الانقلاب العسكري لوأد الحراك الشعبي في السودان
بقلم: توفيق المديني

بعد أن شكل الغضب من الزيادات المهولة في أسعار الخبز وغياب الفرص بالنسبة للشباب السوداني عاملين أسهما في خروج المظاهرات الشعبية الحاشدة التي أفضت لإزاحة نظام البشير بعد ثلاثة عقود من الحكم، عادت الجماهير السودانية الأسبوع الماضي إلى الشوارع بعد أشهر من تضخم أسعار مواد الاستهلاك قارب 400 في المائة، وكذا النقص الحاصل في القمح، والمحروقات، والأدوية وغيرها من المواد الحيوية، وهو ما أدى إلى حصول الانقلاب العسكري في السودان الذي شنَّه فجر يوم 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021 قائد القوات المسلحة، عبد الفتاح البرهان، الذي أطاح بحكومة حمدوك، واعتقله مع عدد من الوزراء وقادة حزبيين. وأعلن قائد الانقلاب الفريق البرهان حل مجلسي السيادة والوزراء الانتقاليين، وتعهد بتشكيل حكومة كفاءات مستقلة، وأعلن حالة الطوارئ، وإقالة الولاة، وعدم الالتزام ببعض بنود الوثيقة الدستورية الخاصة بإدارة المرحلة الانتقالية.
وجاء الانقلاب العسكري ، بعد نحو 48 ساعة على زيارة مبعوث الرئيس الأميركي،جو بايدن لمنطقة القرن الإفريقي، جيفري فيلتمان، الخرطوم وتحذيره القادة العسكريين بأنهم يجازفون بفقدان المساعدات والشرعية التي استعادها السودان بعد دخوله في مسار التحول السياسي، بعد الثورة التي أطاحت بنظام عمر البشير.
في أسباب الانقلاب العسكري بالسودان
ويرى المراقبون و المحللون للشأن السوداني، في سياق بحثهم عن أسباب قد تكون وراء شن البرهان انقلابه بالسودان، إلى أنَّ السلطات الانتقالية بالبلاد كانت قد قبلت ولاية المحكمة الجنائية الدولية، التي تتهم البشير بالإبادة الجماعية في إقليم دارفور، بعدما قتلت القوات الموالية لنظامه 300 ألف شخص بين 2003 و2008، وفق إحصاءات الأمم المتحدة.
وكان العسكر بالسودان مترددين بشأن تسليم البشير للجنائية الدولية، وذلك لمخاوف من كون المحاكمة قد تكشف عن تورط عدد كبير من الضباط في جرائم دارفور، مرجحة أن يكون هذا الملف قد ساهم في شن انقلاب الاثنين.
فمنذ أن اتفق العسكريون والمدنيون في عام 2019 على إنهاء حكم البشير، دخل الطرفان في معركة على السلطة ومستقبل السودان. وكان انقلاب يوم الاثنين بمنزلة ذروة هذا النزاع والذي اعتقد كل طرف أنَّه يمس وجوده. فرغم تشكيل حكومة انتقالية مدنية- عسكرية لقيادة البلد إلى الحكم المدني َّ مصالح الطرفين ظلت متباينة. وسئم القطاع الأكبر من الشعب السوداني من الحكم الديكتاتوري الذي تبع الاستقلال عن بريطانيا في عام 1956. ويحلم الشباب بالعيش في ديمقراطية يحاسب فيها الجيش ويراقب عبر حكومة مدنية. وهو ما يخشاه العسكر من قيام حكومة مدنية بمحاسبتهم عن انتهاكات الماضي ويمكن أن تسيطر على مصالح الجيش الاقتصادية الواسعة واحتكاراته لقطاعات واسعة للاقتصاد السوداني المترنح.
بعد أن تقاسم القادة العسكريون والمدنيون السلطة في السودان منذ أكثر من عامين ،وكان من المفترض أن يؤدي ذلك إلى أول انتخابات ديمقراطية في البلاد في عقود، تصاعدَ الخلاف بينهما مع اقتراب تسليم المكوّن العسكري للمدني قيادة المرحلة الثانية في السلطة الانتقالية، وتخوّف العسكر من تحجيم دورهم، ومن إجراء محاكماتٍ لمن أوغلوا في دماء السودانيين، واستكمال تنفيذ قضايا الوثيقة الدستورية. فقد دفعت حدّة الخلافات بين العسكريين و المدنيين المكون العسكري إلى القيام بانقلاب عسكري، وإعلان حالة الطوارئ، وزجَّ قادة المدني في المعتقلات، وأطلق قائد القوات المسلحة، الفريق عبد الفتاح البرهان، خطاباً، جمّد (أو ألغى) فيه فقرات كثيرة من الوثيقة الدستورية، وقال إنه يريد إنقاذ البلاد من الفوضى.
رفضت قوى الحراك الشعبي في السودان، ومنذ تشكيل السلطة الانتقالية في 2019، مساعي المكون العسكري. وها هي تعلن رفضها الانقلاب، وتدعو إلى مظاهراتٍ كبرى، وإبعاد الجيش نهائياً عن السياسة، بعد أن مزق الجيش السوداني تلك الصفقة بين العسكريين و المدنيين يوم الاثنين الماضي وانقلب على القيادة المدنية وأعلن أنه وحده هو الذي سيحكم.
لقد تفاقمت “الخلافات” بين العسكريين في داخل المجلس السيادي وخارجه، إذ كان عدد منهم يدفع نحو التغيير تحت غطاء عجز حكومة عبد الله حمدوك عن تخفيف الأزمة الاقتصادية العاتية، إضافة إلى عدم ارتياح بعض العسكريين لخطة تسليم الرئيس السابق عمر حسن البشير للمحكمة الجنائية الدولية.
وزاد من التأزم تعذر ضبط الأمور ووقف العنف الذي تجدد في دارفور في أعقاب الانسحاب الجزئي المتدرج الذي بدأته قوات الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، وذلك على أرضية “اتفاق السلام الذي وُقِّع عام 2019 بين حكومة المجلس وعدد من الجماعات المتمردة في الإقليم”.
كل ذلك تضافر مع بعضه لوضع المزيد من العقبات في طريق حكومة “انتقالية وغير منسجمة أصلاً”، وبما أدى إلى توفير حيثيات الانقلاب الذي دفعت إليه “خلافات المدنيين” في الحكومة على ما قال قائد الانقلاب عبد التفاح البرهان، إلا أنّ تعليله بدا ذريعة للانقضاض من جديد على الحكم من قِبل عسكريين تعايشوا على مضض مع المدنيين طوال سنتين، إذ كان من غير المفاجئ أن تنتهي الشراكة بالانفصال.
بحسب آراء كل المحللين،كان الانقلاب الذي نفذه البرهان حتميًا،ولا يمكن تفاديه، فمنذ عدة سنوات ورئيس الحكومة عبد الله حمدوك من جهة، ورئيس مجلس السيادة الفريق برهان من جهة ثانية، يدفعان باتجاهين متناقضين، وكان واضحاً أنَّ الأمر سيصل إلى مرحلة حسم.ورغم أنَّ الاثنين يدركان ضرورة تعزيز السودان علاقاته مع الغرب، فإنَّ الوضع السائد يعيد إلى الأذهان وضع مصر مع نهاية عهد مبارك، فالدولة ليست ديمقراطية، واعتادت حكم فرد مدة ثلاثين عاماً قاده عمر البشير، ويميل البرهان إلى تعزيز العلاقات مع الولايات المتحدة ومع إسرائيل أكثر من حمدوك.
الدور الإسرائيلي في الانقلاب
يشكل قادة العسكر الذين ينتمون لنظام الجبهة الإسلامية القومية، وذلك عبر اللجنة الأمنية داخل مجلس السيادة التي تولت ملف العلاقات الخارجية رغم تبعيته المفترضة لوزارة الخارجية، القوة السياسية التي تقود التحول الجديد في السوادان عبر التطبيع مع الكيان الصهيوني.فقد تكونت اللجنة الأمنية من قبل الرئيس المخلوع عمر البشير، وهي تضم رتبا عسكرية كبيرة، ولم يكونوا لينالوا هذه الرتب ما لم يتوفر فيهم الانتماء لحزب المؤتمر الوطني والولاء الخاص للبشير.وتُعَدُّ اللجنة الأمنية جزءً من النظام القديم، وقبلت بالتطبيع عبر ابتزاز إقليمي جعلها ترضخ للضغوط الأمريكية.
وجاء ذلك بالتزامن مع إعلان وزير الخارجية السوداني المكلف عمر قمر الدين، أنَّ الحكومة الانتقالية وافقت على تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني ،وسط رفض بأوساط سودانية وعربية، وليصبح السودان الدولة العربية الخامسة التي توافق على تطبيع علاقاتها مع الاحتلال، بعد مصر (1979)، والأردن (1994)،والإمارات والبحرين (2020).
وبذلك سقط حجر آخر في سور المعارضة للكيان الصهيوني في العالم العربي والإسلامي وليس مجرد حجر، بل السودان، ورمزيته في الصراع العربي الصهيوني وهي رمزية لها قدسيتها النفسية. فالخرطوم هي عاصمة اللاءات الثلاثة التي تبناها العرب في القمة العربية الرابعة في عام 1967 بعد هزيمة حزيران لتحدي الهزيمة ،وللتأكيد على إصرار العرب على التمسك بحقوقهم المشروعة في تحرير الأرض العربية المحتلة الجديدة وهي سيناء والجولان وضم ما تبقى من فلسطين. فقد أكَّدَتْ قمة الخرطوم ،أنَّه “لا صلح، ولا اعتراف، ولا تفاوض مع إسرائيل”، لتشتهر بـ”عاصمة اللاءات الثلاث” .فاللاءات الثلاث (لاتطبيع ولا علاقات ولا اعتراف) مع الكيان الصهيوني، صارت هدفًا وشعارًا مقدسًا لكل العرب لعدة عقود ومن أجلهما قدم العرب تضحيات هائلة. وكانت المقاومة العربية للغزو الصهيوني الرسمية والشعبية كلها تتم تحت رايات لاءات الخرطوم بحيث صار اسم الخرطوم مقترنا بوعي الجماهير بالنضال من أجل الحقوق الثابتة.
من وجهة النظر الإسرائيلية يُعَدُّ الجيش في السودان هو الأقوى في الدولة والبرهان هو القائد الأعلى للجيش، كما تعتبر إسرائيل أنَّ الانقلاب الذي حصل في السودان يعطي فرصاً لاستقرار أكبر في البلاد، وهو استقرار ضروري للمنطقة، وأيضاً لتعزيز العلاقات مع الولايات المتحدة والغرب وإسرائيل على وجه التحديد.فالسودان هو واحدة من الدول الأربع التي انضمت إلى اتفاقيات التطبيع مع الكيان الصهيوني ، المعروفة “باتفاقيات أبراهام”،لكنَّه لم يقم بخطوات فعلية، ولم يفتتح ممثلية له في إسرائيل، وأحد أسباب ذلك هو معارضة رئيس الحكومة عبد الله حمدوك للتطبيع مع إسرائيل.
في هذا السياق، قال وزير الاستخبارات الإسرائيلية السابق، حتى قبل عام، إيلي كوهين، والذي أدار الاتصالات مع السودان، إن “السودان بلد كبير وفي موقع استراتيجي، واستقراره مهم للحفاظ على الأمن الإقليمي، يمكن التقدير بأن رغبة السودان بالمضي قدماً في العلاقات مع الولايات المتحدة والغرب، بما في ذلك إسرائيل، ستستمر، لأن هذه مصلحة سودانية صرفة، من أجل تطوير اقتصاد البلاد والمحافظة على الاستقرار فيها، ومنع تسلل ودخول جهات وعناصر إسلامية متطرفة”.
من جهته، لفت باراك رافيد، المراسل السياسي لموقع واللاه الإسرائيلي، في مقابلة مع إذاعة “إف إم 103” في تل أبيب، إلى أن إسرائيل تلعب دورا مكثفا في السودان في العام الأخير، وحتى في الأسابيع الأخيرة، وأن هناك نشاطا كبيرا للسودان يشمل حتى تعاونا علنيا لمساعد عبد الفتاح البرهان مع “الموساد” الإسرائيلي.
وقال رافيد إنه خلال زيارة قام بها مؤخرا للولايات المتحدة قبل عشرة أيام برفقة وزير الخارجية الإسرائيلي يئير لبيد، سمع من مسؤول أميركي مطلع على النشاط الإسرائيلي في السودان أن واشنطن غير راضية إزاء ذلك. وبحسبه، فإن إسرائيل تدعم الجناح العسكري في مجلس سيادة السودان، ولعبت دورا في التوتر بين جناح عبد الفتاح البرهان وبين رئيس الحكومة عبد الله حمدوك.
وقال رافيد إنه ينبغي فحص ما يحدث هناك، فإسرائيل كانت فاعلة في ما يحدث في السودان عبر الموساد ومجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية، وتقف بوضوح إلى جانب العسكر، إذ إن نائب البرهان، الرجل الثاني في السودان، الجنرال محمد حمدان دقلو (حميدتي) يتعاون مع “الموساد” ويعمل معه علانية.
وقال إن الأحداث الجارية في السودان تثير السؤال حول ما قامت به إسرائيل في الأسابيع الأخيرة في السودان ودورها في السياسة الداخلية هناك، خصوصا في ظل الغضب الأمريكي من تدخل إسرائيل في السياسة الداخلية للسودان. وكرر أن هناك علامة استفهام كبيرة عما فعلته إسرائيل في السودان مؤخرا، ودورها في الانقلاب.
الموقف الأمريكي من الانقلاب
تعتبر أمريكا أنَّ الانقلاب الذي الذي شنه الاثنين الماضي قائد القوات المسلحة، عبد الفتاح البرهان، يمثل تحديًا مباشرًا لها، داعية المجتمع الدولي إلى دعم جبهة التصدي الدولي للانقلاب، شاملة في دعوتها الأصدقاء القدامى للخرطوم والداعمين بالسعودية.
فقد قطعت الولايات المتحدة 700 مليون دولاركانت مخصصة لمساعدة السودان،وندَّدَتْ بالانقلاب في موقف يتماهى مع ما جاء على لسان قادة كبار بالاتحاد الأوروبي، والاتحاد الأفريقي، والجامعة العربية، والأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، لم تستبعد إمكانية حصول حمام دم جديد بالسودان. وربطت ذلك بسجل الجيش السوداني السيئ في هذا الصدد، والمليشيات المتحالفة معه، وهو ما حصل خلال الحراك الشعبي في عام 2019 حينما قتل 100 شخص.
ففي 22 من شهر ديسمبر/كانون الأول 2020، قالت الحكومة السودانية،إنَّ الكونغرس وافق على قانون يستعيد السودان بموجبه حصانته السيادية،أتبعه بالموافقة على صرف منح مالية لسداد ديون مستحقة على الخرطوم ولدعم فئات اجتماعية.وذكر بيان لوزارة العدل السودانية أنَّ تشريع الكونغرس يحصّن البلاد من الملاحقة أمام المحاكم الأمريكية في قضايا الإرهاب، بعد الإعلان عن رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب.وقضى تشريع الكونغرس بدفع السودان 335 مليون دولار كتعويضات للمتضررين، مقابل حذف اسمها من قائمة الدول الراعية للإرهاب كخطوة أولى،يعقبها شطب الأحكام القضائية الصادرة ضدها في تلك القضايا.
كما يتيح التشريع إبطال كل الأحكام التي قضت بها المحاكم الأمريكية مسبقا في قضية السفارتين، والقاضية بتغريم السودان 10.2 مليارات دولار،بحسب البيان.كما تشطب تشريع الكونغرس كل القضايا الأخرى المرفوعة ضد السودان، ومن بينها 5 قضايا رفعت هذا العام تتهم السودان بدعم حركة حماس في أعمال إرهابية، تضرر منها مواطنون أمريكيون مقيمون في إسرائيل، فضلا عن قضية أخرى رفعها بحارة أمريكيون كانوا على متن المدمرة كول.
وكانت ردود الفعل السودانية إيجابية على شطب السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب،فقد سارع البرهان للترحيب، مؤكداً أنَّ القرار سيسهم في دعم الانتقال الديمقراطي ويعزز فرص نجاح الفترة الانتقالية ورفاه الشعب، قبل أن يشكر من أسماهم الإخوة والأصدقاء والشركاء الإقليميين والدوليين الذين دعموا السودان. كما شكر الإدارة الأميركية على اتخاذ القرار التاريخي.
من جهته، اعتبر حمدوك الإجراء انعتاقاً من الحصار الدولي والعالمي الذي أقحم السودان فيه سلوك نظام البشير. وأكد أن السودان سيعود بكامل تاريخه وحضارته وعظمته وعنفوان ثورته إلى الأسرة الدولية، كقوة داعمة للاستقرار الإقليمي والدولي. وأضاف حمدوك أن القرار الذي عملت لأجله الحكومة الانتقالية منذ يومها الأول سيساهم في إصلاح الاقتصاد، وجذب الاستثمارات وتحويلات المواطنين في الخارج، عبر القنوات الرسمية، وخلق فرص عمل جديدة للشباب والكثير من الإيجابيات الأخرى.
لكنَ بعد حصول الانقلاب ،فإنَّ خطة الحكومة الانتقالية لحل المشاكل الاقتصادية بالسودان ، والتي كانت تتمحور حول مئات الملايين من الدولارات في شكل مساعدات من البلدان الغربية، بما في ذلك الولايات المتحدة، أصبحت معلقة ولا يمكن تحديد مصيرها.ففي ظل غياب المساعدات الغربية، ربما قد يلجأ القادة العسكريون إلى الاعتماد على مساعدة أقرب حلفائهم بالإمارات والسعودية.
تنظر إدارة الرئيس بايدن في جميع الأدوات الاقتصادية المتاحة للتعامل مع الانقلاب العسكري في السودان ،وهي تعتبر أفعال الجيش السوداني “غير مقبولة بالمرة” و”انتكاسة كبيرة ومقلقة” للسودان،وهي على اتصال وثيق مع زعماء المنطقة، بما في ذلك منطقة الخليج، للتنسيق معهم عن كثب ولبعث برسالة واضحة إلى الجيش في السودان بأن عليه… الكف عن أي عنف ضد المدنيين الأبرياء والعودة إلى مسار ديمقراطي.