ذكرى مولد الزعيم

في مثل هذه الأيام قبل ما يزيد على قرن من الزمان ولد لأمتنا العربية زعيم قلَّما جاد الزمان بمثله و هو جمال عبدالناصر. ولد لأبوين بسيطين من عامة الشعب و عاش مع عامة الشعب و تشرب عاداتهم و تقاليدهم و أحس بأحاسيسهم. أدرك محنة وطنه الذي كان راضخاً تحت نير الاحتلال. و أيقن بسرعة أنه لا سبيل للأمام إلا بعد أن يتحرر الشعب من قيوده و يمتلك زمام أموره. كانت الحرية مطلباً أساسياً يُلِحٌّ على الملايين من شباب مصر، لكن الذي ميَّز جمال عبد الناصر عن أولئك الملايين أنه اعتبر تحقيق ذلك الهدف كما لو كان مسئولية شخصية تقع على عاتقه شخصياً و أنه لا بد له من القيام بها. كان ذلك الموقف أول علامات الزعامة التي ظهرت مبكراً على جمال عبد الناصر الذي وضع هدفه نصب عينيه و انبرى يتحمل المخاطر و الصعاب من أجل تحقيقه و نجح في ذلك و هو لا يزال في الثلاثينات من عمره.

يوصف جمال عبدالناصر عادةً في الكتابات الغربية بالقائد ”الكاريزمي“، و الكتابات العربية أيضاً غالباً ما تستعمل نفس التعبير من غير ترجمة. و كلمة ”كاريزما“ كلمة يونانية قديمة و تعني ”هبة سماوية“ و مشتقة من كلمة ”charity” التي تعني ”صدقة أو هبة مقدسة“. و المقصود أن الآلهة تهب بعض القادة بشخصية و جاذبية تحببهم للناس و تجعلهم يدينون لهم بالولاء. فالقائد الكاريزمي تتجسد فيه الخصال التي يتمناها رعيته في قائدهم مثل الجاذبية و القوة و الشجاعة و الثقة بالنفس و الأخلاق العالية. و لا يزال معنى ”القيادة الكاريزمية“ يعني ذلك و يضاف إليه النضوج و مراجعة النفس و الاهتمام بالرعية مع التأكيد على أن القائد الكاريزمي له مقدرة غير عادية على التواصل مع الشعب و إقناعهم بأفكاره و طموحاته و حماسته. أثناء بحثي عن التعريف المتفق عليه للقيادة الكاريزمية و جدت نفسي أقع على دراسة مُسهبة لمجموعة من الباحثين ذكرت عدداً من الشخصيات التاريخية التي اتصفت بالكاريزما مثل السيد المسيح و بوذا و غاندي، لكن الذي لفت انتباهي أن الدراسة نفسها اتخذت من شخصية جمال عبد الناصر نموذجاً باعتبار أن الصفات الكاريزمية تمثلت فيه بوضوح.

الزعماء يُخلقون و لا يُصنعون و لا توجد في العالم مدارس أو جامعات، مهما بلغ تميّزها و تقدمها، قادرة على أن تجعل من طلابها زعماء و تمنحهم في ذلك الدرجات العلمية المختلفة. و في هذا تختلف الزعامة عن السياسة إختلافاً كبيراً، فهناك معاهد متقدمة لتدريس العلوم السياسية وتمنح طلابها درجات جامعية عالية في مختلف التخصصات و تُحَضِّرهم لتبوُّؤ المناصب الحكومية العالية. و الغرب يذهب إلى أبعد من هذا حيث يتدرب المرشحون للمناصب العليا على أيدي أخصائيين في أصول الكلام و فنون الكذب و الخداع و في كيفية التعامل مع الأسئلة المحرجة أو التملص منها. بل يتدربون أيضاً على كيفية المحافظة على مظاهرهم عند المشي و الوقوف و الجلوس، و هذا كله قد يصنع منهم ممثلين أو رجال مبيعات لكنه لا يصنع منهم زعماء. هدف السياسيين دائماً هو الحصول على المناصب أما هدف الزعماء فهو تحقيق التغييرات اللازمة التي يعتقدون انها لمصلحة الشعب. قد يصل السياسيون إلى أعلى مناصب الدولة و يستقر بهم المقام و يطول و لكنهم لا يصبحون زعماء، و مثال الرئيس المصري السابق حسني مبارك ليس عنا ببعيد.

في صباه، شارك جمال عبدالناصر في مظاهرات الطلبة و دفعته زعامته اليانعة لأن يكون في الصدارة و يتحمل عواقب نشاطاته. ثم وجدناه بعد حرب فلسطين يؤسس تنظيم الضباط الأحرار و رأينا كيف كان منصب قيادة التنظيم يؤول دائماً إليه و يستقر بين يديه طوعاً. كان زعيماً بين زملائه يُلهمهم بوطنيته و تفانيه و ثقته و بعد نجاح الثورة أصبح زعيماً بين قادة العرب و دول عدم الانحياز و واحداً من أهم زعماء العالم.

لم يكن جمال عبد الناصر يعتبر نفسه سياساً محترفاً، و أكد ذلك مراراً في أحاديثه و خطبه طيلة فترة حكمه. حتى في فترة الستينيات من القرن الماضي و بعد أن أصبح وراءه سجل حافل بالانتصارات السياسية المبهرة كان لا يزال يصر على أنه مجرد رجلٌ وطنيٌ يعمل لمصلحة شعبه و وطنه. و هذا كله يصب في صالحه فقد كان أنقى و أطهر من أن ينضم إلى أندية السياسة التي عادة ما تفوح رائحتها بالكذب و الخداع و الرشوة و الفساد.

كان زعيماً ملهماً ( أو كاريزمياً، كما يوصف عادةً ) بكل ما في الكلمة من معنى، و كأن التعبير صيغ من أجله. عندما كان يؤمن بضرورة وطنية معينه، مثل الاعتزاز بالنفس و رفض الأحلاف و بناء السد العالي و التصدي للعدوان، كنت تجد العرب برمتهم آمنوا بتلك الضرورات و اقتنعوا بها و كأن كل منهم كان جمال عبدالناصر. كان الأمر يبدو و كأن أشعة أو أمواجاً خفية كانت تنبعث من ذلك القائد و تنطلق إلى أفئدة الملايين حاملة معها ليس فقط أفكاره و طموحاته بل أيضاً عزيمته و قوة إرادته. في زمانه، كانت الأمة العربية تؤمن بضرورة التحرر و الوحدة و الوقوف ضد الاستعمار و مقاومة العدوان و رفض الافكار الرجعية تماماً كما كان يؤمن بها ذلك الزعيم الملهم. و بعد رحيلة انطفأ ذلك الشعاع و انطفأت معه شعلة العزة الوطنية و همدت العزيمة و عشَّشت الأفكار الانهزامية و الرجعية في أفئدة الأجيال اللاحقة.

كان رحمه الله عفوياً يعيش على طبيعته بلا تصنع و لا تكلف. لم يكن ثرياً و لم يحب البذخ و لم يسعى للثروة. فقد ذكرت المرحومه قرينته أنه أخذها يوماً لترى المنزل الذي خُصِّصَ له في منشية البكري لكنه لم يعجبها و فضَّلت عليه البقاء في شقتها و لكن أقنعها زوجها و وعدها ببعض التحسينات. أي أنه لم يَرَ حرجاً في أن يُخَصَّصَ له منزلاً عادياً تماماً بينما كان هو أقوى رجل في مصر! في أعياد الثورة كان يواجه الآلاف من الجماهير و يخاطبهم بارتياح و سكينه، و أحياناً يمازحهم، و كأنه كان يخاطب جمعاً من أهله و أصدقائه … و هو فعلاً كان يحس أنهم أهله و أصدقائه.

لم يقتصر عهد عبدالناصر على القيم الوطنية العليا مثل النضال في سبيل الحرية و مقاومة الاستعمار، كما يتخيل بعض الشباب اليوم، بل كان عهداً حضارياً مزدهراً بامتياز. كانت للزعيم رؤية مستقبلية بعيدة و كان متفائلاً في مستقبل الأمة العربية و كذلك كان العرب مثله متفائلون. كانت أشعة النهار الجديد قد بزغت و بددت ظلام الاستعمار و ظهرت بشائر الخير و المستقبل الزاهر. كانت مصر في عهده تتبوأ مقعدها الطبيعي في القيادة و تخطو خطوات جبارة إلى الأمام و تقيم قواعد المجد الصناعي و العلمي و الثقافي. كان جمال عبدالناصر أكثر الحكام إدراكاً لأهمية التقدم العلمي و الثقافي و أحرص ما يكون على المشاركة في عيد العلم للاحتفال بالعلماء و إنجازاتهم. كيف لا و هو نفسه كان قارئاً نَهِماً ذو ثقافة موسوعية. توقدت في عهدة شرارة الإبداع الثقافي و ازدهرت المراكز الثقافية و الترجمة و النشر و الانتاج الفني بكل أشكاله. بعد رحيله انطفأت تلك الشرارة و ماتت روح الإبداع و خيم ظلام الجهل. زرت القاهرة قبل بضع سنين و استفسرت عن مكتبات عَلّني أشتري بعض الكتب و صُدمت عندما وجدت المعروضات عبارة عن أقلام و مساطر و أدوات مدرسية! و أخيراً عندما و جدت مكتبة تبيع كتباً كانت أكثر الكتب عن تفسير الأحلام و الطهي و المذكرات الشخصية المحشوة بالكذب. تحسرت على الأيام التي كنت أزور فيها معرض الكتب الذي كان يقام في الجزيرة و الذي كان يعرض آلاف الكتب العربية و الأجنبية في كل فروع الأدب و العلوم.

أذكر يوماً في القاهرة في أوائل السبعينات، و كنت محبطاً لتراكم أخبار ميوعة الإرادة الوطنية و انحسار العزيمة السياسية، كنت أستمع إلى حديث إذاعي مع الموسيقار كمال الطويل الذي اشتهر بغزارة إنتاجه و رقي فنه في العقدين السابقين. كان يحاول الإجابة على سؤال عن سبب تدني المستوى الفني في مصر عموماً و عن سبب نضوب انتاجه شخصياً بعد غزارته المعهودة. قال: “لا أدري، لكن في العقدين الماضيين كان الجو أفضل لإنتاج الفن الراقي و كأَن الهواء نفسه كان مشحوناً بأفكار فنية و طاقة تحث على العمل و الابداع، و هذا كله غير موجود الآن“. أصابت تلك الكلمات وتراً حساساً لديّ لأني كنت مدركاً للتغييرات التي كانت تحدث في مصر بعد رحيل الزعيم الكبير و كأن الروح التي صعدت كانت روح مصر لا روح عبد الناصر. كان في وجوده أماناً و استقراراً و أملاً و كانت عزيمته و قوة إرادته و مناعته تنعكس على شعبة و أمته العربية. تجسدت فيه روح مصر، بل روح الأمة العربية كما تجسدت فيه آمالها و طموحاتها. بعد رحيله توقفت عجلة التقدم و أصبح حال مصر كحال السيارة التي يتوقف موتورها عن العمل فتتباطأ رويداً رويداً ثم تقف تماماً .. بل قد تنزلق الى الخلف!

و هنا يحضرني قول الشاعر:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم …. و لا سراة إذا جهالهم سادوا
و كأن ذلك الشاعر الجاهلي كان يصف حال أمتنا اليوم!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى