فصل من تاريخ التصهين في لبنان

قامت “القوات اللبنانية” التي هي في الاصل الجناح المسلح لحزب الكتائب اللبنانية مؤخراً بإطلاق رصاص القنص, بحقدٍ ولؤمٍ شديد وبقصد القتل, على متظاهرين في بيروت ينتمون الى محور المقاومة كانوا نزلوا للشوارع للتعبير عن آرائهم سلمياً وبطريقة متحضرة . وبهذه المناسبة نستذكر فصولاً من تاريخ هذا التيار المشبوه من موارنة لبنان صاحب الموقف الداعي الى سلخ لبنان عن انتمائه العربي والمتحالف مع الصهيونية والذي تعود جذوره الى ما قبل تسعين عاماً. فمع ازدياد كثافة النشاط الصهيوني في فلسطين في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي بدأت الاتصالات والعلاقات في التشكّل والنموّ ما بين الكنيسة والمارونيّة السياسية في لبنان من جهة و الوكالة اليهودية في فلسطين من جهة اخرى.
وهناك كتاب نُشر في امريكا سنة 1994 للباحثة لورا ايزنبيرغ يتحدث بالتفصيل عن هذا الموضوع اسمه ” عدو عدوّي – لبنان في المخيلة الصهيونية المبكرة 1900 – 1948″ وبالانجليزية : ”My Enemy’s Enemy – Lebanon in The Early Zionist Imagination 1900 – 1948”، وهو المصدر الذي سنعتمده في معلوماتنا التالية. وكتاب ايزنبيرغ هو في الاساس دراسة في وثائق الارشيف المركزي الصهيوني في القدس مدعومة ايضا بوثائق ارشيف وزارة الخارجية الفرنسية, ويخلو من مصادر لبنانية او عربية (بسبب اخفائها او عدم توفرها او عدم توثيقها من الاصل).
يسلط الكتاب الضوء على شخصيتين رئيسيتين من الكنيسة المارونية, البطريرك انطوان عريضة والمطران اغناطيوس مبارك الذين كانا من أشد الداعمين والمتحمسين للحركة الصهيونية ومشروع الدولة اليهودية في فلسطين. وبالاضافة الى رجُلَيّ الدين الكبيرين يكشف الكتاب هوية مجموعة من الشخصيات اللبنانية التي لعبت دورا في تأسيس و ترسيخ العلاقات مع الصهاينة ومن أبرزهم محامي اسمه نجيب صفير , ورجل الاعمال الارستقراطي البرت نقاش, والشاعر شارل قرم, بالاضافة الى الرئيس اللبناني ايام الانتدب الفرنسي إميل إدّه.
وسوف نقتبس بعض الفقرات من الكتاب التي توضح افكار تلك الفئة المارونية المتصهينة , ولن نطيل التعليق عليها لأنها واضحة بما فيه الكفاية وتتكلم عن نفسها.

نبدأ الاقتباس من الصفحة 79 والكلام عن شخصية البرت نقاش والدور الذي لعبه في الاتصالات المبكرة مع الصهاينة:
“كان نقاش الصديق الحميم للبطريرك عريضه والمؤتمن على اسراره, يشاطر البطريرك مخاوفه من المسلمين واهتمامه بالمحافظة على لبنان المسيحي. وأبلغ نقاش ابشتاين (مندوب الوكالة اليهودية) بأن معاهدة العام 1920 التي منحت بريطانيا بموجبها الاستقلال للعراق, قد ألهمت القوميين العرب في لبنان وسوريا الضغط للحصول على الاستقلال من فرنسا. وكان نقاش يخشى من ألا يستطيع المسيحيون الصمود في موقعهم اذا حذا الفرنسيون حذو البريطانيين وانسحبوا من سوريا المستقلة. وقد رأى نقاش في الصهيونيين حلفاء منطقيين في الصراع الماروني المسلم.
ولقد وجد الصهيونيون في نقاش صلة مهمة بسبب مكانته, لأنه فتح الابواب المؤدية الى شخصيات مهمة اخرى. فقد كان نقاش هو من عرف ابشتاين بالبطريرك , وبألفرد نقاش , القاضي الذي اصبح فيما بعد رئيسا للبنان (1941 – 1943) , وبجورج نقاش الصحافي صاحب جريدة “الاوريان” الصادرة بالفرنسية.
وقد وصف ابشتاين في تقرير بعث به الى القدس هذه العائلة كعائلة تمثل نخبة الارستقراطية المحلية.. انها واحدة من العائلات العربية المندمجة التي لا تتكلم في بيتها الا الفرنسية , وتحتقر اي شيء أصله عربي (باستثناء المال والمناصب المحلية!) . يذهب اولادها الى باريس للدراسة ويعودون فرنسيين مائة وواحدة بالمائة , مشبعون بالكراهية للمسلمين, وبالغرة الوطنية الفرنسية.
وكان البرت نقاش هو من عرّف ابشتاين على صديقه الشاعر شارل قرم , الذي أسس وإياه جمعية الشبيبة الفينيقية , هذه الحلقة الصغيرة من المفكرين التي اعطت تعبيرا رسميا لوجهة النظر القائلة بأن الموارنة لا يتحدرون من العرب ولكن من الفينيقيين القدماء الذين سبقت حضارتهم الغزو العربي والذين شكل ورثتهم سكان لبنان الاصليين. وقد كرست هذه الجماعة نفسها لإعادة لبنان الى اصوله الفينيقية وتخليصه من التأثيرات التي استوعبها من الغزاة المسلمين العرب.
بل شبّه قرم الموارنة باليهود ممتدحاً الطريقة التي حافظ بها الشعبان على خصائصهم المميزة على الرغم من تأثير الأمم الغازية”.
ونقتبس من الصفحة 82 -83 النص التالي الذي ورد تحت عنوان : اتصالات عملية صهيونية – لبنانية
“في العام 1933 رفع جاكوبسون , بعد رحلة قام بها الى لبنان, تقريرا ذكر فيه بأن الموارنة وخصوصا عريضه و نقاش , قد اعربوا عن اهتمامهم الكبير بالشروع في مشاريع مشتركة مع اليهود. وكان النقاش قد أنشأ بضعة معامل ومحطات لتوليد الطاقة الكهربائية بشراكةٍ مع عريضه الذي كان رجلا ثريا بماله الخاص. واصبح الرجلان راغبين الان في الشراكة مع الرساميل اليهودية, التي لم تجد منفذا كافيا لها في المنطقة, كما أوصيا جاكوبسون. وكانت حجتهما أن لبنان الماروني و فلسطين اليهودية يمكنهما معاً أن يتحولا الى مركز صناعي عملاق يكون الشرق الاوسط فيه منطقته الخلفية التي تعتمد على منتوجاتهما. واقترح الاثنان انشاء مصرف ماروني – يهودي في بيروت لادارة المشاريع الاقتصادية المشتركة, وهي الفكرة التي عاد نقاش و طرحها ثانية مع ابشتاين بعد مغادرة جاكوبسون.”
ولكن هذه الطموحات بالتعاون الاقتصادي والمشاريع المشتركة من طرف نقاش وعريضه تم احباطها ولم تترجم الى ارض الواقع. نتابع الاقتباس :
“وبحسب القاعدة المتبعة , ترددت الوكالة اليهودية في الزام نفسها باهتمامات اقتصادية ما وراء حدود الانتداب البريطاني , لكنها كانت تشجع نجاح المشاريع اليهودية الخاصة في لبنان. وغالبا ما كانت الدائرة السياسية تسهل أمور رجل الاعمال اليهودي عندما ترى مكسبا خاصا في مشروع معين, فتصله بوسائط صلاتها هناك. وبذلك تكون قد سهلت الصفقة من دون ان تورط الوكالة اليهودية توريطا رسميا”.

وعندما اندلعت الثورة الفلسطينية الكبرى سنة 1936 ضد الانجليز والصهاينة , أثار ذلك الهلع في اوساط التيار الماروني المتصهين. نقتبس من الصفحات 136 – 137 ما يلي :
“وقد سافر ابشتاين الى لبنان للتشاور مع إدّه و عريضه خلال الاشهر الاولى للانتفاضة, ورفع تقريرا الى شرتوك أفاده فيه أن الرجلين ينظران الى الاضطرابات في فلسطين كبرهان على معنى حكم الأكثرية المسلمة. وهما خائفان خوفاً شديدا من احتمال كسب العرب لهذه الحرب. فانتصارٌ كهذا لن يبشر بالخير بالنسبة الى الموارنة, ولا بالنسبة الى الأقليات المسيحية كافة. واذا كان المسيحيون في فلسطين يؤيدون المسلمين فإن ذلك يعود الى كونهم سجناء في وسطهم ولا يجرؤون على عزل أنفسهم.
وأبلغ ساسون في ذروة الانتفاضة , في العام 1938, ان الموارنة كانوا قلقين جدا من خطر أن تمنى الصهيونية بانتكاسة, وأن يصبح المسلمون العرب في فلسطين أقوى.”

وفي الصفحة 162 نقرأ كلاماً خطيراً عن رغبة التيار الماروني المتصهين في التخلص من اللبنانيين المسلمين وبأي طريقة , حتى لو كانت تقليص مساحة الوطن اللبناني عن طريق تسليم صور و صيدا لليهود :
“ورفع طوبيا ارازي تقريراً أفاد بأن إدّه و ثابت ونقاش هم الذين يقودون تلك الفئة المارونية التي تبدي استعدادها لتقليص حجم لبنان من اجل تخليصه من الكثير من السكان المسلمين. وأكد أن معظم مسيحيي لبنان يؤيدون التقليص الاقليمي , وأن القول بأن معظم مسيحيي لبنان يحبذون تقسيم لبنان , قولٌ غير صحيح. فإن تأييد إدّه للفكرة لم يكن مفاجأة بالتأكيد. فهو الذي كان قد اقترح الامر نفسه بهدوء في العام 1926. وبعدها بعشرين عاما ارسل نجله الى وايزمان حاملا تحويرا جديدا لفكرته القديمة : التخلي لليهود عن تلك المناطق من لبنان غير المرغوب فيها. إلّا ان وايزمان لم ينظر الى الاقتراح بجدية, كما شهدت على ذلك تعليقاته عليه في اجتماع للجنة التنفيذية للوكالة اليهودية في شهر شباط/فبراير من العالم 1945 :
ان آخر ما أود قوله, وربما سيكون هزلياً , أنتم تعرفون الفوضى في لبنان. لقد جاءني نجل الرئيس السابق , وهو مسيحي يخضع لتأثير فرنسي كبير, يحمل اقتراحا. أما الاقتراح فهو انه يريد تسليمنا صور و صيدا من اجل الوطن القومي اليهودي. والحاصل انهم يريدون اعطاءنا صور و صيدا لأن هناك 10,000 مسلم فيهما. قلتُ له ان جدا لي كان يقول انه يكره أن يتلقى “هدية تأكل”, ولكنه لم يكن يريد ان يتركني وشأني , حتى بعد أن أخبرته بذلك , ووعد بأنه سوف يأتي مرة اخرى”
ونتابع في صفحة 163 :
“ولقد اثار الاحتمال بأن تهتم القوى الكبرى باعادة رسم خارطة فلسطين ولبنان و سوريا الذعر في وسط هذه الفئة المارونية, عندما سرت شائعة تقول بأن بريطانيا سوف تعمد الى فصل جزء من شمال فلسطين لضمه الى لبنان. فاسرع عريضة الى كتابة رسالة لوزير الخاررجية البريطاني يبلغه فيها ان اللبنانيين يرفضون هذه الفكرة رفضا باتاً. وحذا مبارك حذوه واضاف قائلا :
اذا كان من الضروري تغيير الحدود فلسوف يكون مرغوبا بالنسبة الينا نحن المسيحيين فصل جزء من جنوب لبنان عوضا عن ذلك – وحتى نهر الليطاني على سبيل المثال , وإعادة توحيده بفلسطين وبالتالي تقليص عدد المسلمين في لبنان من اجل اعادة طابعه الحقيقي كبلد مسيحي”

نكتفي بهذه الاقتباسات من الكتاب والتي تلخّص المحاور الاساسية لأفكار هذا الفريق الماروني المندفع بقوة باتجاه الصهاينة : الموارنة ليسوا عرباً ولبنان يجب ان يعود الى اصوله الفينيقية وأن يتخلّص من التأثيرات التي تركها الغزاة المسلمون العرب. وان سيطرة الأكثرية العربية المسلمة تشكل خطرا مميتاً على كل الأقليات في المنطقة وبالتالي فإن هناك جامعاً مشتركاً بين المسيحيين في لبنان واليهود في فلسطين كونهما أقلية في وسط عربي مسلم معادٍ ويصبح تعاونهما وتحالفهما أمراً ضرورياً ومفيدا لكليهما. وحسب كلمات الرئيس إميل إده (الصفحة 37) في احدى لقاءاته مع الصهاينة فإن ” الثقافتين اليهودية واللبنانية (يقصد المسيحية) متفوقتان على ثقافة العرب وتناضلان من أجل الهدف نفسه وهو تشييد جسر بناء بين الثقافتين الشرقة والغربية”. وكان هذا التيار الماروني المتصهين يتبنى فكرة التقسيم الديني للمنطقة: لبنان للمسيحيين, فلسطين لليهود و سوريا للمسلمين!

*كاتب و باحث من الاردن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى