في مثل هذا اليوم قال السادات للاسد :هيا بنا الى اسرائيل !
بقلم: حسام عبد الكريم*

كان السادات قد اتخذ قراره وحسم أمره. سوف يذهب بنفسه الى القدس المحتلة في زيارة علنية لم يسبق لها مثيل في تاريخ الشرق الاوسط. وسوف يتحدث للاسرائيليين مباشرة من قلب الكنيست عارضاً عليهم السلام والامان على امل ان يسترجع منهم ما احتلوه من أراضٍ عربية عام 67. والواقع ان السادات كان منذ عدة سنوات يتحضّر للدخول في مولد “السلام” مع الكيان الاسرائيلي ويحاور ويناور ويجول في انحاء الارض لتهيئة الظروف لهذا المسار الى أن اهتدى اخيرا لفكرة الزيارة – الصدمة التي سيقوم بها لتحطيم “الحاجز النفسي” بين العرب والاسرائيليين . وقد استشار السادات اصدقاءه قبيل اتخاذ القرار ,كيسينغر وتشاوتشيسكو وشاه ايران والحسن الثاني, وجميعهم شجعوه واقنعوه بحب مناحم بيغين للسلام وجاهزية “اسرائيل” لاحتضانه وردّ تحيته بأحسن منها ! ولكن كان عليه مهمة ثقيلة ليقوم بها قبل الانطلاق : عليه أن يزور دمشق اولاً.
فالرئيس السوري حافظ الاسد كان شريكه في حرب تشرين/اكتوير 73 وهو يعرفه تمام المعرفة وقابله عشرات المرات وأمضيا معاً الساعات والايام في التخطيط والإعداد للحرب التي كانت حتمية ولا بد منها للبلدين وللشعبين من أجل استعادة الروح والثقة بالنفس والأمل بالنصر والتحرير . وسورية كانت دائماً حليفَ مصر وشقيقتها و”اقليمها الشمالي” ايام الوحدة بينهما في اواخر الخمسينات. والعلاقة بين الرجلين شهدت تباعداً وتنافراً في السنوات الاخيرة بدأ مع تطور مجريات الحرب في 73 وما تلاها من خطوات سياسية منفردة قام بها السادات لم يرضَ عنها الاسد واعتبرها انحرافاً عن مسار مواجهة “اسرائيل” بل و طعنة في الظهر من جانب الحليف والأخ الأكبر المصري. ورغم ذلك كله الّا أن الرئيسين كانا يدركان مدى أهمية العلاقة بينهما ووحدة المصير بين بلديهما المهَدديْن من ذات الكيان الصهيوني العدواني الموجود في فلسطين, فكان تدهور العلاقة بين الرجلين “مضبوطاً” ضمن اطار الحد الأدنى من التضامن العربي, على الأقل رسمياً وإعلامياً. ومن هذه الخلفية كانت زيارة دمشق واجباً لا مفر منه على الرئيس المصري الذي سيحقق منها هدفين اثنين:
أولهما تجاه شعبه في مصر, حيث سيقول لهم : انا لم أنفرد ولم أتخلّ عن الشقيق والحليف السوري بل ذهبتُ اليهم وحاولت اقناعهم بالانضمام اليّ والاشتراك معي في العمل على استعادة الارض المحتلة سياسياً بعد ان حاولنا معاً استعادتها عسكرياً.
وثانيهما تجاه الأمة العربية ككل التي سيقول لها : ان مصر لم تتخلّ عن القضية الفلسطينية ولا عن اشقائها العرب بل انها بذلت اقصى الجهد لتكون مفاوضات السلام شأناً جماعياً عربياً ولكنّ الرفض كان من الطرف الآخر وبالذات سورية التي رفضت يد مصر الممدودة اليها وجرّت معها الفلسطينيين.
أي أن الموضوع كان بالنسبة للسادات “ابراء ذمة” لا بد منه قبل الاندفاع في مساره “السلامي” الذي قرره واقتنع به. فبحكم خبرته الطويلة كان السادات يعلم يقيناً أن زيارته لدمشق لن تؤدي الى انضمام سورية لمساره الذي بدأه منذ عدة سنوات وخصوصاً وهو يعرف شخصية الأسد تمام المعرفة. ولو كان السادات حريصاً حقاً على شراكة سورية لما كان ذهب اليها بعد أن اعلن بالفعل قراره المنفرد بالسفر الى “اسرائيل” وحدد له موعداً ثم يأتي الى دمشق من باب “تحصيل حاصل” ورفع عتب وللتبليغ فقط.
مساء 16 تشرين ثاني (نوفمبر) 1977حطت طائرة أنور السادات في دمشق. وعلى الفور بدأ اجتماعه مع حافظ الاسد الذي دام لسبع ساعات كاملة, الى فجر اليوم التالي. الاجواء كانت انفعالية ومتوترة بين الرجلين. اهم مصدرين لتفاصيل الحوار الذي جرى بينهما هما كتاب الصحافي البريطاني باتريك سيل “الأسد , الصراع على الشرق الاوسط” وكتاب محمد حسنين هيكل “المفاوضات السرية بين العرب واسرائيل” ويتفق كلاهما على الحدّة التي ميّزت اللقاء في تلك الليلة الطويلة المريرة التي شهدت تكاشفاً بينهما وصل الى حد تبادل الاتهامات وكانت آخر لقاء بين الرجلين. واثناء النقاش قال السادات “فلنذهب معاً الى القدس , او اذا لم تكن تستطيع المجيء فأرجوك ان تلتزم الصمت ولا تجابهني بالاستنكار والادانة . فإذا فشلتُ فسوف اعترف بأنني كنت مخطئاً وسأقول لشعبي ان يعطيك زمام القيادة”. لم يتأثر الاسد بهذه الحركات المسرحية ورد قائلاً “انت يا اخي غريب الاطوار! دائماً مستعجل. استعجلت على وقف اطلاق النار وأوقفته في لحظة حرجة, واستعجلت على فك الارتباط ولو قبلت ان نبقى في حالة اشتباك في سيناء والجولان لما خسرنا مكاسب حرب تشرين. واستعجلت على الذهاب الى مؤتمر جنيف , ولم يستطع المؤتمر ان يفعل شيئا الا أن يفتح الباب لصلح مصري -اسرائيلي . وها انت مرة اخرى تستعجل وتريد ان تذهب للقدس بدون تمهيد وبدون تأكيدات او ضمانات”. وعندما بدأ الاسد يتكلم عن المسؤولية القومية وعن كفاح الامم قاطعه السادات قائلا ” هذا هو الكلام الذي عطلنا عن العصر سنين طويلة”. وحذر الاسد السادات من العواقب الكارثية الخطيرة لرحلته , إذ انها ستكون اخطر نكسة في التاريخ العربي وسينجم عنها عدم توازن استراتيجي يجعل اسرائيل تضرب الاقطار العربية التي لا دفاع لها واحدا بعد الاخر , بادئة بلبنان والفلسطينيين. ولن تأتي الرحلة بالسلام بل انها على العكس من ذلك سوف تنفيه وتبعده “فالاتفاق الثنائي بين مصر واسرائيل شيء , والسلام الحقيقي شيء آخر”. ورد السادات بأنه سوف يمضي في طريقه ويذهب الى القدس وسيترك للاسد الحكم على النتائج. وعندها قال الاسد بأن “مجرد الذهاب الى اسرائيل في حد ذاته اشارة تعطي معنى الاستسلام. فإذا اضيف اليها أنها تتم بدون تأكيدات او ضمانات فهو يخشى ان يكون هناك من يدفع بها من وصف الاستسلام الى وضع الخيانة , وهذا امر لا يرضاه هو لشريكه وصديقه في حرب اكتوبر”. وهنا انفعل السادات وقال “من الذي يستطيع ان يتهمني بالخيانة ؟ هؤلاء الاقزام الذين لم يحاربوا واكتفوا بالقاء الخطب!”. وبعد أن هدأ قليلا قال ” ان الناس تعبوا من الحرب , وانا ايضا تعبت”, فرد الاسد “ان الشعوب لا تتعب من اي تضحيات تعطيها لتحقيق اهدافها ولكن الذي يتعبها هو ضياع هذه الاهداف”.
عند الفجر صحب الاسد ضيفه وشريكه السابق في مراسم البروتوكول الرسمية لوداع الرئيس الزائر في المطار. بقيا صامتين في السيارة التي أقلتهما ولم يتكلما. لوّح الاسد بيده مودعاً ثم عاد الى عاصمته . افترق الرجلان , كلٌّ في طريقه, ولم يلتقيا بعدها قط.
*كاتب و باحث من الاردن