فشل جامعاتنا في بناء الانسان وتطوير الثقافة العربية

الجامعات هي المراكز التي يفترض أن تساهم مساهمة فعالة في بناء الوطن، وتثريه علما وأدبا وفنّا، وتقرّر مستقبله ومكانته بين الأمم. ففي الجامعات يمضي الشباب والشابات أجمل سنوات عمرهم، وأكثرها تغييرا بنيويّا معرفيّا وخبرة حضارية، ثم ينضمون لمجتمعاتهم كأساتذة مدارس وجامعات وأطباء ومهندسين وصيادلة ورجال أعمال وقانون وسياسة إلخ. ليقوموا بواجب المشاركة في قيادة الوطن وبنائه وحمايته.
الشواهد على هذا كثيرة في عالمنا المعاصر. فالجامعات في الدول الأكثر تقدما هي التي أنارت طريق الإنسان وبنته وحررته من الجهل، وجعلت تقدم تلك الدول وازدهارها ممكن التحقيق نتيجة لجهود أساتذتها والطلاب الذين درسوا وتثقفوا فيها، وإداراتها المختارة على أساس الكفاءة، وليس على أساس المحسوبيّة والواسطة والولاء للحاكم، ولأن الأفكار الابداعيّة الخلاقة تنبثق وتشجع وتتبنى هناك، والأبحاث في جميع المجالات والتخصصات تجرى هناك، والحقائق والنظريات العلمية التي تغيرّ العالم تكتشف هناك، والمحاضرات الثقافية المميّزة التي يلقيها كبار العلماء والمثقفين تلقى هناك، والحرية الأكاديمية والفكرية تقدّس وتحمى وتمارس هناك، والعقول الشابة المتفتحة تنموا وتنضج هناك، والجزء الأهم من الفكر التجديدي الإبداعي العلمي والسياسي والديني والأدبي والفلسفي والفني ينتقل إلى تلك المجتمعات والعالم من هناك. ولهذا فإن الدولة التي تريد أن تقوى وتزدهر، وتبني الانسان الحديث الواعي المنتج، وتقيم مجتمعا حرا متطورا له مكانته بين الأمم، لا بد لها أن تبدأ من هناك.
بعد حياة تدريسيّة في جامعة عربية وثلاث جامعات أمريكية تجاوزت الأربعين عاما، إنني أذكر بمرارة وألم ما قاله عن جامعاتنا العربية رئيس وزراء ليبيا الراحل عبد الحميد البكوش رحمه الله قبل ما يزيد عن ربع قرن ” الجامعات العربية مراكز محو أميّة.” نعم إنها مراكز تساهم في كبت الحريات وفي نشر الأميّة الثقافية، ودعم الدكتاتوريات السياسية والفكر الظلامي المتقوقع الماضوي الذي ألحق ضررا بالغا بمجتمعاتنا واقتصادنا وعلومنا وثقافتنا وإنساننا.
هناك أسباب متعددة لفشل جامعاتنا أولها هو سيطرة الدولة عليها، وتدخلها بشكل مباشر وبالتنسيق مع أجهزة المخابرات في تعيين رؤسائها وأساتذتها الذين غالبا ما يتم اختيارهم على أساس التبعية السياسية، أو القبلية، أو الطائفية، أو الحزبية، أو المحسوبية، وليس على أساس الكفاءة العلمية والنزاهة.
ثانيا: الحرية الأكاديمية كما تطبق في دول العالم المتطور، ما زالت غير معروفة في جامعاتنا وممنوعة قانونيا. فكل من يفهم في التعليم يدرك جيدا أن الحرية الأكاديمية هي أساس نجاح التعليم الجامعي في مهامه الحيوية الإبداعية المتعددة، ولا يمكن له أن يقوم بدوره ويؤتي أكله في غيابها. لماذا؟ لأنها تعني أن لعضو هيئة التدريس الحق والحماية القانونية أن يفكر كما يشاء، ويعتنق الفكر الذي يشاء، ويعبر عن رأيه بحرية وبدون خوف، ويكتب ويبحث بحرية تامة، وينشر أعماله بدون تدخل من أحد، وينضم إلى الحزب الذي يختاره، وينتقد الدولة وحاكمها ومخابراتها وسياساتها ولا يخاف من الاعتقال والسجن والطرد من العمل والاقصاء والتشهير، كما يحدث في جامعاتنا عندما لا يلتزم بما تريده الدولة وعملائها ومخابراتها. والحرية الأكاديمية أيضا تحمي الطالب من الدولة وتمنحه الحق في أن يفكر ويبحث ويسأل ويعبر عن رأيه في السياسة والاقتصاد والفلسفة والدين والشأن الاجتماعي بحرية وبدون خوف من مدرسيه أو من الدولة.
ثالثا: النظام التعليمي في جامعاتنا نظام طارد للعلماء لافتقاره الشديد لمراكز البحث العلمي. فالدول العربية لا تصرف شيئا يذكر على البحث العلمي؛ فمصر، الدولة العربية الأكبر، تصرف عليه مبلغا ضئيلا 0.5 % من دخلها قد لا يكون كافيا لدفع أجور المكاتب، ولا يتوفر منه شيئا لشراء التقنية الحديثة اللازمة لإجراء بحوث جادة تساهم في تطوير الصناعة والزراعة والاقتصاد والعلوم والآداب والفنون، بينما تخصص إسرائيل 3.9 من دخلها للبحث العلمي، وتعتبر من أكثر دول العالم اهتماما به وصرفا عليه.
رابعا: البحوث التي ينشرها عدد كبير من أعضاء هيئات التدريس في معظم جامعاتنا العربية وتؤدي إلى ترقيتهم من أستاذ مساعد إلى مشارك وأستاذ تفتقر إلى الإبداع؛ ولهذا فإنها نادرا ما تنشر في دوريات علمية عالمية معترف بها ولها احترام ومصداقية، وغالبا تنشر في مجلات محلية، أو في نشرات لنفس الجامعة، أو في مجلات وجهات تنشرها مقابل ثمن مادي. فهناك مجلات ودوريات تسمي نفسها علمية في عدد من الدول العربية والأجنبية تنشر أي بحث لا قيمة له مقابل حفنة من الدولارات، وأن كثيرا من أساتذة جامعاتنا حصلوا على ترقياتهم بعد أن نشروا مقالاتهم وأبحاثهم في مجلات محلية وأجنبية لا مصداقية لها، أو في مجلات ” ادفع وانشر وترقى.”
خامسا: المناهج الدراسية في جامعاتنا ما زالت تتحكم فيها السياسة، والمخابرات، والسلطة الدينية، حيث لا يمكن تدريس كتاب ينتقد الدولة وسياساتها، أو يبحث في تاريخنا وثقافتنا وقيمنا الدينية والاجتماعية وتعليمنا واقتصادنا بصدق وحرية وينتقد ما يجب نقده كما يرى الكاتب، ولا يسمح باعتماده كجزء من المنهج إلا إذا قبلته ووافقت عليه الدولة ومخابراتها الممثلة بإدارة الجامعة. ولهذا فإن مناهجنا ما زالت قائمة على فلسفة النقل والحفظ، وليس على إعمال العقل والتجربة والمشاهدة.
للأسف حتى قبول الطلاب في الكثير من جامعاتنا لا يتم على أساس المنافسة الشريفة والمساواة بين الطلاب المتقدمين بطلبات الالتحاق. في دول العالم المتطوّر سياسات القبول واضحة للجميع، ومبنيّة على أساس معدّل الطالب في الثانوية واجتيازه الامتحانات المقررة، حيث المساواة والعدالة في قبول الطلاب تطبّق على ابن رئيس الدولة وعلى أبناء فقرائها بالعدل والمنافسة العلمية النزيهة. أما في جامعاتنا فإن الوضع مختلف تماما حيث إن الواسطة، والمحسوبية، والمكرمات الملكيّة والأميريّة والسلطانيّة والرئاسية المتعددة وغيرها من الممارسات الغير منصفة تمكّن اعدادا كبيرة من الطلبة الفاشلين الذين نجحوا في الثانوية العامة بمعدلات متدنية جدا من القبول في الأقسام العلمية والأدبية التي يختارونها، وتحرم الأذكياء جدّا بما فيهم أبناء الفقراء من القبول، وتكون النتيجة أن جامعاتنا تخرّج أعدادا كبيرة من الجهلة في كل شيء بما في ذلك تخصّصاتهم العلميّة، والوطن يدفع ثمن هذا تخلفا وجهلا وانحطاطا.
ولهذا فإن جامعاتنا مرآة تعكس تخلّف وفساد دولنا ومجتمعاتنا لأنها تساهم بشكل مباشر في إبطاء التغيير والتطوير العلمي والثقافي، وفي استمرار الاستبداد السياسي والارهاب الفكري، والتعصب الديني، وتنفي وتحاصر العقل المبدع الخلاّق القادر على لعب دور مهم في تغيير واقعنا المرير.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى