دفاعاً عن زعيمة العالم الحر.. روســــــــــــــيا

 

 

من سخريات القدر أن تعتبر أميريكا نفسها، و يعتبرها القطيع الذي ينقاد و رائها، ”زعيمة العالم الحر“. تأسست أميريكا على القرصنة و اغتصاب أراضي و حقوق الغير و بُنيت جميع ولاياتها على السخرة و العبودية، فأين هي من الحرية؟ إطلاق وصف زعيمة العالم الحر على تلك الدولة هو أشبه بإطلاق وصف كبير الأمناء على أكبر حرامي في البلاد. كل أحرار العالم و كل الشعوب التي ناضلت و ثارت على الاستعمار و حطمت أغلال الاستبداد و التبعية كانت تفعل ذلك ضد أميريكا (و قرينتها بريطانيا) و ليس بمساعدتها. حتى ما يسمى بحرب التحرير الأميركية لم تكن في حقيقة الأمر حرب تحرير بل كانت حرب منافسة جشعة بين جيش بريطاني غاصب و جيش آخر غاصب كل قادته و كل ضباطه يحملون الجنسية البريطانية فكانوا أشبه بأفراد العصابة التي يقتتل أفرادها علي تقسيم المسروقات. حرب التحرير الاميريكية الحقة هي الحرب التي خاضها و خسرها للأسف الشديد أهل البلاد ضد العدوان و القرصنة. قد تكون أميريكا زعيمة لكنها زعيمة العبودية و الطغيان التي يجري خلفها معظم دول العالم كما يجري العبيد و راء سادتهم و أيديهم مُكبّلة بسلاسل الذل و الإستعباد.

لا أعتقد أنه يمكن وصف دولة ما كزعيمة للعالم الحر، لكنني لو وجدت نفسي مضطراً لوصف دولة ما بهذا الوصف فأنا أختار روسيا. عندما ثار الفييتكونج في فيتنام ضد الاستعمار الاميريكي و ناضلوا في سبيل حريتهم كانوا يفعلون ذلك بدعم من روسيا و كانوا يحملون الكلاشنكوف الروسي و الذخيرة الروسية. و كذلك عندما ثار أبطال الجزائر و أبطال الثورة الكوبية و أبطال فلسطين و غيرهم من أحرار و ثوار العالم كلهم كانوا يحملون أسلحة روسية يقاتلون بها ضد الظالم الأميركي و أقرانه.

الأزمة الأوكرانية خطيرة و بالتأكيد لم تبدأ بالغزو الروسي قبل بضعة أيام بل بدأت بالتدخل الاميريكي/ الأوروبي السافر في شئون تلك البلاد سنة ٢٠١٤ عندما رفض الرئيس الأوكراني المنتخب أن يوقع اتفاقية تجارية مع الاتحاد الأوروبي مما أثار غضب أوروبا و أميريكا فأوعزتا إلى عملائهما بالنزول إلى الشوارع و خلق حالة الفوضى التي أدت إلى إقصاء الرئيس و إجباره على مغادرة البلاد. تم كل ذلك بترتيب و دعم و مباركة أميركية أوروبية. و في مثال فاضح للكيل بمكيالين قامت نفس تلك القوى الامبريالية بشجب الثورة الشعبية التي قامت في مصر في نفس الفترة و أطاحت بالرئيس مرسي و نددت بها و وصفتها بأنها إنقلاب على الشرعية و خرق للديمقراطية!

أوكرانيا تعني الكثير للأمن القومي الروسي لأنها دولة حدودية و نسبة عالية من الشعب الأوكراني يتحدثون الروسية أو لهم أصول روسية و يتبعون المذهب الأورثودكس من العقيدة المسيحية. بعد أحداث ٢٠١٤ عانت تلك الفئة من الشعب الأوكراني من الاضطهاد مما أجبرهم على إعلان جمهورياتهم في مناطق الدونباس في شرق البلاد و اشتعل القتال بين الفئتين منذ ذلك الوقت. بلغ عدد القتلى من سكان الدونباس ١٤٠٠٠ قتيل. و من ناحية استراتيجية فإنه لا يمكن لدولة كبرى أن تقبل بوجود قوات معادية على حدودها فكيف تقبل روسيا أن تكون أوكرانيا مرتعاً لقوات الناتو خاصة بعد تلك التعهدات بعد تفكك الاتحاد السوفياتي بأن لا يتوسع الناتو شرقاً باتجاه روسيا.

بعد تفكك الاتحاد السوفياتي أذعنت معظم الدول لأميريكا التي أصبحت تصول و تجول في العالم كما تشاء باعتبارها القوة العظمى الوحيدة. لكن بقي بعض الدول المستقلة الرافضة للتبعية الاميركية مثل الصين و إيران و روسيا و سوريا و كوريا. كان يفترض في روسيا أن تكون خضعت للإرادة الاميريكية بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، و هي فعلاً كانت كذلك أثناء رئاسة يلتسن الذي كان مخموراً على مدار الساعة لكنها عادت و وقفت علي أرجلها تحت قيادة فلاديمير بوتين، و هذا أمر لا يطاق من و جهة النظر الاميريكية. و هكذا بدأت حملة مسعورة لشيطنة بوتين و تكريه العالم به و ببلاده. و من المفارقات أن شعبية بوتين في روسيا كانت باستمرار حوالي ٩٠٪، أي أكثر مما يحلم به أي حاكم في الغرب، و كذلك شعبيته عند شعوب العالم هي الأعلى بين الحكام.

منذ صعود نجم بوتين و أميريكا و حلفائها في الغرب يعملون للقضاء عليه و على روسيا كقوة عظمى. اهتمام الغرب بالغزو الروسي لأوكرانيا ليس حباً في الأوكرانيين بل عشماً في أن تتحول هذه الحرب إلى افغانستان أخرى و تُسقط بوتين و تنهك روسيا فتعود ذليلة كسيرة تحت السيطرة الأميركية.

الرئيس فلاديمير بوتين كان محقاً في قلقه من تصرفات أوكرانيا و رئيسها (و هو يهودي صهيوني) الذي يريد أن يجعل بلاده مرتعاً لقوات الناتو. أي رئيس روسي يسعى لمصلحة بلاده كان سيفعل ما فعله بوتين. هل يمكن مثلاً أن تقبل بريطانيا بتحالف عسكري بين ايرلندا و روسيا؟ و هل نذكر كيف جن جنون أميريكا عندما وضعت روسيا صواريخها في كوبا؟ لكني أخشى أن يكون الغرب قد أحكم التخطيط لهذا الموقف ليكون فخاً تقع فيه روسيا. كان الغرب يقرع طبول الحرب منذ أسابيع و كأنهم يتمنون أن تقع و عندما بدأ الغزو استنكر الجميع و توحدت جهودهم للعمل ضد روسيا و محاصرتها و مقاطعتها مقاطعة تامة محكمة و بدأ تدفق الأسلحة لأوكرانيا و تنظيم مقاومة شعبية. و بغض النظر عن ظروف الغزو و الأسباب التي أدت إليه فإن آخر من يحق له التنديد به هو أميريكا و بريطانيا. أميريكا لها نحو ٨٠٠ قاعدة عسكرية موزعة في ٨٠ دولة و بريطانيا غزت في تاريخها ١٨٠ دولة من دول العالم (الدول التي لم تحتلها بريطانيا يمكن أن تعد على الأصابع). أميريكا و حلفائها سيعملون دائماً للتخلص من الانظمة التي ليست تحت سيطرتهم. اليوم روسيا و غداً الصين ثم إيران حتى تصبح الكرة الارضية كلها تحت سيطرتهم و عندئذ يفعلون بالشعوب ما يريدون.

قبل تفككه، كان رأيي دائماً أن شعوب العالم الثالث محظوظة بوجود الاتحاد السوفياتي لأنه كان كالجرعة المضادة للسُّم الأميركي، و كنت أرى أن مصلحتنا كعرب أن نحافظ على علاقات سياسية و تجارية طيبة معه. أهمية الاتحاد السوفياتي كانت في أنه كان القوة الوحيدة التي تستطيع أن تسكت أميريكا و توقفها عند حدها، و طبعاً نعرف ماذا جرى بعد أن انفردت أميريكا على الساحة. للأسف أن الصين رغم أنها قوة اقتصادية عظمى إلا أنها لم تأخذ مكانة الاتحاد السوفياتي و لا تزال مواقفها السياسية باهتة. روسيا تحت قيادة بوتين استعادت شيئاً من عافيتها و عادت إلى الانتاج الزراعي و الصناعي بعد سبات طويل، و هذا أيضاً لا تطيقه أميريكا.
الغرب عموماً يكره روسيا مهما كانت و هناك نظرة عنصرية دفينة تجاه الشعب الروسي. عنصرية هتلر ضد الشعب الروسي لم تكن من اختراعه بل كانت و لا تزال شائعة في الغرب الذي لا يطيق أن يرى روسيا قوية و متقدمة. استمرار وجود حلف الناتو بحد ذاتة يعتبر استفزازاً لروسيا لأن الحلف تأسس أصلاً لمجابهة الخطر السوفياتي فكان يفترض به أن ينتهي بعد انتهاء الاتحاد السوفياتي لكن الحلف لم ينتهي و لم ينكمش بل ازداد توسعاً.

الأزمة الأوكرانية خطيرة و آكثر خطراً من الأزمة الكوبية، و كما قلت سابقاً فإن الغرب سيقتنص الفرصة لتوجيه ضربات موجعة للاقتصاد الروسي و ربما القضاء على روسيا كقوة عظمى. و هنا مكمن الخطر لأن صدى كلمات بوتين لا يزال قوياً و مخيفاً: ” لن يكون هناك عالم من غير روسيا“.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى