هيكل والسادات وكيسنجر.. مراجعات عند الجذور

حضور «هنرى كيسنجر» فى واجهة الإعلام الأمريكى لافت بذاته، كل ما يكتب عنه يثير اهتماما وكل ما يصرح به يأخذ مداه فى الذيوع.
فقد اكتسب سمعة استثنائية ما بين عامى (1969) و(1977) على عهدى الرئيسين «ريتشارد نيكسون» و«جيرالد فورد» مستشارا للأمن القومى ثم وزيرا للخارجية بأثر نجاحه فى إنهاء حرب فيتنام وصناعة الوفاق الدولى والتقارب مع الصين.. ثم الدور الجوهرى الذى لعبه فيما كانت يطلق عليها «أزمة الشرق الأوسط».
في أية مراجعة عند الجذور لا يمكن تجاهل ذلك الدور فى إجهاض النتائج السياسية لحرب أكتوبر، ولا الأخطاء الفادحة التى ارتكبها الرئيس الأسبق «أنور السادات» فى تسهيل هذه المهمة.
المراجعة ضرورية حتى لا نتصور بالوهم أن «السادات» سابق عصره و«كيسنجر» رجل سلام.
فى كتابه «الأزمة: تشريح لأزمتين كبيرتين فى السياسة الخارجية» كتب «كيسنجر» نصا فى صفحة (110): فى الساعة العاشرة والنصف بتوقيت واشنطن يوم (7) أكتوبر بعد نشوب العمليات العسكرية فى سيناء بساعات تلقيت اتصالا مستغربا من الرئيس «السادات» على شكل رسالة موقعة من مستشاره للأمن القومى «حافظ إسماعيل»، وصلتنى خلال قناة المخابرات الأمريكية، الرسالة تخطرنا بموقف مصر السياسى فى الحرب، وبصرف النظر عن الإشارات التى وردت فيها عن ضرورة العودة إلى خطوط (1967)، فقد كان اعتقادنا بتحليل الرسالة أنها مجرد افتتاحية، وقد كان المهم فى نظرنا هو مخاطر الاتصال بنا على هذا النحو فى هذه اللحظة، ذلك أن معنى هذه المخاطر هو ما لم يقل:
1ــ إن الاتصال بنا معناه أن الرئيس السادات قرر أن يعتمد علينا.
2ــ وإن معناه أنه على استعداد بنواياه وسياساته أن يبتعد عن الاتحاد السوفييتى.
3ــ وإنه قرر أن يهجر السلاح بما فى ذلك سوريا.
وكان تحليل عبارة الرسالة ــ على ما يضيف «هنرى كيسنجر» ــ يوحى لنا بوضوح أن «السادات» قرر عدم مواصلة الحرب بعد المدى الذى وصل إليه، ولم تكن هذه الاستنتاجات مجرد ظن، وإنما بدت نتائج حتمية من تصرفه فى هذه اللحظة على هذا النحو.
وكانت الفقرة الخطيرة فى رسالة «السادات»: «إننا لا نعتزم تعميق مدى الاشتباكات، أو توسيع مدى المواجهة».
وعلى الفور اتصل «كيسنجر» بـ«وليم كولبى» مدير المخابرات الأمريكية فى ذلك الوقت، الذى كان قد اطلع على الرسالة الخطيرة، وتساءل مستغربا: «لماذا لم ينتظروا؟!».
ثم يروى كيسنجر فى صفحتى (115)، (116) من كتاب «الأزمة» أنه نقل لسفير إسرائيل فى واشنطن «سيمحا دينتز» نص الرسالة التى يتعهد فيها الرئيس «السادات» بعدم تعميق مدى الاشتباكات، أو توسيع مدى المواجهة، وكانت تلك خدمة جليلة لإسرائيل أوقات حرب عصيبة].
كان ذلك ردا مفحما بالوثائق على ما ذكره الرئيس الأسبق «حسنى مبارك» فى أبريل (2005) أثناء حوار تلفزيونى طويل، من نفى قاطع أن تكون هناك قناة اتصال خلفية خاصة مع الأمريكان من خط تليفونى ربط بين السادات وبين مكان ما فى الولايات المتحدة.
«أكيد الذى يكتب هذا الكلام هو شخص ضد الرئيس السادات ــ قاصدا الأستاذ محمد حسنين هيكل ــ ثم إنه لو كان للرئيس السادات مثل هذه القناة السرية لتم الكشف عنها، فالأمريكان لا توجد لديهم سرية، بل كانوا قالوا وتحدثوا عن هذه الاتصالات مائة مرة، وخرجت الوثائق التى تتضمن الاتصالات عبر هذه القناة، ففى أمريكا لا يوجد شيء يتم فى الخفاء».
كان ذلك النص، الذى ترجمه «هيكل» بنفسه، حاسما فى السجال الذى دار أيامها على صفحات جريدة «العربى».
وقد استعنت بتلك الترجمة فى الرد على «مبارك».
وفق وثيقة أخرى لـ«كيسنجر» ــ كشف عنها «هيكل» فى حديث متلفز ــ أن وزير الخارجية الأمريكى قال لمجموعة العمل الخاصة به: «أرى أن السادات وقد عبر قناة السويس لن يفعل أكثر من الاكتفاء بالجلوس هناك.. وأنا لا أعتقد أنه سوف يقوم بتعميق مدى عملياته فى سيناء».
لم يكن «كيسنجر» يخمن، أو يرجح، ولا الوحى هبط عليه فى مكتبه وسط مجموعة عمله، بل كان على يقين كامل، فلقد أخطره «السادات» بنواياه والعمليات العسكرية ما زالت جارية.
لم ينشأ ذلك الاتصال عفو الخاطر، ولا بتقدير سياسى مفاجئ أخطأ التصرف.
الحقيقة أن «السادات» كان متشوقا لفتح قناة اتصال مع «ساحر الخارجية الأمريكية الجديد» دون أن يجد طريقا مأمونا إليه فيما كان «كيسنجر» نفسه شغوفا بلقاء «هيكل» بتأثير ما قرأ له وما سمع من أن لهما نفس طريقة التفكير.
ضايقت «السادات» الطريقة المستقلة التى تصرف بها «هيكل» دون أن يراجعه بالاعتذار للمستشار الألمانى «فيلى برانت» عن قبول اقتراح للقاء «كيسنجر» بعيدا عن الأنظار.
كان رده على المستشار الألمانى: «هذا ليس وقته».
بأثر ضيقه منح «السادات» فى الأيام الأخيرة من عام (1972) الضوء الأخضر لرئيس تحرير الأخبار «موسى صبرى» لكتابة مجموعة مقالات أرادت أن تقول: «القلم الوحيد»، كما أطلق عليه، أوشك على الأفول، وأن العهد الجديد له رجال جدد ليس بينهم ذلك القلم الذى «يضفى على نفسه أهمية ليست له».
بدا رد «هيكل»، كما لو أنه على «السادات» لا على «موسى صبرى» الذى لم يشر إليه.
كان عنوان المقال: «أنا وكيسنجر.. مجموعة أوراق» وقد أسند كل حرف فيه إلى وثائق ومراسلات وشهود قرب خروجه من «الأهرام» تأكد لديه أن أسلوب التفاوض، الذى يتبعه «السادات» سوف يؤدى إلى تنازلات فادحة لا لزوم لها، فكتب بطريقة شبه مباشرة عن اعتراضاته بتاريخ (18) يناير (1974) مقالا تحت عنوان: «أسلوب التفاوض الإسرائيلى» جاء فيه: «من القواعد العلمية للتفاوض ألا يتعرض للتفاصيل، وليس القرار النهائى، شخص يملك سلطة واسعة، ذلك لأن هذا الشخص سوف يكون دائما مطالبا بتنازلات يعرف الذين يفاوضونه أن أمرها على الأرجح بيده».
فى الفترة ما بين (5) أكتوبر (1973) حتى أول فبراير (1974)، قبل حرب أكتوبر بيوم إلى قبل خروجه من «الأهرام» بيوم، كتب مجموعة مقالات أسست لقطيعة نهائية ضمها فيما بعد كتاب: «عند مفترق الطرق».
أراد أن يقول: «إننى أختلف»، وهذه أسبابى التى أتحمل مسئوليتها ونتائجها.
أسباب الاختلاف مع «السادات» لم تكن شخصية ولا عابرة، فقد عكست ضمن ما عكست خيارات متناقضة فى استراتيجية الإدارة السياسية لحرب أكتوبر.
أومأ إلى ما يجرى خلف الأبواب الموصدة: «إن الفارق بين الفكر الاستراتيجى الإسرائيلى والفكر الاستراتيجى العربى هو أن الإسرائيليين يلعبون الشطرنج، فى حين أن العرب يلعبون الطاولة».
لم يخف «السادات» ضيقه بالرسالة المضمرة، معتقدا أنه المقصود شخصيا بلعب الطاولة معتمدا على حظ الندر، لا الشطرنج حيث التفكير فى حركة بيادقه.
قبل أن يصل «كيسنجر» القاهرة لأول مرة طالع ذلك المقال.
كانت المفارقة أنه أبدى إعجابا شديدا بمنطقه عندما قابل «هيكل».
بعد نحو ثمانية أشهر من مغادرته «الأهرام» اتصل به «السادات» طلبا للتواصل من جديد.
شارك بصورة أو أخرى بالمفاوضات مع «هنرى كيسنجر» فى المحاولة الأولى لفك الارتباك الثانى، وقد جرت بأسوان فى شهر مارس من عام (1975).
«لم تنجح هذه المحاولة، ولم أكن شديد الأسى على فشلها، بل إننى أحب أن أتصور أنه كان لى نصيب ــ ولو ضئيل ــ فى إفشالها».
لم يخف «هيكل» إعجابه بقدرات «كيسنجر»، لكنه حذر طويلا وكثيرا فيما يشبه الإلحاح من الوقوع فى أفخاخه وإضاعة ثمار العمل العسكرى والتضحيات التى بذلت فى ميادين القتال.
عارض خيارات «السادات» وأسس أسبابه على وثائق مؤكدة سندت الحركة الوطنية المعارضة لاتفاقيتى «كامب ديفيد».
لم يكن «السادات» داهية ولا سابقا لعصره.
بتعبير «هيكل»: «لا بد أن نحفظ للأوصاف حرمتها».
ولم يحتاج «كيسنجر» لأى مجهود كبير لتأسيس ما تسمى حتى الآن بـ«عملية السلام»، التى أوصلتنا إلى «سلام القوة» والتطبيع المجانى ونزع مناعة العالم العربي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى