الوحدة العربية .. ذلك الحلم الجميل

بقلم: د. موسى الحمداني/ لندن

 

 

في القرن الماضي كان كل عربي شريف يحلم بدولة عربية موحدة، و كان قدر جمال عبد الناصر أن يكون هو الزعيم الذي يتحقق على يدية ذلك الحلم عندما أعلن عن قيام الجمهورية العربية المتحدة في ٢٢ فبراير من عام ١٩٥٨. هلَّلَت الأمة العربية في كل مكان و استبشرت بدولة الوحدة التي قامت بإرادة شعبية خالصة و انتخابات ديمقراطية حرة و بلا أي تدخل سياسي أو عسكري مما زاد في حنق و حقد الأعداء من صهاينة و رجعيين. كانت الجروح التي سببتها اتفاقية سايكس بيكو مؤلمة للعرب و كانت الحدود التي فرّقت بين ديارهم شاهدة على غدر الاستعمار و تصرخ للثأر فجاءت الوحدة لتكون ردّاً قوياً على ظلم الماضي.

كانت تتصدر علم الوحدة نجمتان ترمزان إلى سوريا و مصر و كانت الشعوب العربية تخرج الى الشوارع لتطالب بالنجمة الثالثة و الرابعة. كان الأمل أن تكتمل المسيرة و يزداد عدد النجوم حتى يشمل كل الاقطار العربية لكن تمكن الأعداء من الغدر بذلك المشروع القومي الكبير في أعوامه الأولى. لو تقدمت مسيرة الوحدة، أو على الأقل لو عاشت الوحدة بين مصر و سوريا لتغير تاريخ المنطقة و ربما (والله أعلم) ما كان و قع عدوان ١٩٦٧ و حتى لو وقع لما هُزم العرب بتلك الطريقة النكراء، لكن قدر الله و ما شاء الله فعل. كان أملنا أن تكبر الجمهورية العربية المتحدة و تترعرع و تكون كما أراد لها زعيمها أن تكون ”تقوي ولا تضعف.. توحد ولا تفرق .. تشد أزر الشقيق، وترد كيد العدو …“. ها نحن اليوم بعد ٦٤ عاماً من ذلك التاريخ المجيد و قد تضاعف عدد دُوَلنا مرةً و تضاعف عددنا مرات و ازدادت ثروتنا و كثرتنا لكننا غثاء كغثاء السيل لا يحسب حسابنا أحد و لا يهتم بنا أحد. لا يختلف إثنان على أننا نعيش مرحلة ربما كانت الأسوأ في تاريخنا الطويل. فبعض أهم أقطارنا تحولت إلى دول فاشلة بينما تحولت دول الخليج ذات الثراء الفاحش إلى دول سادية لا تنام ولا يقر لها عين إلا برؤية دولاً شقيقة تنزف دماً و دمعاً و ترى شعوبها تجوع و تضنى و حواضرها تتدمر و تحترق.

للأسف أن حاضرنا هو النقيض تماماً للمستقبل الذي تمنيناه و سعينا من أجله في الماضي . لقد تراجعت النزعة الوطنية و عَلَى شأن الكيانات الخليجية التي طغت و تجبرت و أذعنت لأموالها سائر الحكومات العربية الأخرى. العرب الآن تحت تأثير الثقافة الرجعية الخليجية التي استأصلت منهم الكرامة و العزة القومية و زرعت فيهم الطائفية و حببت في نفوسهم التطبيع حتى أن كثيرين منهم بدأوا يتذوقون طعم الخيانة و الاستسلام لرغبات العدو الاسرائيلي.

و برغم هذا الحال البائس، لو قمنا بعملية حساب بسيطة نجمع و نحسب ما يمكن أن نحصل عليه فيما لو توحدت كل هذه الدول (و الدويلات) العربية في دولة واحدة كما كنا نحلم و كما كان جمال عبد الناصر يأمل و يسعى لتحقيقه. لو فرضياً تحققت مثل تلك الدولة العربية المتحدة الآن لكانت ستضم شعباً من ٤٠٠ مليون نسمة متجانس إثنياً و ثقافياً و ذو لغة واحدة و تاريخ مشترك و آمال و تطلعات مشتركة، و هذا النوع من التجانس بين السكان تتمناه كل الدول خاصة الدول الكبرى. و ستكون مساحة تلك الدولة المتحدة أكبر من مساحة الولايات المتحدة أو أوروبا بل تتميز عليهما بموقعها الجغرافي الفريد الذي يتوسط العالم و يتحكم في أهم معابر الملاحة العالمية. و كانت تلك الدولة ستنعم باقتصاد قوي متكامل و مصادر طبيعية و ثروة معدنية و بترولية هائلة. و كانت ستشمل أكثر من ثلاثين مدينة كبرى يفوق تعداد كل منها المليون نسمة و مئات الجامعات و المعاهد العليا. أما عن القوات المسلحة فحدث و لا حرج:

سيتجمع لدى تلك الدولة النظرية جيش من أربعة ملايين نسمة و سيفوق عددياً أي جيش آخر في العالم و ستكون ميزانيته ثاني أكبر ميزانية عسكرية في العالم و سيكون في ترسانته نحو ١٦ ألف دبابة و هو أكبر عدد من الدبابات في أي جيش في العالم (بينما لدى اسرائيل ١٩٠٠ دبابة). و سيكون لدى ذلك الجيش نحو ٦٥ ألف عربة مصفحة و هو أكبر ترسانة مصفحات في العالم. و ستتجمع لدى تلك الدولة قوات جوية في حوزتها نحو خمسة آلاف طائرة من مختلف الأنواع و لمختلف الأدوار منها نحو ١٤٠٠ طائرة مقاتلة ( بينما إجمالي ما لدى إسرائيل ٦٠٠ طائرة منها ٢٥٠ مقاتلة). أما الاسطول البحري فسيكون لديه حاملتي طائرات هليكوبتر و ١٦ غواصة و ٤٥ فرقاطة من مختلف الأنواع ( بينما لدى إسرائيل ه غواصات و ٧ فرقاطات).

الأرقام السابقة مأخوذة من موقع ”جلوبال فاير باور“ و هي تقريبية لكنها صحيحة إلا أنه يجب قراءتها بشيء من الحذر لأن القوة العسكرية يدخل فيها عوامل كثيرة غير الأرقام. و على أي حال فإنها أرقام تليق بدولة كبرى مع فارق أن الدول الكبرى لا تستجدي أحداً للحصول على السلاح و لا تشتريه من أحد بل تصنعه في مصانعها و بسواعد أبنائها. ما يهمنا حاليا هو إدراك أن تلك الدولة الكبرى ”النظرية“ موجودة فعلاً بين أيدينا الآن على شكل عشرات الدويلات الضعيفة التي لا يكترث بها أحد. ما نعاني منه اليوم من اضطراب في أمورنا و ضعف حالنا و اقتتالنا و فقرنا (و بَطَرنا) و خيبتنا و هواننا على الناس هو الثمن الباهظ الذي ندفعه كل يوم بسبب عدم تحقيق الوحدة في سبيل الإبقاء على دُوَيلاتنا الحالية. دولتنا ”النظرية“ في الواقع هي مجرد تجميع لما لدى العرب فعلياً الآن ــ و هم في أسوأ مراحل تاريخهم الطويل. أما العرب الوحدويون الشرفاء فيحلمون بدولة أغنى حضارياً و أمضى قوةً و أكثر تطوراً في كل المجالات .. لا تعتمد على الغير و تصنع كل شيء من الإبرة الى الصواريخ .. دولة متقدمة و لا مجال فيها للطائفية و لا الأفكار الرجعية .. و فوق كل ذلك تحمل بصمة جمال عبدالناصر الاستقلالية فلا تأتمر من أحد و لا يتدخل في شئونها أحد.
من بديهيات الحياة و حقائقها الثابتة أن الإتحاد قوة و ليس مصادفة أن كل الامبراطوريات القديمة و الحديثة كانت و لا تزال عبارة عن اتحادات بين شعوب متعددة. و لنا عبرة في الولايات المتحدة و الاتحاد الأوروبي حالياً و الاتحاد السوفياتي و الامبراطورية البريطانية سابقاً، و إمبراطوريات الفرس و الروم و الأمويين و العباسيين في الماضي البعيد.

الوضع الحالي للعرب شاذ و غير مقبول لأنهم يمتلكون من مقومات الوحدة أكثر مما يمتلكه أي شعب آخر في العالم. الشعوب الأوروبية مثلاً ذات لغات و ثقافات مختلفة و لا يجمع بينها إلا ذلك التاريخ الطويل من المنازعات و الحروب الطاحنة. أما اميركا فهي خليط من كل شعوب الأرض و ثقافاتهم، و في الاتحاد الروسي و الصين شعوب من خلفيات اثنيه متنوعة تتكلم لغات عديدة و لها ثقافات متباينة. إنها مفارقة عجيبة أن تعيش كل تلك الشعوب تحت سقف دول متحدة بينما يعيش العرب فُرادى تماماً كما أراد لهم المستر سايكس و المسيو بيكو قبل أكثر من قرن من الزمان.

فهل من الممكن أن تقوم الوحدة العربية هذه الأيام؟ للأسف أن ذلك غير ممكن لأنه لا يريدها أحد. لا يريدها الحكام العرب لما فيها من تهديد لعروشهم و مراكزهم و لما تشكله من تهديد لصديقتهم إسرائيل التي يخطبون وُدّها ليل نهار. و طبعاً لا تريدها إسرائيل لأسباب مصيرية واضحة، كما أنه لا تريدها الدول الاستعمارية. في الواقع أن القوى المعارضة للوحدة العربية هي نفسها التي كانت موجودة عام ١٩٥٨، لكن يومها كانت لدينا زعامات قوية و كانت الشعوب العربية تطالب بالوحدة بحماس ملتهب، أما الآن فقد انطفأت شعلة الحماس أو كادت. فبعد عشرات السنين من البرمجة و غسل الدماغ أصبح لدينا كثير من ”المُتعقّلين“ الذين يعتقدون أن الوحدة مجرد شعار فارغ يدل على التهور و الاندفاع و يجب نبذه مع الشعارات الأخرى مثل التحرر الوطني و التصدي لإسرائيل و القوى الاستعمارية.

تحقيق الوحدة يلزمه شعوب واعية مؤمنه بضرورتها و حتميتها و يلزمه قيادات و طنية قوية من نوعية جمال عبد الناصر. و لهذا فإننا للأسف لن نرى الوحدة في زماننا هذا و ستبقى تلك الضرورة القومية حلماً و أملاً للشرفاء العرب حتى زمان آخر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى