كراهية مُعتقة.. هل تستعيد بريطانيا وفرنسا ميراث العدواة التارخي بينهما؟

تعتبر العلاقات بين بريطانيا وفرنسا إحدى النماذج الكلاسيكية للعداء في تاريخ العلاقات الدولية؛ إذ بدأ الصراع بينهما منذ العصور الوسطى، وبالتحديد مع حرب المائة عام (1337-1453)، ثم استمرت محطاته في العصر الحديث، خصوصًا مع اندلاع الحرب الأنجلو-فرنسية (1778-1783)، ثم الحروب النابليونية في أوائل القرن التاسع عشر، وزادت حدة الصراع بينهما مع اتساع الرقعة الجغرافية التي احتلها الطرفان والمصالح الاستعمارية المتباينة المرتبطة بها.
لكن حدة هذا العداء انكسرت مع بداية القرن العشرين، وتحديدًا عام 1904، مع توقيع «الاتفاق الودي»، والذي جرت بموجبه تسوية عدد من النزاعات الاستعمارية بين الطرفين، ثم تعاون البلدين عسكريًا خلال الحربين العالميتين (الأولى والثانية)، وهو تعاون لم ينزع فتيل الشك المتبادل بين لندن وباريس، بل ظل تضارب المصالح والنفوذ يُطل برأسه بين الحين والآخر.
وفي فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد تراجع مكانة البلدين عالميًا لصالح الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، وبعد انضمامهما للمعسكر الغربي في الحرب الباردة، توثّق التعاون بين الطرفين على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية، ولكنه لم يكن ثنائيًا في الغالب بل كان محكومًا بالأطر الجماعية التي عمل الطرفين من خلالها: حلف الناتو، والاتحاد الأوروبي.
إذ إن العقيدة السياسية التي حكمت سياسات لندن وباريس ظلت مختلفة – إلى حد التعارض – منذ عام 1945، وإلى اللحظة الراهنة، وربما عبرّت مقولة رئيس وزراء بريطانيا السابق «ونستون تشرشل»، عام 1930 لإحدى الصحف الأمريكية، عن السبب الحقيقي للخلافات البريطانية-الفرنسية في العصر الحديث، حين قال: «نحن مع أوروبا ولكن لسنا في أوروبا، نحن مرتبطان لكن لسنا ضمن أوروبا».
2021.. عام تنامي الخلافات
منذ بدأت بريطانيا أولى خطواتها العملية تجاه «البريكست British exit» (الخروج من الاتحاد الأوروبي) عام 2016، مع انعقاد استفتاء شعبي صوّت فيه الغالبية لصالح الخروج من الاتحاد، اتخذت باريس موقفا متشككًا من لندن، وألقى الرئيس الفرنسي «فرانسوا أولاند» – حينئذ – بيانًا حذّر فيه بريطانيا من التداعيات الخطيرة للبريكست، إذ كان توسيع الدور البريطاني خارج أوروبا أحد أهم أهداف «البريكست»، وهو أمر يزعج باريس، ومع ذلك فقد سادت البراجماتية علاقة الطرفين منذ ذلك الحين، واستمرت الروابط السياسية والدفاعية والاقتصادية في كونها حافزًا قويًا لاستمرار التعاون.
في هذا الوقت بدا أن بريطانيا كانت تسعى إلى إعادة تحديد مكانتها على خريطة السياسة الدولية في مرحلة ما بعد الاتحاد الأوروبي، بينما اتجهت فرنسا لاستغلال الفرص الناشئة عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، المتمثلة في ظهور فرنسا في ثوب القائد الجديد للجماعة الأوروبية، بالإضافة إلى محاولة فرض الأجندة السياسية والعسكرية الفرنسية على الجماعة الأوروبية بعد خروج بريطانيا التي كانت تنازعها حول أولويات الاتحاد، بعدما صارت القوة العسكرية الرئيسية الوحيدة في الاتحاد الأوروبي التي تمتلك رادعًا نوويًا، ومقعدًا دائمًا في مجلس الأمن، وحاول رئيس فرنسا «إيمانويل ماكرون» أن يظهر في ثوب الدبلوماسي الماهر والقائد الجديد للجماعة الأوروبية.
ومع مجيئ رئيس الوزراء البريطاني «بوريس جونسون» المؤيد لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، في 2019، بات المسئولون الفرنسيون يتعاملون مع رئيس الوزراء والبريكيست على أنهما «حلقة مؤسفة» في تاريخ أوروبا ويجب تجاوزها بسرعة، بينما يعتقد المسئولون البريطانيون أن نظرائهم الفرنسيين يحاولون معاقبة بريطانيا على خروجها من الاتحاد الأوروبي.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون
لكن التوتر بين الطرفين لم يصل إلى ذروته إلا في عام 2021؛ وكانت البداية في مارس (آذار)، حينما قررت بريطانيا فرض قيود سفر أكثر صرامة على فرنسا مقارنةً بدول الاتحاد الأوروبي، بسبب وباء «كورونا»، وهو الأمر الذي كان محل استياء شديد في باريس، إذ كان يُنظر إليه على أنه تمييز غير مُبرر، وذو دوافع سياسية.
وفي مايو (آيار) 2021 بدأت بريطانيا في فرض قيود أكثر صرامة على سفن الصيد الفرنسية في الوصول إلى مناطق الصيد البريطانية؛ مما دفع حوالي 100 سفينة فرنسية إلى التجمع في ميناء سانت هيلير بجزيرة جيرسي لتسجيل احتجاجهم. فردت بريطانيا بإرسال سفينتي حراسة تابعتين للبحرية الملكية لمراقبة الاحتجاج، لتقوم البحرية الفرنسية بالتبعية بإرسال زورقين إلى المياه المحيطة بجزيرة جيرسي، ردًا على الإجراء البريطاني.
لكن المحطة الأهم والأخطر في الخلاف كانت في سبتمبر (أيلول) 2021، حينما انخرطت بريطانيا في تحالف أمني جديد يُدعى «أوكوس» بجانب كل من الولايات المتحدة وأستراليا، وهو تحالف موجه بالأساس لمواجهة النفوذ الصيني في منطقة «الإندو-باسيفيك» (آسيا -المحيط الهادي) وقد ركّز التحالف على تنمية القدرات العسكرية الأسترالية، باعتبارها خط المواجهة الأول أمام الصين، لذلك جرى الاتفاق على تزويد أستراليا لأول مرة بتكنولوجيا بناء غواصات تعمل بالطاقة النووية.
وهنا يظهر السؤال: لماذا غضبت فرنسا من تأسيس تحالف «أوكوس» قائم بالأساس على مواجهة الصين، رغم أنها جزء من المعسكر الغربي المناهض للنفوذ الصيني؟
• السبب الأول، هو تجاهل التحالف لفرنسا، كإحدى الدول الكبرى بأوروبا، وأحد أكبر الفاعلين العسكريين في العالم، سواء على مستوى امتلاك القوى العسكرية أو تصنيعها وتصديرها.
• السبب الثاني، والأكثر أهمية، أن أستراليا كانت قد وقعت عقدًا عام 2016، بقيمة 66 مليار دولار أمريكي، مع شركة «نافال جروب» المملوكة للدولة الفرنسية، لبناء 12 غواصة تقليدية تعمل بالديزل والكهرباء تحت اسم «أتاك كلاس»، وبعد تأسيس التحالف، أعلنت أستراليا إلغاء الصفقة؛ الأمر الذي أغضب باريس، ليس بسبب الخسارة الاقتصادية فحسب، ولكن لتأثير ذلك الإلغاء على سمعة الصناعة العسكرية الفرنسية، وسمعة باريس كأحد القوى المزوِّدة للخدمات الأمنية على مستوى العالم.
وفي أعقاب ذلك انتقدت فرنسا بريطانيا بشدة كونها أحد أعمدة التحالف الجديد، وصرّح وزير الدولة الفرنسي للشئون الأوروبية، كليمنت بيون، إن ذلك التحالف دليل على عودة بريطانيا إلى «التبعية الأمريكية»، بينما صرّح وزير الخارجية الفرنسي، «جان إيف لودريان»، أن بريطانيا ليست سوى «عجلة خامسة» في المشروع الأمريكي.
وعندما سحبت فرنسا سفيريها من واشنطن وكانبرا، اختارت ألّا تفعل نفس الشيء في بريطانيا، وهو ما اعتُبِر «ازدراء إلى حد ما» بحسب شبكة CNN، وربما كان عدم حضور الرئيس الفرنسي لاجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك بعد أيام من تأسيس التحالف، أحد أشكال الاحتجاج، رغم تبرير عدم حضوره بالقيود الصحية المتعلقة بانتشار كورونا.
وفي مواجهة ذلك، جاء رد رئيس الوزراء البريطاني أكثر هدوءً، إذ قال بوريس جونسون بلغة فرنسية مكسورة – كنوع من التهكم – «أعتقد أن الوقت قد حان لبعض أصدقائي الأعزاء في جميع أنحاء العالم إلى تمالك أنفسهم ومنحي استراحة».
من الشك المتبادل إلى العداء المفتوح
ما وصلت إليه العلاقات البريطانية الفرنسية في 2021 هي ذروة تناقض لعلاقات جرى النظر إليها على أنها تاريخ من الشك المتبادل في أفضل الأحوال، والعداء المفتوح في أسوأ الأحوال، وهنا لا نعود طويلًا في التاريخ، ولكن نستعيد فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهي الفترة الذي صاغت قواعد العلاقة بين البلدين إلى يومنا هذا. فبعد عام 1945، كان على بريطانيا وفرنسا التكيف مع أوضاعهما المتناقصة على المسرح العالمي.
ولكن بينما كانت باريس تعتقد أن التكامل الأوروبي من شأنه أن يعزز نفوذ فرنسا، فقد رأت لندن أنه يمثل تهديدًا لسيادة بريطانيا ومصالحها العالمية، لذلك نجد أن رئيس الفرنسي الأسبق «شارل ديجول» قد استخدم حق النقض ضد دخول بريطانيا إلى «المجموعة الاقتصادية الأوروبية (EEC)» في عامي 1963 و1967.
وتشكلت رؤى بريطانيا وفرنسا لطبيعة أدوراهما على الساحة الدولية، من خلال الكيفية التي خرج بها كل طرف من الحرب العالمية الثانية، ففي حين خرجت بريطانيا من الحرب حاملة «مشعل البطولة» وأكثر ارتباطًا بالولايات المتحدة الأمريكية، خرجت فرنسا حاملة إرث حكومة «فيشي» التي خضعت خلال فترات الحرب لألمانيا النازية، لذلك كانت تبحث عن أدوار استثنائية تُعيد لها الاستقلال الوطني والكبرياء.
فسعى ديجول إلى تطوير مجال نفوذ أوروبي بديل للقوة الأمريكية والروسية، وكذلك بناء رادع نووي خاص به، وبالتالي دفع فرنسا خارج المفهوم التقليدي لكلمة «الغرب»، والتي شملت الولايات المتحدة وكندا ومعظم دول أوروبا الغربية، كون فرنسا لا تنتمي إلى «النادي الناطق باللغة الإنجليزية». وصار الاتحاد الأوروبي هو الوسيلة الرئيسية لتمكين فرنسا عالميًا.
في المقابل كانت بريطانيا ترى أن دورها العالمي يتعدى الاتحاد الأوروبي، وكان رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون يرى أن فرنسا تسيطر على الجماعة الأوروبية، وأنها هزمت بريطانيا داخل الاتحاد الأوروبي؛ ما أوجب ضرورة الانفكاك من هذا التحالف، وصياغة دور عالمي بقواعد مختلفة.
وقد جاءت الخلافات الأخيرة بسبب «أوكوس» تجسيدًا لتلك التناقضات؛ إذ رأت باريس أن ما حدث دليلًا على «الانتهازية الدائمة» لدى لندن وتفضيلها للمركز الأصغر في شراكة مع الولايات المتحدة على أي ارتباط ذي مغزى مع أوروبا.
أمّا بريطانيا، فترى أن «أوكوس» هو خطوة هامة لتعميق علاقاتها في منطقة «الإندو-باسيفيك»، مما يفتح الطريق أمام علاقات أوثق مع اليابان والهند وغيرها، ويساعد في تمهيد الطريق إلى العضوية في اتفاقية الشراكة التجارية العملاقة عبر المحيط الهادئ. وترى أن رد فعل فرنسا الغاضب يكشف عن شوفينية تبحث عن العودة إلى دورها العالمي المفقود منذ فترة طويلة.
وهو ما عبّر عنه أحد كبار المسئولين البريطانيين المقربين من جونسون، للكاتب البريطاني توم ماكتاج – بشرط عدم الكشف عن هويته – إذ ذكر أن فرنسا فشلت في إدراك ما ستفعله بريطانيا لتبقى جزءًا مركزيًا من التحالف الغربي. وقال نصًا: «لا تتفاجأ (أي فرنسا) إذا كانت العجلة الخامسة لم تزل متصلة بالسيارة».
هل من عودة إلى البراجماتية؟
ترى بعض التحليلات أن بريطانيا وفرنسا هما الأكثر تشابهًا من أي دولتين أخريين على وجه الأرض؛ ليس فقط من حيث عدد السكان، والثروة، والماضي الإمبراطوري، والانتشار العالمي، ولكن أيضًا من خلال الشعور بالاستثنائية، والخوف من الانحدار، وغريزة الاستقلال الوطني، والقلق من القوة المتزايدة للبعض الآخر، سواء كان الآخر هو الولايات المتحدة أو ألمانيا أو الصين.
وهذا التشابه ربما يفرض عليهما العودة إلى البراجماتية مرة أخرى، وذلك بالنظر إلى طبيعة العلاقات الوثيقة فيما بينهما على المستوى الاقتصادي أو حتى المستوى الدفاعي. فخلال عام 2020 بلغت الصادرات الفرنسية لبريطانيا نحو 33.6 مليار يورو بينما بلغت الواردات الفرنسية من بريطانيا نحو 21.1 مليار يورو، مما يجعل البريطانيين سادس أكبر مستورد وسابع أكبر مُورِّد لفرنسا.
كذلك نجد أن 30% من إنتاج الصيد الفرنسي يأتي من المياه البريطانية. وترتبط شركة الطاقة الفرنسية العملاقة EDF ببريطانيا بعقد قيمته 18 مليار جنيه إسترليني، وذلك لبناء مفاعلات نووية للبلاد، وفي عام 2014 وحده، كان هناك ما يقرب من 1200 شركة بريطانية متواجدة في فرنسا.
أمّا على المستوى الدفاعي، فيرتبط البلدان بمعاهدات «لانكستر هاوس»، الموقعة عام 2010، والتي تعمل على تطوير التعاون بين القوات المسلحة البريطانية والفرنسية، وتقاسم وتجميع المواد والمعدات العسكرية، والوصول المتبادل إلى أسواق الدفاع والتعاون الصناعي والتكنولوجي، بالإضافة إلى إنشاء قوة استكشافية مشتركة قوامها 10 آلاف جندي.
لذلك يرى بعض الباحثين أنه إذا أرادت باريس أن تظل لاعبًا رئيسيًا في منطقة «الإندو-باسيفيك»، فلا يمكنها تعميق العلاقات مع شركائها الإقليميين الرئيسيين مثل الهند واليابان، باعتبار تلك العلاقات الثنائية بديلًا للتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة هناك، خاصةّ وأن هاتين الدولتين تعملان على زيادة روابطهما الأمنية مع أستراليا والولايات المتحدة على أي حال، لا سيما من خلال مبادرة «الحوار الأمني الرباعي (Quad)»، أي أن فرنسا لا يمكنها أن تحل محل الولايات المتحدة في تلك المنطقة، أو تتخذ إستراتيجية معارضة لها هناك.
ومن ناحية أخرى لا يبدو تفاعل فرنسا مع منطقة «الإندو-باسيفيك» من خلال الاتحاد الأوروبي، خيارًا واقعيًا. إذ أن الاتحاد لم ينحاز لباريس في معركتها ضد «أوكوس»، ورغم أن بعض مسئولي الاتحاد الأوروبي، مثل رئيسة المفوضية الأوروبية «أورسولا فون دير لاين»، والممثل الأعلى «جوزيف بوريل»، قد أعربوا عن دعمهم لفرنسا بشأن «أوكوس»، إلا أن الدول الأعضاء في الاتحاد التزموا الصمت.
هذا الصمت يعود ببساطة إلى أن معظم دول الاتحاد الأوروبي ليس لديها المصلحة، ولا الوسائل للمشاركة بشكل هادف في أمن منطقة «الإندو-باسيفيك» في مواجهة الصين، وترى بعض الحكومات الأوروبية، مثل رئيسة الوزراء الدنماركية «ميت فريدريكسن»، أن النزاع الحالي بشأن «أوكوس» يدور حول المصالح الصناعية الفرنسية وليس ضمن الضرورات الإستراتيجية الأوروبية.
لذلك ربما تختلف الحسابات الفرنسي بعد انتخابات الرئاسة في أبريل (نيسان) 2022، فتخف حدة التوتر مع بريطانيا، وتحاول باريس إعادة صياغة دورها في آسيا، بالتنسيق مع لندن وواشنطن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى