صفحاتٌ من الحربِ الروسيةِ الأوكرانيةِ.. عنصريةُ اللونِ والعرقِ والدينِ

كشفت الحرب الروسية الأوكرانية عن مخزونٍ أوروبيٍ كبيرٍ من الحقد والكره، والكراهية والتمييز العنصري، والفوقية والتعالي، والشيفونية والنرجسية، والتناقض وازدواجية المعايير، وغيرها من المساوئ والعيوب القبيحة التي تتمتع بها دول القارة الأوروبية وكندا والولايات المتحدة الأمريكية، وغيرها من الدول البيضاء اللون، الشقراء البشرة، الزرقاء العيون، المسيحية الديانة، التي تدعي الحضارة والتمدن، وتتشدق بالمدنية وحقوق الإنسان، وتتظاهر بالديمقراطية والمساواة، وتدعو إلى العدالة والإنصاف، ونبذ الفرقة والاختلاف، ورفض التمييز بين البشر على أساس اللون والعرق والدين.

فتحت الدول الغربية “المسيحية” صناديقها المالية، وخزائنها الإغاثية، وحساباتها المصرفية، وحدودها البينية، ومطاراتها الداخلية، ومحطات الحافلات والقطارات، والمدارس والملاعب والساحات العامة، وسخرتها جميعها لخدمة اللاجئين الأوكرانيين، الهاربين من حجيم الحرب ولهيب القصف، وتطوعت لجانٌ حكومية وأخرى مدنية وأهلية لإغاثة اللاجئين ومساعدتهم، وتقديم العون لهم، وتيسير انتقالهم إلى مختلف الدول الأوروبية التي أبدت الرغبة في استضافتهم وتقديم العون لهم، ولم تالُ الحكومات الغربية جهداً في تيسير انتقالهم ووصولهم وتأمين حاجاتهم، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا وكندا ودول الناتو، قد تعهدوا بتقديم مليارات الدولارات دعماً للحكومة الأوكرانية، ومساعداتٍ إغاثية للاجئين.

لا نعيب على الدول الغربية استضافتها للاجئين، ولا نريد منها أن تقصر معهم أو تتأخر في مساعدتهم، فهذا خلقٌ ندعو إليه ونصر عليه، ونرى أنه ينبغي على كل قادرٍ أن يقدم الدعم المستطاع والمساعدة الممكنة، فإغاثة الملهوفين ومساعدة المكروبين وإيواء اللاجئين مهمةٌ إنسانية، يجب على كل الشعوب أن تتحلى بها وتتصف، وأن تمارسها وتعتاد عليها، ولعله من المعيب الشائن عكس ذلك، كأن تغلق الدول حدودها، وتصم الشعوب آذانها، وتمتنع الحكومات عن مساعدة الفارين من ويلات الحروب وحجيم المعارك، خاصةً في مثل هذه الأجواء من الطقس البارد والمطير، وفي ظل الصقيع والعواصف وأعاصير الشتاء.

لعلنا نحن الفلسطينيين خاصةً والعرب عامةً أكثر من يعرف قيمة من يفتحون أبوابهم للجوء، ويمدون أيديهم لمساعدة المتضررين من الحروب والعمليات العسكرية، ويساهمون في التخفيف عن المتضررين وبلسمة جراحهم، فنحن على مدى أكثر من سبعين عاماً، نمثل أشهر وأكبر موجة نزوحٍ ولجوءٍ في التاريخ الحديث، وقد عانينا وما زلنا من آثار النكبة والنكسة، ومن عدوٍ لا يفتأ يقتل ويظلم ويعتدي ويبطش، وتكبدنا بسببه الصعاب وتجشمنا مشاق الهجرة والشتات واللجوء، ولهذا فنحن لا نتمنى أن يصيب ما أصابنا من محنٍ وشدائدَ أحداً، أياً كانت حنسيتهم وديانتهم، أو لونهم وعرقهم، فالظلم عموماً لا نقبله ولا نرضى به، ولا نشجع عليه ولا نسكت عنه.

لكن الذي أغاظنا وأثار انتقادنا، مجموعةُ التصريحات الرسمية والشعبية الأوروبية على لسان أكثر من مسؤولٍ رسمي، فضلاً عن تصريحات وتعليقات عامة المواطنين الأوروبيين، الذين وجدوا في سياسة حكوماتهم ما يشجعهم ويدعوهم إلى التمييز العنصري على أساس اللون والدين، فقد استعظم العديد من الأوروبيين أن يروا أناساً من ذوي البشرة البيضاء والعيون الزرقاء يعانون من اللجوء والشتات، ويقاسون في دول أوروبا من الحرب ويهربون من الموت، وهالهم أن يروا دماءهم تسفك وأشلاءهم تمزق، وهم الذين يرون بصمتٍ كل يومٍ آلاف الضحايا يقتلون ويبادون في أكثر من مكانٍ.

لن أتطرق إلى اللاجئين الفلسطينيين والعرب، ولا إلى الأفارقة والأفغان والبورميين، فأولئك جميعاً إما سود أو داكني البشرة، وعيونهم بنية أو سوداء، وأغلبهم مسلمون وينتمون إلى جنوب العالم الفقير، ولكنني سأتوقف فقط عند مسلمي البوسنة والهرسك، سكان أوروبا وقلبها النابض، وقبلهم عند مسلمي صربيا والجبل الأسود، الذين طحنتهم الحروب وشردتهم المعارك، وأبادتهم المذابح والمجازر، وقد كانت أوروبا كلها ترقبهم وتشاهدهم، وتتابع صورهم وتشاهد جثتهم، ولكنها لم تحرك إزاءهم ساكناً إلا بعد سنواتٍ من رحى الحرب الضروس، وعشرات المذابح والمجازر، وآلاف حالات الاغتصاب والاعتقال والتعذيب والتنكيل، وقد كان حرياً بهم أن يحموهم وهم سكان قارتهم، وجيرانهم في بلادهم، وشركاؤهم في أرضهم.

نتمنى لهذه الحرب أن تنتهي، وأن يعم السلام ويسود الأمن، وأن تتوقف عمليات التهجير وموجات اللجوء، وأن ينعم الإنسان عامةً بالحياة الآمنة المطمئنة في بلاده وعلى أرضه، وألا تتهدد حياة الشعوب وتخرب البلاد وتدمر الأوطان، ولكننا نتمنى من العالم أن يكون منصفاً عادلاً، نزيهاً صادقاً، وألا تكيل حكوماته بمكيالين، وألا تخضع سياساتُها الشعوب لمعيارين، وأن تتعمل مع الإنسان عامةً نصرةً وإغاثة، ومساعدةً واستضافةً، بعيداً عن اللون والجنس والعرق والدين، تلك هي الإنسانية الحقة، والعدالة المرجوة، والمساواة المنشودة.

 

                            الدورُ الأمريكيُ الخبيثُ

ليس هناك أدنى شكٍ في أن الإدارة الأمريكية هي التي فجرت الأزمة الروسية الأوكرانية، وأنها هي التي أشعلت فتيل الحرب بينهما وسَعَّرت أواراها، وأنها تتحمل كامل المسؤولية عن تدهور الأوضاع العامة في شرقي أوروبا، وأنها التي مارست التعبئة والتحريض، والفتنة والتخريب، وأنها التي نفخت في الكير وأغرت الحكومة الأوكرانية وخدعتها، ومَنَّتهَا وكذبت عليها، ووعدتها وأخلفت معها، فقد كانت معنية بالحرب وحريصةً عليها، ومهدت لها ويسرت السبل لاندلاعها.

مارست الإدارة الأمريكية الأكاذيب والأباطيل، ونشرت أقمارها الصناعية وبثت صورها الكاذبة وأخبارها الملفقة وتصريحاتها التحريضية، ونقلت صوراً مضللةً وحشوداتٍ مختلفةً، لتوحي بأن الحرب قادمة، وأن الاجتياح الروسي لأوكرانيا بات مؤكداً، وأن الحرب أصبحت مسألة وقتٍ ليس إلا، وضربت لاندلاع الحرب أكثر من موعدٍ وحددت أكثر من تاريخ، وهي أكثر ما تكون رغبةً في اندلاعها، وأحرص ما تكون على تجنبها وعدم وقوعها، فهي المستفيدة منها والرابحة من تداعياتها.

خُدِعَ الأكرانيون وصدقوا الدعاية الأمريكية، وشعروا بأنها معهم تؤيدهم وتنصرهم، وأنها ستقف إلى جانبهم وتساعدهم، وأنها لن تتركهم وبلادهم نهباً للروس وطعماً لآلتها العسكرية الجبارة، وأن حلف الناتو القوي المترامي الأطراف حتى حدودها، والذي تترأسه أمريكا، سيقف معها وستدافع عنها، وأنها بهما، أمريكا والناتو، ستكون قويةً وقادرةً على صد الغزو الروسي إن وقع، والصمود في وجه آلته العسكرية إن هاجمت واعتدت، وقررت الغزو والحرب والاجتياح.

لكن الإدارة الأمريكية، شأن كل الإدارات التي سبقتها، تمارس السياسة بخبث، وتتقن الدبلوماسية بدهاء، وتمتهن بحنكةٍ ودرايةٍ فن خلق الفتن وإشعال الحروب، ولا يعنيها خسائر الآخرين وضحاياهم، بقدر ما تعنيها وتدفعها مصالحها ومنافعها، وأهدافها وغاياتها، وهي في الغالب أهدافٌ معاديةٌ، وغاياتٌ تضر بأهل المنطقة وسكان الأرض وأصحاب الحقوق، والتجارب على ذلك كثيرةٌ وعديدةٌ، ولكن الشعوب تنسى أو الأنظمة والحكومات تسكت وتتغافل.

اندلعت الحرب واجتاحت القوات العسكرية الروسية الأراضي الأوكرانية، فبلع الأمريكيون ألسنتهم، وتخلوا عن مسؤوليتهم، وتراجعوا كالشيطان عن وعودهم، وأنكروا أنهم تعهدوا بحماية الأوكرانيين والدفاع عن بلادهم، وبدأوا بشنِ حربٍ دعائية تحريضية ضد روسيا، وأوفدوا للمهمة حلفاءهم من كندا وصولاً إلى بولندا، مروراً بألمانيا والعديد من المسؤولين في حكومات دول أوروبا الغربية، ولكنهم بدوا ضعفاء في مهمتهم، ومترددين في جهودهم، وغير واثقين من نجاحهم، بعد أن رأوا أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ماضي بحزمٍ، ومصر على مواصلة الحرب حتى تحقيق الأهداف التي أعلنها وحرك جيوشه من أجلها.

لن تتوقف الجهود الأمريكية الخبيثة التي قرعت طبول الحرب وأشعلتها، عند دوي المدافع وهدير الطائرات، وأصوات الانفجارات وعديد الضحايا وحجم الخراب، بل ستواصل مهمتها بخبثٍ ودهاءٍ، وهي تظن أنها ستنتصر فيها كعادتها، وستتفوق فيها وتنتصر، وتحقق أهدافها، وتعود كما كانت وتريد، سيدة العالم الأولى، وصاحبة القوة الأعظم والقرار الأوحد، وقطب العالم الوحيد الذي يتحكم في القرارات ويقرر مصير الشعوب ومآلات الدول والحكومات، ولكن الواقع هذه المرة قد يختلف، والنتيجة قد تكون مغايرة، فالدروس قد حفرت مكانها في الأذهان، وتركت آثارها على الأدمغة والأجساد، فلن تنساها الشعوب ببساطة، ولن تمر على خصومها التقليديين بسهولة.

إنها ليست أوكرانيا فقط، بل هي السياسة الأمريكية ذاتها في كل مكانٍ، فهم الذين يؤججون الفتن، ويفتعلون الأزمات، ويخلقون التناقضات، ويفجرون الحروب، ويفرضون السياسات الظالمة والحلول العنيفة، وهم الذين يختلقون الخصوم ويناصبون الشعوب العداء، ويمارسون ضدهم مختلف أنواع الظلم والعسف والعدوان، يحاصرون البلاد ويفرضون العقوبات، ويفسدون العلاقات، ويخربون الاقتصاد، ويتطلعون إلى نصرة الظالمين ومساندة المعتدين، كشأنهم المعهود مع الكيان الصهيوني، الذي ينصرونه بظلمٍ على الشعب الفلسطيني المظلوم، ولعلنا في قراءتنا لصفحات الحرب الروسية الأوكرانية، نتلمس كعربٍ وفلسطينيين ينفعنا، ونلتفت إلى ما يفيدنا ويحقق أهدافنا، شرط أن ندرس الأوضاع برويةٍ، وأن نقرر تجاهها بحكمةٍ ومسؤوليةٍ.

بيروت في 12/3/2022
[email protected]

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى