صراع في الظل.. لهذه الاسباب تتفوق المخابرات الروسية على الـ«سي آي إيه» دائمًا

في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، في مدينة برلين، كانت الحرب العالمية الثانية قد انتهت لتوها، منتقلة لشكل آخر من الحروب أطلق عليها «الحرب الباردة»، وفي القلب منها «حرب المعلومات» إحدى تلك المغامرات كان قد جرى تنفيذها من طرف وكالة المخابرات الأمريكية «CIA»، وجهاز المخابرات البريطانية «MI6»، وهي «عملية الذهب» أو عملية «ساعة التوقيت»، وهي الأضخم والأكثر أهمية في «حرب المعلومات» تلك.
إذ قررت وكالتا استخبارات البلدين بناء نفق على بعد 20 قدمًا تحت سطح برلين من القطاع الغربي الأمريكي إلى الجانب الشرقي السوفيتي، وامتد النفق الاستخباراتي لـ1476 قدمًا، وشارك في حفره وإدارته آلاف الجواسيس الامريكان والبريطانيين، فقط من أجل التنصت على كابلات الاتصالات السوفيتية في الجهة الأخرى من برلين.
لكن في 22 أبريل (نيسان) 1956، وبعد 11 شهرًا و11 يومًا من التنصت على مكالمات السوفيت، أحضر السوفيت وسائل الإعلام العالمية ليكشفوا لهم عن النفق الأمريكي، في حدثٍ بقيَ وصمة فشل ذريع بحق المخابرات الأمريكية والبريطانية، وقد كان السوفيت على علم منذ البداية بخطوات الأمريكان، بفضل الجاسوس المزدوج، جورج بليك.
واستمرت كفة «حرب المعلومات» منذ الحرب العالمية حتى اليوم، وفي كافة محطاتها رجحت كفة الروس على نظرائهم الأمريكيين، إلا أن جوليان بارنز، وديفيد إي سانجر، ذكرا في مقالهما المنشور بصحيفة «نيويورك تايمز» أن المخابرات الأمريكية حققت نجاحًا أخيرًا على نظيرتها الروسية، وقالا إن «المخابرات الأمريكية نجحت في قراءة عقل السيد بوتين وتجريد أي عنصر من عناصر المفاجأة، وأن هذا أحد التطورات الأكثر لفتًا للانتباه في الأزمة الأوكرانية… فبعد إخفاقات استخباراتية بارزة، وأزمات عالمية أخرى على مدى العقود العديدة الماضية، أعطت دقة المعلومات الاستخباراتية الجديدة وكالة المخابرات الأمريكية مصداقية جديدة في الداخل والخارج».

«سي آي إيه» تجهل ما يدور بعقل بوتين
العديد من مسؤولي الإدارة الأمريكية أكدوا ذلك الانتصار المخابراتي منذ 24 فبراير (شباط) 2022 الذي مثَّل بداية التحرك العسكري الروسي نحو أوكرانيا، من إقليم الدونباس، والقرم، وبيلاروس، وعلى إثر التحرك، حصد جهاز الاستخبارات الأمريكية مكاسب حملة التسريبات حول نوايا الروس في غزو أوكرانيا التي بدأها في نهاية عام 2021.
وهو ما أحيا الثقة مرة أخرى في جهاز الاستخبارات بالداخل والخارج، ومثَّل المكسب الأكبر للولايات المتحدة من الصراع الروسي الأوكراني، بعد أن تحول الجهاز إلى مكتب بريد رديء مشكوك في جدوى وجوده، عدا عن تقديمه رحلات ترفيهية! لكن هل حقًّا انتصر مجتمع الاستخبارات الأمريكي على عدوه الروسي؟ وهل اقتحمت «CIA» عقل بوتين؟
تحدثت الاستخبارات الأمريكية عن تقرير يفيد بـ«غزو» روسي محتمل لأوكرانيا، التقرير سربته صحيفة «واشنطن بوست» مطلع العام 2021، قائلة إن «الاستخبارات الأمريكية خلصت إلى أن موسكو تخطط لهجوم متعدد الجبهات على كييف مطلع العام المقبل» واستند التقرير إلى «صور الأقمار الاصطناعية التي تظهر وحدات وصلت حديثًا في مواقع مختلفة على طول الحدود الأوكرانية».
وحينها وثقت الإدارة الأمريكية في معلومات وكالة المخابرات الأمريكية، ما دفع الرئيس الأمريكي، جو بايدن، للتأكيد أنه سيجعل «من الصعب جدًّا» على روسيا أن «تغزو» أوكرانيا، وأشارت التقارير المسربة للإعلام، إلى أن المعلومات الاستخباراتية جرى جمعها بعدة طرق، لكنها لم تفصح عنها خوفًا على مصادرها.
إلا أن صحيفة «لو فيجارو» الفرنسية أشارت إلى أن «المعلومات الاستخبارية التي كشف عنها الأمريكيون، والبريطانيون، الذين يتعاونون معهم بشكل وثيق داخل تحالف «العيون الخمس» بين الاستخبارات الناطقة باللغة الإنجليزية، ليست سوى معلومات خام تقليدية جرى جمعها من خلال صور الأقمار الاصطناعية والتنصُّت الإلكتروني».
وقال وليام بيرنز، مدير وكالة المخابرات الأمريكية، خلال جلسة الاستماع السنوية للجنة المخابرات في «الكونجرس»، إن الجهاز غير قادر على معرفة «كيف يمكن لبوتين أن يحقق هدفه، المتمثل في الاستيلاء على كييف واستبدال حكومة موالية بالحكومة الحالية»، وقد وضعت ضبابية المشهد في الكرملين، وفقدان الإدارة الأمريكية للمعلومات الدقيقة، الأمريكان طول فترة التصعيد مع روسيا، قبل شن الغزو، في موقف «حرِج» وعُرضةً للتهكم الروسي الشديد من المخابرات الأمريكية.
إذ حدد بايدن موعد «غزو» روسيا لأوكرانيا في 16 فبراير (شباط) 2022، في مؤتمر بالفيديو مع زعماء دول الغرب والاتحاد الأوروبي والناتو، ومن قبلها تسربت معلومة استخباراتية لوكالة «بلومبرج» الأمريكية، تفيد بأن «الهجوم» سيحدث في يوم 15 فبراير (شباط)، ما دفع حلفاء واشنطن في الناتو، للتشكيك بمعطيات المخابرات الأمريكية، بحسب صحيفة «بوليتكو» الأمريكية.
إذ أشارت الصحيفة إلى أن الأوروبيين لديهم معلومات مغايرة عن نظرائهم الأمريكيين، وقد أثَّر تحديد أكثر من موعد للغزو الروسي لأوكرانيا، في امتناع الرئيس الأمريكي بايدن عن تحديد موعد آخر، ليقرر ضمنيًّا استسلامه؛ معلنًا أن ميعاد الغزو «بوتين فقط هو من يعرفه».

لماذا تفوقت المخابرات الروسية على المخابرات الأمريكية؟
تمتلك الولايات المتحدة «مجتمع استخباراتي» من أكبر أجهزة جمع المعلومات الاستخبارية في العالم، إذ يتشكل المجتمع من تحالف 18 كيانًا استخباراتيًّا، وأكثر من 200 ألف موظف، وتبلغ ميزانيته 85.8 مليارات دولار، إلا أنها تتمتع أيضًا بسمعة ظلت مشوهة، في الداخل والخارج، منذ الحرب العالمية الثانية، مرورًا بخطط إطاحة النظام فيدل كاسترو في كوبا 1961.
وتعمق الفشل الاستخباراتي حين فاجأت القوات الشيوعية في فيتنام الشمالية الولايات المتحدة بشن هجوم واسع ومنسق ضد فيتنام الجنوبية في عام 1968، وكذلك اندلاع الثورة الإيرانية في 1979 وأزمة حصار السفارة الأمريكية، مرورًا بالفشل في توقع الغزو السوفيتي لأفغانستان في 1979، والأمر نفسه في الاختبار النووي الهندي في 1998، وهجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، وصولًا إلى غزو العراق عام 2003 عندما جرى نشر معلومات خاطئة علنًا تبرر الحرب.
وتمثلت ذروة الفشل الاستخباراتي الأمريكي في عدم توقع «CIA» بدقة مدى سرعة انهيار القوات العسكرية في أفغانستان في أغسطس (آب) 2021، لتتوج الإخفاقات الخارجية مسيرة وصم الجهاز داخليًّا بعد كشف إدوارد سنودن في 2013 محاولات المخابرات الأمريكية في التجسس على مواطنيها.
في المقابل، كانت المخابرات الروسية تعمل على مطاردة نظيراتها في العالم، ممهدة الطريق لتنفيذ سياسات الكرملين، في وقت سابق، نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» رسالة استخباراتية مسربة، أشارت إلى عدم قدرة الجواسيس على اختراق البلاد المعادية مثل روسيا والصين، ما يجعل معرفة خطط بوتين، أمرًا مستحيلًا.
كما تطرقت الرسالة إلى تنبيه المخابرات الأمريكية، لجميع مقرات وقواعد المخابرات المركزية حول العالم، من الارتفاع المقلق في أعداد الجواسيس الذين يُجنَّدون من دول أخرى للتجسس لصالح الولايات المتحدة ويتعرضون للأسر أو القتل.
وبحسب الرسالة، بدأت أجهزة الاستخبارات المعادية، في السنوات الأخيرة، في دول مثل روسيا والصين وإيران وباكستان في مطاردة جواسيس وكالة المخابرات الأمريكية، وفي بعض الحالات حوَّلتهم إلى عملاء مزدوجين.
كما اعترفت الوكالة بأن تجنيد الجواسيس تحول لعمل محفوف بالمخاطر، وأبرزت مشكلاتها التي ابتُليت بها الوكالة في السنوات الأخيرة، مثل ضعف أساليب التجسس، والثقة الزائدة في الجواسيس، والاستخفاف بوكالات الاستخبارات الأجنبية، والتعجل بتجنيد الجواسيس دون إيلاء اهتمام كافٍ للمخاطر المحتملة من أجهزة المخابرات المعادية، وقد تفاخر بوتين أكثر من مرة، بحملة «تصفية» لعملاء الاستخبارات الأمريكية، جاء آخرها خلال اجتماع لمجلس تنمية المجتمع المدني وحقوق الإنسان في روسيا العام الفائت.
وبحسب تقرير لأجهزة الاستخبارات الخارجية في إستونيا لعام 2022، أوردت فيه معلومات مفصلة عن طريقة عمل المخابرات الروسية، والتهديد الذي تشكله موسكو وبكين أيضًا على الغرب، ويقول التقرير إن الاستخبارات العسكرية الروسية، تتفوق وتتميز عن غيرها، من نظيراتها في العالم بأنها لا تكتفي بجمع المعلومات العسكرية، بل تضيف إليها معلومات عن الاقتصاد، والسياسة، والتكنولوجيا، والبيئة في المناطق المستهدفة.
وأكد أن المهمة الرئيسية لعملاء المخابرات الروسية العاملين هي «إعداد العمليات العسكرية الروسية في الخارج ودعمها، باستخدام المعلومات التشغيلية والتكتيكية التي يجري جمعها عن الدولة المستهدفة، وبفضل هذه المعلومات يجري تصور الوضع وانتشار القوات المسلحة في البلد المستهدف، خاصة تلك المتعلقة بحضور الناتو».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى