44 عاماً على خطاب “المرتد” انور السادات في الكنيست
بقلم: حسام عبد الكريم*

يوم 20 تشرين ثاني (نوفمبر) 1977 ألقى أنور السادات خطابه “التاريخي” في الكنيست الاسرائيلي. وكان قبلها بيوم قد وصل الى القدس المحتلة في خطوةٍ أرادها “الرئيس المؤمن” المغرم بالقفزات من خندقٍ لآخر أن تفاجئ العالمَ كله وبالذات الاسرائيليين الذين اعتقد أنه بمبادرته “الشجاعة” تلك سوف يأسر قلوبهم ويدفعهم الى السلام دفعاً ولإعادة ما احتلوه سنة 1967 الى مصر والعرب بكل طيبة نفس. ماذا يريد الاسرائيليون أكثر من أن يأتيهم رئيس اكبر دولة عربية خاضت معهم خمس حروب بنفسه الى عقر دارهم وبدون شروط عارضاً عليهم السلامَ والأمانَ والقبولَ في منطقةٍ طالما رفضتهم وعادتهم ؟ سيقدّرون ما قام به وسيتعاونون معه وسيعطونه ما يريد ليعود الى شعبه مزهواً بالانجاز الكبير. هكذا فكّر انور السادات , وهذا ما أقنعه به كيسينغر وتشاوتشيسكو والحسن الثاني.
وهذه بعض ملامح ذلك الخطاب , الموثق بالصوت والصورة والمنشور بنصه كاملاً على الموقع الرسمي للكنيست الاسرائيلي.
الخطابُ كان مليئا بالعبارات الحالمة والتعابير الانشائية التي تشبه ما يقال في مسابقات ملكات الجمال عن الحب والسلام:
“إنَّ الأطفال الأبرياء, الذين يفقدون رعاية الآباء وعطفهم, هم أطفالنا جميعًا.
إنَّ الزوجة التي تترمل, هي إنسانة, من حقّها أن تعيش في أسرة سعيدة, سواء كانت عربية أو إسرائيلية.
من أجل بسمة كل طفل يولد على أرضنا. من أجل كل هذا, اتخذت قراري أن أحضر إليكم.
لكي نُقِيم صرحًا شامخًا للسلام يشعّ لأجيالنا القادمة أضواء الرسالة الإنسانية نحو البناء والتطور ورِفعة الإنسان.
لماذا نُورِث هذه الأجيال نتائج سفك الدماء, وإزهاق الأرواح, وتيتيم الأطفال, وترمل الزوجات, وهدم الأُسر, وأنين الضحايا؟
وأنّ ما هو قادم هو البداية الجديدة, للحياة الجديدة, حياة الحب والخير والحرية والسلام.”
وطبعا هذا النوع من الكلام ليس أكثر من ثرثرة إذ لايوجد أحد على ظهر الارض يكره الخير والسلام او يريد ان يحرم الاطفال من بسماتهم. وأما الحروب التي تخوضها الاممُ والشعوب فلها اسبابها وغاياتها التي ليس من بينها أن تترمل الزوجات ولا أن يفقد الاطفال عطف آبائهم. وفي حالة الشعب المصري تحديدا, والعربي عموماً, فإنه تعرض الى عدوان صهيوني غاشم لم يكن يملك معه سوى خيار الرد والدفاع عن النفس والارض.
وليته اكتفى بتلك الكلمات عن الانين والضوء الذي يشعّ , بل انه تقمّص دور القدّيس والشاعر حين قال :
“يا كل ضحايا الحروب,
– إملأوا الأرض والفضاء بتراتيل السلام.
– إملأوا الصدور والقلوب بآمال السلام.
– إجعلوا الأنشودة حقيقة تعيش وتثمر.”
وبشكلٍ لا يمكن وصفُهُ إلا بالتفاهة والسخافة تحدث السادات عن “الحاجز النفسي” الذي يفصل بين العرب والاسرائيليين والذي لا بد من كسره! فقال ان هناك جداراً “يشكل حاجزًا نفسيًا معقُّدًا بيننا وبينكم. حاجزًا من الشكوك, حاجزًا من النفور, حاجزًا من خشية الخداع, حاجزًا من الأوهام حول أي تصرف أو فعل أو قرار, حاجزا من التفسير الخاطئ لكل حدث أو حديث.
وهذا الحاجز النفسي, هو الذي عبّرتُ عنه في تصريحات رسمية, بأنه يشكّل سبعين في المائة من المشكلة.
وإنني أسألكم اليوم, بزيارتي لكم, لماذا لا نمدّ أيادينا, بصدقٍ وإيمانٍ وإخلاصٍ, لكي نحطم هذا الحاجز معًا؟”
هل يوجد سفاهة أكثر من الاعتقاد بأن الصراع في فلسطين وعليها انما هو نوع من المشاكل النفسية ؟! ويقول ان %70 من المشكلة تكمن في الحاجز النفسي بين الطرفين ! ومعنى ذلك ان تحطيم “الحاجز النفسي” سيجعل العرب والاسرائيليين يحبون بعضهم البعض وبالتالي تنحل المشاكل ويعمّ السلام! وكأنّ لا اسباب موضوعية للصراع , الاحتلال والتشريد مجرد امور نفسية بحاجة الى فرويد!
وطبعا كان لا بد أن يلجأ السادات للنصوص الدينية في هكذا مناسبة:
“وأستلهمُ آيات الله – العزيز الحكيم – حين قال : ” قُلْ آمنَّا بالله ومَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ واسماعيلَ وإسْحَقَ وَيَعْقُوبَ والأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى والنَّبِيُّونَ مِن رَّبِهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون ” صدق الله العظيم
ولم يكتفِ بالقران الكريم بل وصل الى مزامير داوود :
لماذا لا نردّد معًا من مزامير داوود النبي :
“إليك, يا رب, أصرخ. اسمع صوت تضرعي, إذا استغثت بك. وأرفع يدي إلى محراب قُدْسك, لا تجذبني مع الأشرار ومع فَعَلة الإثم, المخاطبين أصحابهم بالسلام, والشرّ في قلوبهم. أعطهم حسب فِعلهم, وحسب شر أعمالهم. أطلب السلامة وأسعى وراءها”.
وأضاف : اللهم إنني أردد مع زكريا قوله: ” أحبوا الحقّ والسلام”
وأما من ناحية المضمون السياسي : فقد قال السادات..
“إن الانسحاب الكامل من الأرض المحتلة بعد 1967, أمر بديهي, لا نقبل فيه الجدل, ولا رجاء فيه لأحد أو من أحد”
وهذا الكلام ثبت انه مجرد دعاية واعلام و من باب إشهار موقف امام شعبه والامة العربية. فلم يحصل انسحاب كامل رغم كل استجداءات السادات من كيسينغر ومن بعده جيمي كارتر.
وقال ايضا :
“إنني لم أجئ إليكم لكي أعقد اتفاقًا منفردًا بين مصر وإسرائيل. ليس هذا واردًا في سياسة مصر. فليست المشكلة هي مصر وإسرائيل. وأي سلام منفرد بين مصر وإسرائيل, أو بين أية دولة من دول المواجهة وإسرائيل, فإنه لن يُقِيم السلام الدائم, العادل, في المنطقة كلها”
ولكن الذي حصل انه أبرم بالفعل سلاماً منفردا بين مصر و اسرائيل ,دون حل القضية الفلسطينية.
وأخبر السادات الاسرائيليين انهم مرحّبٌ بهم أجمل ترحيب في منطقتنا :
“أنتم تريدون العيش معنا في هذه المنطقة من العالم. وأنا أقول لكم, بكل الإخلاص, إننا نرحب بكم بيننا, بكل الأمن والأمان”
وبعد أن اكد على حق “اسرائيل” ان تعيش مطمئنة وآمنة من اي عدوان من جيرانها العرب , اضاف السادات:
” بل إننا نعلن أننا نقبَل كل الضمانات الدولية, التي تتصورونها, وممّن تَرضَونه أنتم”
اي انه يدخل المفاوضات وهو يقبل سلفاً بكل ما قد يطلبه الطرف الاخر من ضماناتٍ قد تصل الى تقييد سيادة مصر على ارضها وحدودها (وهو ما حصل بالفعل) وتضع ضوابط لها في تحالفاتها وعلاقاتها الخارجية بل وتتدخل في شؤونها الداخلية (مثل التربية والتعليم) بحجة حماية السلام.
وفيما يتعلق بالقدس, صحيحٌ انه قال “هناك أرض عربية احتلتها, ولا تزال تحتلها, إسرائيل بالقوة المسلحة, ونحن نصرّ على تحقيق الانسحاب الكامل منها, بما فيها القدس العربية” ولكنه اضاف عبارات وكلمات تشي باستعداده لقبول ترتيبات اخرى بشأنها , غير “الانسحاب الكامل” ! فقد اضاف كلاماً عن الديانات الثلاث و مدينة حرة مفتوحة :
“القدس التي حضرت إليها باعتبارها مدينة السلام, والتي كانت, وسوف تظل على الدوام, التجسيد الحيّ للتعايش بين المؤمنين بالديانات الثلاث. وليس من المقبول أن يفكر أحد في الوضع الخاص لمدينة القدس, في إطار الضم أو التوسع. وإنّما يجب أن تكون مدينة حرة, مفتوحة لجميع المؤمنين”.
وقد ذكر السادات الشعب الفلسطيني وحقوقه في الخطاب :
“إنَّ قضية شعب فلسطين, وحقوق شعب فلسطين المشروعة, لم تعد, اليوم, موضوع تجاهل أو إنكار من أحد. بل لا يحتمل عقل يفكر أن تكون موضع تجاهل أو إنكار”. وأضاف ان من أسس اتفاق السلام ان يقوم على “تحقيق الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني, وحقّه في تقرير المصير, بما في ذلك حقّه في إقامة دولته.”
ولكن ومن أهم الملاحظات على خطابه أنه على رغم طوله واسترساله لم يذكر موضوع اللاجئين الفلسطينيين وحقهم في العودة لوطنهم على الاطلاق.
بعد مرور اكثر من اربعة عقود على خطابه, أثبتت الحقائق والوقائع على الارض ان السادات لم يكن سابقاً لعصره وزمانه ولا عبقرياً صاحب رؤية, بل كان سياسياً فاشلاً قصير النظر عجز عن فهم طبيعة الكيان الصهيوني الذي لا زال الى اليوم يحتل الارض العربية ويرفض الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني ويعربد في المنطقة العربية بعد أن كبّل السادات أيدي أكبر بلدانها , مصر, باتفاقيات وتحالفات وأدخلها في حالة تبعيةٍ لأمريكا التي قال ان %99 من الاوراق في يدها. لا زالت الحروب لم تتوقف، والسلام لم يتحقق كما تنبّأ بائعُ الوهم الكبير.
*كاتب و باحث من الاردن