه لإلغاء روسيا من النظام الاقتصادي العالمي؛ أي معاقبة الأوليغارشية، وطرد البنوك الروسية من الشبكة المالية العالمية، ومنع البنك المركزي الروسي من الوصول إلى احتياطياته، وهناك حديث عن طرد روسيا من منظمة التجارة العالمية .
تنظر الولايات المتحدة إلى الحرب الروسية في أوكرانيا،بأنها حرب على العولمة الليبرالية الأمريكية المتوحشة التي أدتْ إلى زيادة الجوانب السلبية للرأسمالية ، وعمقت اللامساواة بين بلدان المركز الرأسمالي الغربي وبقية البلدان في عالم الجنوب، وتضاعف في عصرها المشاكل البيئية.
يدافع الغرب بشراسة قل نظيرها عن العولمة الرأسمالية الليبرالية المتوحشة ، كونها أخرجت أيضًا أكثر من مليار شخص من براثن الفقر في العقود الثلاثة الماضية، وفي كثير من الحالات، عززت الحرية السياسية جنبًا إلى جنب مع الحرية الاقتصادية. .فمن وجهة النظر الغربية ، لا يزال الغرب أقوى بشكل ملحوظ من الشرق، وعند استخدام مصطلحي “الغرب” و”الشرق” فإنه يعني التحالفات السياسية بدلاً من المناطق الجغرافية فقط؛ حيث تمثل الولايات المتحدة وحلفاؤها 60٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي بأسعار الصرف الحالية؛ الصين وروسيا والأنظمة الاستبدادية بالكاد تصل إلى ثلث ذلك الرقم.
ولأول مرَّة منذ سنوات، تتحد الدول الأوروبية خلف الولايات المتحدة في ظل رئاسة جو بايدن كزعيمة لما يسمى العالم الحر الموحد والمتجدد حديثًابعد أن تخلت عن عزلتها الترامبية ، للدفاع عن النظام العالمي الليبرالي الجديد الأمريكي ، الذي ينوي الرئيس بوتين تدميره، وتدمير التدفق الحرِّ للتجارة والتمويل معه، حسب الدعاية الإعلامية و السياسية الغربية .
لكنَّ حرب روسيا في أوكرانيا التي يقودها القيصر بوتين تعمل أيضًا على تسريع التغييرات في كل من الجغرافيا السياسية في أوروبا و العالم، والعقلية الرأسمالية اللتان تتعارضان بشدة مع العولمة الليبرالية الأمريكية المتوحشة.
خاتمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة:
أكدت الحرب في أوكرانيا الشراسة و العدوانية للغرب في دفاعه المستميت عن بقاء النظام العالمي الليبرالي الجديد الأمريكي بزعامة الإمبريالية الأمريكية قائدة المعسكر الرأسمالي الغربي بلا منازع، والحيلولة دون تحول البشرية إلى نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، ونظام إقتصادي عالمي جديد لا يقوم على الدولار،الذي تنادي به عدة أقطاب دولية و إقليمية جديدة أخذت تفرض نفسها على الساحة الدولية اقتصاديا وسياسيا، وحتى عسكريًا، مثل الصين التي غدت ثاني اقتصاد في العالم، وروسيا التي استغلت الإنهاك الأمريكي في حروبها العبثية في كل من أفغانستان، و العراق، وسورية،للعودة الى الساحة الدولية عبر سلسلة تدخلات في جورجيا وأوكرانيا وسورية وغيرها.
فهذه الأقطاب الدولية والإقليمية الجديدة التي أصبحت تزاحم الولايات المتحدة الأمريكية سيادتها على الساحة الدولية مستغلة أفول هيمنة الإمبراطورية الأمريكية، التي بدأت منذ أحداث 11سبتمبر 2001،واندلاع الأزمة المالية التي ضربت الولايات المتحدة عام 2008، ودفعتها إلى الانسحاب من العراق، تاركة وراءها حطام بلد غارق في الفوضى، وتراجع موقع الولايات المتحدة في النظام الاقتصادي الدولي،إذْ انكمشتْ حصّتها من الناتج العالمي والتجارة الدولية بمقدار النصف منذ مطلع الستينيات من القرن الماضي.
الجواب الغارق في عدوانيته للحرب في أوكرانيا من جانب الغرب لم يكن جوابًا تاريخيًا لأزمة عالمية،بل هو معركة إمبريالية غربية شرسة تخوضها الإمبريالية الأمريكية وحلفائها ،إذْ استطاعت واشنطن حشد مائة ألف جندي على حدود حلف الناتو مع روسيا خلال وقت قصير نسبيًا، لإسقاط كل المقولات التي تؤكد على انتهاء عصر الهيمنة الأمريكية والانتقال نحو عالم متعدّد الأقطاب،ودفاعها المستميت عن بقاء هيمنة النظام العالمي الليبرالي الجديد ،القائم على العالمية السياسية والرأسمالية الانتقائية التي تطورت من رأسمالية آدم سميث التحررية الكلاسيكية إلى عولمة رأسمالية ليبرالية أمريكية متوحشة انتقائية يدعمها صندوق النقد الدولي (IMF)، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية (WTO)، وتهيمن عليها النخبة الإمبريالية الأمريكية والأوروبية الجديدة، التي تشكّل أقل من 1% من سكان العالم وتمتلك 99٪ من البنوك المركزية وأسهم البورصات العالمية، مما يؤهلها لامتلاك مختلف أنواع الشركات. على سبيل المثال، يمتلك أعضاء النخبة حصصاً كبيرة في شركات المجمع الصناعي العسكري، وشركات المجمع الصناعي الصيدلاني من جميع جوانبه، وخاصة قطاع اللقاحات. إلى جانب ذلك، فإنهم يمتلكون الكثير من الحصص في (Google)، و(Facebook)، و(Twitter)، و(YouTube)، و(Instagram)، و(CNN)، و(MSNBC)، إضافة إلى جميع القنوات الإخبارية التي تقوم بمراقبة المعارضة والبحوث المستقلة والمعلومات الجديدة حول (كوفيد 19). علاوة على ذلك، تمتلك هذه النخبة شركات التكنولوجيا بما في ذلك تكنولوجيا النانو الحديثة للاتصالات التي سيتم تشغيلها من خلال تقنية الجيل الخامس 5G..
فالرأسمالية الجديدة، هي الترجمة العملية للنيوليبرالية، التي تمتلك رؤية اقتصادوية تختزل الإنتاج الاجتماعي إلى سلع وخدمات, فتغدو مجالات الحياة الاجتماعية هوامش للسوق، ويمكن الاستغناء عنها. وهي رؤية تعيد إنتاج فكرة آدم سميث عن “اليد الخفية” التي تنظّم السوق فتلغي فكرة الدولة بوصفها شكلاً سياسياً للوجود الاجتماعي وتختزل الحرية إلى حرية السوق والقانون الى قانون السوق.و الرأسمالية الجديدة حسب تعبير الكاتب الفرنسي الشهير أنياسيو رامونيه: هي التسليع العام “”la marchandisation generale للكلمات والأشياء، للأجسام والعقول, للطبيعة والثقافة, الأمر الذي يقود إلى تعميق اللامساواة غير المسبوقة على الصعيد الكوني.
و تشكل هذه الرأسمالية الجديدة قطيعة إقتصادية, وسياسية, وثقافية، كبيرة, حين تضع الشركات والمواطنين أمام
أمر واقع مفروض بالقوة: ” التكيف”, أي الإستسلام بملء الإرادة من أجل الخضوع الأفضل للأوامر غير المسماة للأسواق المالية. إنها تقتل سلفاكل طيف مقاومة أو حتى تمرد باسم ” الواقعية”. ومن وجهة نظر هذه الرأسمالية الجديدة تعتبركل السياسات الحمائية، وكل الأبحاث عن البدائل، وكل محاولات التنظيم الديمقراطي، وكل الإنتقادات للأسواق المالية، “رجعية ومتخلفة”.
لقد كشفت الحرب الروسية في أوكرانيا أن النظام الاقتصادي الرأسمالي العالمي الليبرالي وصل بالفعل إلى حافة الانهيار،وأنَّ الشعوب و الدول الوطنية في عالم الجنوب ، والقوى الدولية و الإقليمية الناشئة، باتت جميعها تنادي ببناء نظام اقتصادي عالمي جديد بعد وباء (كوفيد19)،وحرب أوركرانيا. لذا يجب أن نكون مستعدين مادياً وعقلياً للمساهمة بنصيبنا في النموذج الاقتصادي العالمي الجديد الذي يجب أن يعكس القيم الديمقراطية الحقيقية القائمة على التنمية المستقلة،مع زيادة الحرية والديمقراطية في مناطق العالم(أي تطبيق مقولة الليبرالية +حقوق الشعب الاقتصادية و الاجتماعية )، و العمل على تحقيق أكبر قدر ممكن من التكافؤ بين قيمة رأس المال وقيمة العمل. وعلينا أن نفكر لبعض الوقت في أن هذا النموذج الاقتصادي العالمي القادم لا يمكن أن يكون نموذجاً تعاونياً قد يعمل من أجل رفاهية الطبقات الوسطى و الطبقات الشعبية ، التي تعد أكبر منتج عالمي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى