مجزرة الطنطورة.. طرد الـ”نيتساف” حكروش وقتل المُسنّ أسعد: حذارِ أيها العرب!

سأبدأ من سياق لم يعد شخصياً: بعد انتهاء الندوة الذي عقدها نادي حيفا الثقافي في الخامس والعشرين من شهر تشرين الأول سنة 2018 والحديث عن كتابي التهجير.. والإبادة: الفقه اليهودي المعاصر تجاه العرب توجهت إلي بعض النسوة القلقات والخائفات مما جاء في الكتاب فقالت إحداهنّ: خيّا إنت ليش بتخوفنا إحنا عنّا ولاد وأحفاد.. إلّي قلتوا بِخَوِّف كتير! للحقيقة فاجأني ردهن، لأنني كنت أعتقد بأني وضعت الكتاب في سياق معرفي (…) لذا لم أتمكن من الردّ. في تلك اللحظة قام المحامي علي رافع الذي قدّم قراءة أثارت القلق والخوف في نفوس النسوة على الأقل. فقال: هو ما بخوفكوا، هو بسّ بنقل لكم شو اليهود كتبوا وممكن يعملوا! .. مع الزمن أدركت أن أبا مهنّد المولود قبل النكبة بثماني سنوات، واستشهد والده خلالها ومارس العمل السياسي والدفاع عن الأسرى لا يزال هو الآخر يعيش حالة الخوف، وإلا لما تمكن من تقديم قراءة للكتاب (لم أفكر فيها أصلاً) أثارت القلق والخوف في نفوس أولئك النسوة اللواتي ولدن في الغالب بعد النكبة بعقد أو أكثر. ثم أدركت أن الرعب الذي عاشه عرب فلسطين قبيل النكبة وبعدها لا يزال ماثلاً في نفوس الأجيال التي ولدت بعدها، وهو مكوّن رئيس في فكرهم وممارساتهم السياسيّة (إلى جانب علي رافع وقد شاركه كلاً من الصديقين فتحي مرشود والدكتور يوسف شحادة).
* * * *
يحاول هذا المقال تقديم مقاربة مغايرة لمواضيع العنوان (أعلاه) تأخذ من حالة العنف التي مارسها المستعمرون اليهود قبيل النكبة وأثناء حروبهم ضد العرب، وكذلك الخوف والتخويف مما قد يفعلوه بالعرب إذا ما تخطوا مصيدة العسل وخرقوا ترخيص ‘النضال’ الذي قايضت “إسرائيل” عرب فلسطين به وطنهم وأحلامهم. أقصد “حقّ التصويت” الذي صاغه (بن جوريون) لأنه كان يُدرك أن حالة الخوف التي يعيشها العرب بعد النكبة مباشرة ستدفع بهم للتصويت لحزبه (كما جاء في مذكرات سكرتيره في تلك الفترة (تيدي كوليك)).
يمكن القول إن العنف الذي مارسه المستعمرون اليهود ودولة إسرائيل منذ النكبة إلى يومنا الراهن لا يزال قاعدة يعيدون إنتاجها وتدويرها متى شاؤوا لبث الرعب بين مجاميع عرب فلسطين وتحذيرهم مما قد يفعلونه بهم. فالرعب، والخوف والتخويف يُفقد الفرد والجماعة مناعتها النفسيّة والقدرة على التقدير السليم والدقيق واتخاذ القرارات المناسبة. لذا فإن التخويف، والخوف والرعب هما من أسس المعارك والحروب، كم بالحري إذا كان المجرم حيّا ويملك من أسلحة القتل والتقتيل والشرعيات المختلفة ما لا يضاهيه به أي مجرم في الكون!
* * * *
لم يكن العرب القوميون أو الوطنيون بحاجة إلى اعتراف إسرائيل بمجزرة الطنطورة التي نفذها مستعمروها قبيل احتلال القرية الساحلية أثناء النكبة سنة 1948. فشهادات الناجين منها واعتراف بعض الإرهابيين اليهود بقتل عشرات الطنطوريين كان معروفاً لمن يهمّه الأمر. كما أن سلوك الـ”نيتساف” حكروش— (الضابط العربي/ المسلم الأعلى رتبة في سلك الشرطة الإسرائيلية ورئيس “قسم القضاء على الجريمة في المجتمع العربي- وحدة سيف”) الذي لم يقم بمنع الجريمة التي قُتل فيها الشاب غازي أمارة، وتعثره بجثته الجريحة عندما خرج من ميدانها في قريته كفركنا قبل سنة ونصف— كان معروفاً (أيضاً) لدى جهاز الشرطة وبعض الكنّاويين بعد حدوثها بساعات قليلة. كما أن العرب ومن يتمتع بإحساس إنساني لم يكونوا بحاجة إلى اعتراف الجيش بأن مقتل الثمانيني عمر أسعد هو “فشل أخلاقي”. فالجيش الذي قام باعتقاله وتكبيل يديه، وتعصيب عينيه، وخنقه بتثبيت لاصق بلاستيكي على فمه وسجنه في بيت طور الإنشاء لأكثر من ساعة في البرد القارس، لم يكن ينوي إرساله إلى أوليمبياد بكين، هو الذي قتله مع سبق التخطيط، وفي هذا السياق يجب طرح سؤال: لماذا جاء تأكيد اقتراف مجزرة الطنطورة والكشف عن وجود جثث حوالي 200 طنطوريّ في قبر جماعي تحت موقف للسيارات في مستعمرة (دور) التي هي الميناء الكنعاني دُوَر؟ ولماذا تم الكشف عن سلوك الـ”نيتساف” جمال حكروش بعد سنة ونصف من حدوث الجريمة؟ ولماذا قام الجيش بإجراء تحقيق حول مقتل المُسنّ أسعد؟
سيدعي البعض أن تأكيد حدوث المجزرة تم في إطار تعديل مسارها التاريخي، والسبق الصحفي وحريّة التعبير كما فعلت (هآرتس) في قضية الـ”نيتساف” المذكور، وتنقية جهاز الشرطة من أمثاله. أما إجراء التحقيق بمقتل المُسنّ أسعد فجاء تحت ضغط السفارة الأمريكية لأنه يحمل الجنسية الأمريكية.
على ما يبدو إن هذه الإدعاءات صحيحة موضوعيّاً لكنها غير كافية لتفسير تأكيد المجزرة التي رفضت جامعة حيفا الاعتراف بها عندما تقدم بها الباحث (تيدي كاتس) في رسالة ماجستير أعدها سنة 1998 وفصل المؤرخ (إيلان بابه) الذي دافع عنه من الجامعة.
أما سلوك الـ”نيتساف” حكروش وتورطه في خلافات داخل قريته كفركنا فكان معروفاً للقاصي والداني من أهالي القرية والمنطقة وجهاز الشرطة، كما ورد في وسائل الإعلام اليهودية المختلفة قبل أن تنقل عنها وسائل الإعلام الكسولة لمجاميع العرب في البلاد، مع ذلك عينه جهاز الشرطة قائداً لـ”قسم القضاء على الجريمة في المجتمع العربي- وحدة سيف” (كان هدفها الفعلي تجنيد 300 شرطيّ مسلم.) كما أنها ليست المرة الأولى التي يقتل فيها الجيش الإسرائيلي أحد رعايا أمريكا من العرب أو الأجانب، فأشهر عمليات القتل كان مقتل المتضامنة الأمريكية مع الفلسطينيين الشهيدة (راشيل كوري) في رفح بجرافة إسرائيلية عام 2003 لأن مقتلها شهد بالتأكيد الدامغ على تعاون أمريكا وإسرائيل على العرب ومن يتعاطف معهم.
* * * *
يدرك كل قارئ ومتابع حصيف ونقدي أن القراءة السطحية للأحداث المذكورة أعلاه ومثلها غير كافٍ لتقديم الأسباب والتفسيرات المقنعة، بل من شأن هذه القراءة أن تشكلّ تواطؤاً مع الأهداف الحقيقيّة- الخفيّة لمقترفي تلك الجرائم وغيرها. لذا يجب اعتماد منهج التكليف لسبر أغوار الخطاب الذي تقدمه السلطة وفهمها فهماً عميقاً ومحاولة تفادي نتائج ما تخطط له مستقبلاً. من هنا تبرز أهمية تأكيد اقتراف مجزرة الطنطورة ضمن سلسلة كشوفات لوثائق جديدة عن العدوان اليهودي الذي أدى إلى النكبة سنة 1948، رغم عدم ضرورتها لعرب فلسطين المنكوبين الذين فقدوا وطنهم والسيادة عليه بالمطلق، إلا أن مثقفيهم يتلقون هذا الكشف بأهمية ومتعة بالغتين وكأنها ستعيد اللاجئين إلى وطنهم، وستشكلّ البيّنة والدليل لإدانة المجرمين المستعمرين اليهود وطردهم من فلسطين. فهذا الكشف الذي يقوم به باحثون وصحفيون يهود بعضه لأغراض أكاديمية وبعضه الآخر لأغراض إعلامية، يصبّ تلقائياً في مصلحة المؤسسة الاستعمارية التي اقترفت كارثة النكبة، والتي وثقّت واحتفظت بوثائقها، مع أنها نفت حصول المجزرة بواسطة جامعة حيفا ومحاكمة (تيدي كاتس)، ثم استدركت وسمحت بكشف الوثائق واعترفت بالمجزرة.
بناءً عليه نستنتج أن مصلحة هذه المؤسسة تكمن في تذكير عرب فلسطين بما اقترفته أيادي مستعمريها- ليس هذا فقط- بل تحذيرهم من مغبة ما ستفعله بهم مستقبلاً وستجعلهم يحنّون إلى مجازر على شاكلة مجازر الطنطورة، ودير ياسين 1948، وكفر قاسم 1956، وصبرا وشاتيلا 1982، ومجزرتي يوم الأرض 1976 وأكتوبر 2000 .. وما آلاف القتلى من العرب منذ النكبة إلى يومنا الراهن إلا تأكيداً لما حصل وتمهيداً لما سيحصل من عنف من قبل الدولة الذي يُغرق به الفلسطينيون.
* * * *
إذا ما اقتنعنا بضرورة تناول فكرة التذكير، والتحذير والتهديد، يمكننا الانتقال بهدوء إلى قراءة قضيّة طرد الـ”نيتساف” حكروش من سلك الشرطة. يتضح من الأنباء والتقارير التي تناولها الإعلام الإسرائيل منذ أن ‘كشفت’ (هآرتس)، صحيفة النخبة اليهودية، في الرابع والعشرين من شهر كانون الأول 2021، أن حكروش لم يمنع جريمة مقتل الشاب غازي أمارة في قريته كفركنا في أيّار من العام الفائت، بل لم يسعفه عندما كان جريحاً قبل وفاته وتعثّر بجثته عند خروجه من العمارة التي قٌتل فيها أمارة.
خلاصة القول أن جهاز الشرطة كان على علم تام بسلوك حكروش، إلا أنه لم يفعل شيئاً تجاهه لا لصالحه أو ضدّه، بل انتظر التوقيت المناسب ليطرده من السلك، ليس لأنه غير مناسب كما أدعت البيانات الرسمية للشرطة وتقييمات وسائل الإعلام، بل من أجل أن يؤكد هذا الجهاز الذي يمثل المؤسسة اليهودية الحاكمة على أن العربي مهما علت مرتبته إلى “نيتساف” فإنه ليس كواحد منّا، بل عربي جوي/ goy، يجرده من كل خدماته التي قدمها للدولة، يمسح شوارع البلاد به ويزفّه قبل طرده- هذا ما فعلوه به. أما عن عدم فهم الـ”نيتساف” المذكور وإدراك عداء وعدوانيّة المؤسسة (التي خدمها) له و’شعبه’ فهذه فضيحة على مستوى عالٍ من قلّة المعرفة الذكاء. حصل هذا عندما شرع الكنيست توسيع صلاحيات تجسس الشباك على العرب وتفتيش الشرطة لمنازلهم.
* * * *
أما مقتل العجوز الثمانيني عمر عبد المجيد أسعد على أيدي الوحدة الحريدية في الجيش الإسرائيلي (نيتسح يهودا/ أبد يهودا) يعتبر أكثر خطورة لأن قتله تم مع سابق إصرار، ولكونه من رعايا أمريكا فقد “حقق” الجيش بقتله واكتفى بتوبيخ القتلة وفصل قائد الوحدة. هنا تكمن الخطورة: أمريكا تتواطأ مع قتلة أحد رعاياها! وتقول إن قتل الجيش الإسرائيلي لأيّ من رعاياها لأي سبب كان لا يستوجب العقاب كما فعلت مع مواطنتها الأمريكية اليهودية، (راشيل كوري) التي عجنتها جرّافة الجيش D9 على مرأى من وسائل الإعلام المختلفة.
هنا يجب العودة للتذكير بأن الجيش الذي قتل الثمانيني أسعد و(كوري)، هو الذي داست بساطير جيشه على الرضيعة، إيمان حجو، ابنة الأربعة أشهر في السابع من أيّار سنة 2001. بكلمات أخرى، تقول إسرائيل: سنقتلكم، لا فرق بين رضيعة وشاب أو عجوز؛ فرد أو جماعة؛ وتقول أمريكا: نحن مع إسرائيل لو قتلت كل الرعايا الأمريكيين الذين يحتجون على قمع إسرائيل للعرب!
* * * *
يتقاطع اعتراف الدولة بمجزرة الطنطورة (الذي أعتبره تحذيراً من مغبة مجزرة أو أكثر في المستقبل) مع تداعيات دراماتيكية منذ معركة “سيف القدس” في أيّار 2021 حين اعترف بعض قادة أجهزة الشرطة والأمن أنهم منعوا اقتراف المستوطنين مجزرة بحق عرب 48 الذين تحركوا إسناداً لصمود أهالي الشيخ جرّاح واستخدموا مُصطلح (Pogrom) المكروه من اليهود لأنه يذكرهم بما فعل البولنديون والأوكرانيون والألمان بحقهم قبيل وأثناء الحرب العالميّة الثانية، في حينه كتبت مقالاً بعنوان (عن مجزرة محتملة.. أتحدث!). إلا أن الشرطة تراجعت عن إمكانية منع مجزرة في المستقبل عندما قامت بتشكيل “فرقة تأهب” مسلحة في اللد، يشاركها في تشكيلها “المنتدى المدني لأمن اللد” و”النواة التوراتية” وبلدية اللد (هآرتس 7 آذار 2022). كما وصفهم رئيس المجال الأمني في النيابة العامة، المحامي شلومي أبرامزون، المسؤول عن حملة تقديم لوائح الاتهام الكبرى ضد الشبان العرب بالـ”أعداء من الداخل” (هآرتس، 23 شباط 2022). أما أهمّ التحذيرات والتهديدات فقد ورد في التقرير الاستراتيجي الإسرائيلي 2022 الذي يُشير إلى أن عرب 48 باتوا يشكلون أحد التحديات الوجودية للكيان، أي بمستوى إيران وحزب الله!
في الختام يمكن قبول هذه القراءة كما يمكن ردّها أيضاً، إلا أن التحذير مما هو آت بات ضرورة يجب تكرارها دوماً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى