أزمة المثقفين العرب
بقلم: محمود كامل الكومي*

بين المطرقة والسندان يعيش شعبنا العربي حالة من التوهان , وقد تجلت أعراض هذه الحالة حين انتشرت جراثيم الرأسمالية الطفيلية علي أرضنا العربية تنخر وتقوض أركان الأمة على أمل تسليمها جثه هامدة لقوى الرأسمالية العالمية التى تُسَير حركتها وتدور فى فلكها .
أفة الرأسمالية المحلية – وقد ابتليت بها الشعوب الفقيرة , خاصة شعوبنا العربية البعيدة عن آبار النفط – والتي تَستَنزِف قواها وعرقها وكدها وفائض أنتاجها , لتتكدس ثرواتها نتيجة سرقات فائض القيمة لتصب فى خزائن المؤسسات النقدية الأمريكية والصهيونية , تمثل فى النهاية ” مطرقة” شديدة الطَرق ِعلى حياه شعبنا الكادح العامل , الطامح أبداً أن تسود بلدانه العدالة الاجتماعية , أملاً فى حياه سياسيه تحفظ حقه وتصون قوت يومه وتبدل معيشته الى رخاء.
وبين سندان المثقفين – المتعالين على شعوبهم والقابعين فى أبراج عاجية يرتلون فيها رؤاهم الفكرية ونظيراتهم السياسية وأيدلوجياتهم النظرية التى تحيط بذواتهم، بعيدا عن هَمِ الشعوب وآمالها فى تغيير الواقع المُر الى عيش تتنفس فيه عدالة اجتماعيه ,لتحقق فيه حرية سياسيه تبعا لذلك .
يقبع شعبنا العربي فى رهان خاسر بكل تأكيد بعد أن خذله كثير من المثقفين حين قبِلوا أن يلعبوا سياسة مع الشيطان , وبرروا الصلح مع اسرائيل , وتسامحوا مع الرأسمالية المحلية بحجه أنها تملك رأس المال القادر على أن يوفر التواصل الأعلامى والوصول الى الجماهير , فكان السقوط فى براثن ثقافته المعادية للشعوب بتدمير كل القيم الثقافية الأنسانيه وتعظيم الذات والأنا والنرجسية على حساب الصالح العام والوطنية والقومية.
فى الخمسينات والستينات من القرن الماضي وحتى وفاة الزعيم جمال عبد الناصر , صعد المثقف المصري والعربي الى قمة الوعي الثقافي والإدراك العلمي والفعلي لأهمية دور المثقفين فى كشف العدو الرأسمالي المستغل، ومدى ارتباطه بالرأسمالية العالمية والأمبرياليه لتحقيق مصالحها وغاياتها فى مقابل تحقيق ذاتيته وأنانيته الفردية على حساب الجماهير العربية , وفضح المثقفين فى الدول التقدمية خطورة الرجعية العربية النفطية كرأس حربه لتحقيق الأهداف والمصالح الرأسمالية للوصول الى الأمبرياليه فى أبشع صورها , وفرّق المثقف العربي بين الرأسمالية الوطنية التى تشارك فى تحقيق ألخطه الأقتصاديه وثَمَنَ دورها بين تحالف قوى الشعب العامل , وبين الرأسمالية المستغلة التى أعتبرها رافد الأمبرياليه , تساهم فى تدمير اقتصاد الوطن العربي وترهن أرادته السياسية وتعمل على تبعيته للامبريالية العالمية.
بعد وفاه “ناصر” , وفرض “السادات ” لاتفاقيه السلام مع العدو الصهيوني , بإيعاز من قوى الرجعية العربية فى الخليج العربي وعلى ضفاف الأطلسي , بدا سقوط المثقفين وتدنىِ الثقافة والفكر والقيم والمبادئ ”مريعاً” , وصار كل شيء يدخل فى كل شيء الى أن وصلت الثقافة والمثقفين الى الحالة المذرية التى نعيشها الآن , وبدا أن رأس المال قد حدد العُهر بديلا عن المصارحة والمكاشفة واحترام حقوق الإنسان , واستبيحت القيم والمبادئ وبدت النرجسية والذاتية بديلا عن الصالح العام والوطنية والقومية , وعاد المثقفون يروجون لسياسة الانحناء وتقبيل أيادي الأمراء والملوك , وأصبحوا ضيوفا على قنوات ” العهر والشيكابيكا” التى بثها المنتفخة جيوبهم بعوائد البترول المسروق من بين جوانح شعوبهم ,وسايرتهم الرأسمالية العفنة فى كل بلدان العرب , فأفقدوا الشعوب توازنها وأهدروا قيمها ومبادئها , وجعلوا من العدو الصهيوني صديق ومن الجار الايرانى “عدو” وسعروا نار ألمذهبيه والطائفية بين السنة والشيعة ,وساير البعض من المثقفين هذا “العُهر”ووقف البعض الآخر يتفرج . وكانت أزمة المثقفين العرب تضغط على الشعب العربي يسندانها , وكأن مطرقة الرأسمالية العفنة لم تكن كافيه فى طرقها لتكسر عظام شعبنا الفقير .
تمر الثقافة العربية وتبعا المثقفون العرب بحاله تعر أخلاقي وقيمي غير مسبوقة , مما يحدو بنا الى أن نلقى الضوء على الثقافة وتبعا المثقف، قبل أن نشير الى أعراض الأزمة وطرق علاجها .
لكن قبل البدء فى التعريف ,فأنه بجدر بنا أن نشير الى أنه ليس من المنطق أن يسود التعميم أو الشمولية , فلا جدال أن هناك مثقفين عربا ومصريين قادوا النضال وبصّروا الشعب بمخاطر الرجعية العربية وتعرضوا لتجريد ملابسهم فى نضالهم ضد ألرأسماليه وأتباع الصهيونية من الرجعية العربية , ولذا فهم تاريخ وواقع عملي يكون قاعدة نبنى عليها ونطورها للخروج من تلك الأزمة , ولرحابه أفق وتجديد فكرى يؤسس لطليعة ثوريه تقود شعبنا العربي نحو نهضة جديدة ووطن خال من اسرائيل وعملائها .
باختصار شديد الثقافة هي : “تهذيب النفس” أو “الفن والحضارة” أو هى مجموعة القيم والأفكار لأفراد في مجتمع ما. أو هى كما قال أحد السلف مجموعة القيم التي يكتسبها الفرد في بيئته ومحيطه, ومع التطور والتمدين للتعريف حديثاً, صار مفهوم الثقافة مرتبطاً بقيم ومبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان بصفة عامه , فلا مجال إذن للحديث عن الثقافة بمعزل عن الديمقراطية وحقوق الإنسان.
وتبعا لما سلف يبدو تعريف المثقف : فى أنه هو حامي قيم الخير والعدل والحرية، المدافع عن جماهير المظلومين وحقهم بحياة حرة كريمة, يتجلى فيها حل الصراع الطبقي بأذانه الفوارق بين الطبقات بطريقه سلميه، ولا يمكن للمثقف أن يصبح يوما في جوقة الظلمة ومواكب المنافقين , وإلا صار فى عداء مع ما تدعو إليه الجماهير .
على أن المثقف العربي يجب أن يتميز بثقافته القومية وانتمائه العروبى , بما يرسخ الصراع العربي الصهيوني فى عقليته بأنه صراع وجود وليس صراع حدود, ويستتبع ذلك أن تسود ثقافة المقاومة لمجابهة كل عملاء الاستعمار والصهيونية من حكام الرجعية العربية.
تجليات الأزمة وأعراضها :
منذ اتفاقيه العار بين السادات والعدو الصهيوني بدت أعراض أزمة المثقفين العرب تتكشف حتى تعرت تماما فى أعقاب ما سمى “بثورات الربيع العربي”, وقد تجلت مظاهر تسلسل تلك الأزمة فيما يلي :
-1- فى أواخر السبعينات شن المثقفون العرب هجوما قويا على مصر من دون تفرقه بين نظام السادات والشعب المصري ” الذي مازال يقاوم التطبيع ”وتخندق المثقفون العرب مع من هندسوا للاتفاق الصهيوني الساداتي ” حكام الرجعية العربية وتحقيق أهدافها .
– 2- ساهم بعض المثقفين المصريين فى تبرير أتفاق السادات مع اسرائيل ( لطفي الخولى رئيس تحرير مجله الطليعة اليسارية) بل وصل الأمر الى حد زيارة بعضهم لإسرائيل ( المخرج على سالم والكاتب أنيس منصور).
– 3- التزم كثير من المثقفين العرب الصمت إزاء الهجوم على الاتحاد السوفيتي ” نصير الشعوب ضد التبعية الأمريكية ” بل كثير منهم شارك فى الهجوم عليه باعتبار أن الشيوعية فقر والحاد والرأسمالية غنى وازدهار ,لينقلبوا 360 درجه على الواقع الذي ناضلوا من اجله ضد الراسماليه المستغلة, عدو الشعوب وسارق فائض انتاج عمالها، والقاطرة التى تسحب الدول العربية للتبعية للاستعمار والأمبرياليه.
– 4- لم تدرك الغالبية من المثقفين العرب حقيقة قناة “الجزيرة القطرية” فى نشر ثقافة صهيونيه – وعيرها من فضائيات الخليج – بديلا عن الثقافة العروبة وثقافة المقاومة- تؤدى الى خلق الفوضى بين ربوع الأمة العربية والترويج لدوله اسرائيل لتقود شرق أوسط جديد , وشاركوا فى كل برامجها .
– 5- فيما سمى بثورات الربيع العربي , لم يكن للمثقفين دور فى ترشيد الوعي الجماهيري ولا قيادته، وحينما بدا أن الصهيونية والمخابرات الأمريكية والرجعية الخليجية تلعب بأصابعها للترويج للفوضى الخلاقة , لم يكن من دور للمثقف العربي سوى السكوت او التماهي مع المؤامرة , وكانت قمة المأساة فى وقوف البعض منهم مع التدخل الأطلنطي الخليجي فى ليبيا لتدميرها وقتل القذافى , بل والأكثر اشمئزازا هو وقوف البعض مع المؤامرة الكونية على سوريا , بسبب واهي وهو ديكتاتوريه النظام وكأن المطالبة بالحرية لا تتأتى إلا عبر التآمر على سوريا وتدميرها.
-6 – وقف المثقفون المصريين من الانتخابات المصرية -التى بموجبها صار “مرسى” الأخوانى رئيسا لمصر وشكل الأخوان مجلس النواب – موقف المتفرج أو اعتبار ذلك ديمقراطيه , وغضوا الطرف عن تزوير أصوات الجماهير سواء بالرشاوى الأنتخابيه او بتزوير البطاقات فى المطابع الأميرية وتوزيعها على إتباعهم , وقد نزل المثقف المصري بذلك عن موقفه من الانتخابات من انه لابد أن تتحقق العدالة الأجتماعيه اولا ليكون الشعب قادرا على الإدلاء بصوته فى حرية , فساهموا فى سرقه مصر من جانب الأخوان . ومازال هذا الموقف من كل انتخابات جرت الي الآن .
-7 – وأخيرا يشارك كثير من المثقفين العرب سواء بالسكوت او بتأييد العدوان السعودي على اليمن , بحجة محاصره المد الايرانى داخل الأرض العربية ,وكأن ذلك لا يتم الا بتدمير البلدان العربية وتفتيت مكوناتها واعتبار العدو الأزلي للأمة العربية” اسرائيل” شريك سلام, وهو ما يجعنا نشير الى هجمة بعض المثقفين العرب والمصريين ” مؤخراً” على جمال عبد الناصر ومساندته لثوره اليمن 1962 , فى تبرؤ من عروبتهم وقيمهم فى مسانده كل الحركات ألتحرريه والثورية التى تبغي تخليص شعوبها من ريقه الاستعمار والرجعية , والتي ندر ناصر حياته من أجلها .
أن أعراض أزمة المثقفين العرب وقد شخصنا البعض منها ,أملين أن يتدارك جيل المثقفين العرب المحدثين تَجنب آثارها السلبية على أمتنا وشعبنا , خاصة بعد أن وضحت الرؤية – فى هذه الهرولة التى يقوم بها حكام الإمارات والبحرين وعمان وقطر والسعودية نحو اسرائيل , ومحاولة فرضها كأمر واقع , لتساهم فى هدفها ما بعد الصهيونية ” من النيل للفرات”.
وعلى ذلك فأن علاج أزمة المثقفين العرب شريطه وعى الدرس , لابد أن تكون عبر الأيمان الذي لا يتزعزع بأن الصراع مع العدو الصهيوني صراع وجود , وأن الرجعية العربية عملاء بلا حدود , وأن الرأسمالية العربية المستغلة هي ذنب الأمبرياليه والصهيونية فى المنطقة العربية , وأن المحافظة على وحده البلدان العربية هو فرض عين، ومن يتماهى مع حركات الإسلام السياسي فاعل لتدمير بلدان أمتنا العربية , ولابد من الأيمان بعمل استراتيجي يوحد الشعوب العربية من المحيط الى الخليج , وأن من يسير فى فلك الأعلام الرأسمالي الخليجي , هو أثير للديموغوجيه ومروج لشرذمه الفكر وتضاربه وفرض الغوغاء على شعبنا العربي , وعدم وضوح الرؤية أمامه .
وأخيرا فأنه يجب على المثقفين العرب أن يوحدوا الرؤى والجهود لقياده شعبنا العربي لإجهاض المؤامرة الكونية عليه , قبل أن يفرض الشعب على الجميع – بما فيهم من يدعون أنهم طليعته المثقفة – أرادته عليهم وعلى الحياة نفسها ليصوغها من جديد وفق أمانيه فى الحرية والأشتركيه والوحدة .
—–
*كاتب ومحامى – مصرى
البريد الإلكتروني: [email protected]