الجانب المظلم من حرب أكتوبر

 

حرب اكتوبر لم تكن حرباً خالصةً في مجدها و بهائها كما يعتقد الكثيرون، فقد كان لها جوانبها المظلمة و كانت منذ أيامها الأولى محفوفة بدرجة من التضليل الإعلامي يفوق ما عرفناه في أي حرب سابقة أو لاحقة. من حقنا أن نلقي بعض الضوء على تلك الحرب التي كانت الأساس الذي بني عليه الحاضر العربي المشين و نتفحص بشيء من النقد ذلك النصر الذي على أساسه أُخرجت كبرى الدول العربية و أقواها من معادلة الصراع العربي الإسرائيلي، ثم كان سبباً في تصدع جدار الصمود العربي الذي لم تنل منه حتى هزيمة حزيران. كانت الحرب بمثابة الرخصة التي اعتمد عليها السادات ليتمادى في طغيانه و يخون مسيرة أمته و يرتمي في أحضان أعداء بلاده. ثم تشبث بها انصاره من العملاء و مرضى النفوس الذين جعلوا منه بطلاً و من سياسته مرجعاً يَستدلون به على أن الخيانة دهاء و الاستسلام شجاعة و التنازل عن الحق سماحة.

لنتفق أولاً على ما لا يمكن لأحد أن ينكره، ولا حتى جنرالات إسرائيل، و هو أن الجنود المصريين والسوريين ( و كذلك الجنود العرب الذين ساندوهم ) أثبتوا في حرب ١٩٧٣ كفاءة قتالية عالية وحققوا بطولات شهد لهم بها العالم وبرهنوا على أنهم، عندما تتاح لهم الفرصة، قادرون على تلقين عدوهم درساً قاسياً. و في حالة الجبهة المصرية، وهي موضوع هذا المقال، فقد كان ذلك تحصيل حاصل، لأن الجندي المصري كان قد قام بعمليات بطولية خلف خطوط العدو و قدم تضحيات كبيرة و خاض حرب استنزاف شرسة على مدار ثلاثة سنوات أثبت فيها مراراً قدراته العالية. و قد اعترف ايريال شارون بأن المفاجأة الحقيقية في حرب ١٩٧٣ كانت في نوعية الجندي العربي.

كما هو معروف فما أن حانت ساعة الصفر من منتصف نهار يوم ٦ اكتوبر ١٩٧٣ حتى اكتسح الجيشان المصري والسوري مواقع العدو وحققا نجاحات مبهرة. ففي الشمال أخترق السوريون دفاعات خط آلون في مرتفعات الجولان و أحرزوا تقدماً أصاب إسرائيل بالذعر الشديد و اضطرها لغض النظر عن ما يجري في جبهة القناة للتركيز على التصدي لذلك الهجوم الكاسح خشية أن تقع مدن الشمال في مرمى المدفعية السورية. وفي تلك الاثناء كان الجيش المصري يعبر القناة و يخترق دفاعات بارليف و يؤسس رأس جسر على الضفة الشرقية. النجاحات التي حققها الجنود العرب في بداية الحرب كانت إنجازات بطولية مهما كانت المقاييس.

أذكر آني كنت أدرس في القاهرة في تلك الأثناء و كنت متابعاً بحماس لأخبار الجبهة عن طريق الاذاعة والصحف، و كان لي شرف التطوع للتبرع بالدم للمعركة التي انتظرناها طويلاً. في الأيام الأولى من الحرب ألقى الجيش المصري القبض على نحو ٢٥٠ أسيراً اسرائيلياً ظهرت صورهم في الصحف لعدة أيام ولا تزال عالقة في ذاكرتي. كان لتلك الصور مفعول السحر في رفع معنويات الشعب الذي كان متعطشاً لذلك النوع من الأخبار. كالكثير من المتابعين، تمنيت لو كان عبدالناصر بيننا ليرى ثمرة جهوده و عمله الدؤوب في بناء ذلك الجيش لكنها كانت مشيئة الله و ما شاء الله فعل. بقيت القوات المسلحة متمركزة في مواقعها بمحاذاة القناة من غير التقدم لتحرير سيناء و لم أستغرب ذلك يومها باعتبار أن للقادة ظروفهم و حساباتهم، لكني استغربته فيما بعد عندما تبين أن سيناء كانت مفتوحة بسبب إنشغال الجيش الإسرائيلي في الشمال. ثم كانت المصيبة عندما تبين أن السادات كان قد اتصل مع وزير الخارجية الأميركي كيسنجر في اليوم الثاني للقتال و طمأنه بأن الجيش المصري سيبقى في مواقعه و لن يتقدم باتجاه سيناء. المؤسف أن السادات أباح بنواياه لأعدائه و لكنه أخفاها عن حلفائه السوريين! و من المؤسف أكثر أنه لا يزال منا من يعتبر هذا النوع الرخيص الدنيء من خيانة الأخ لأخيه شيئاً من الدهاء.

في الأسبوع الثاني من الحرب أصدرت القيادة العسكرية بياناً عن أن قوة إسرائيلية من سبعة دبابات عبرت القناة باتجاه الغرب وأنها استحكمت في ”جيب“ في منطقة الدفرسوار وأنه يجري التعامل معها فيما عرف فيما بعد ”بالثغرة“. لم يكترث المواطن العادي كثيراً بذلك البيان و كنا على يقين أنه سيتم حصار تلك ”القوة المتسللة“ و القضاء عليها في أي وقت. في الأسبوع الثاني وحتى نهاية القتال تغيرت لهجة الأخبار و طغى عليها تعابير مثل مساعي التوصل لإتفاق وقف اطلاق النار و فضّ الاشتباك. في ٢٥ اكتوبر انتهت العمليات العسكرية المصرية تماماً و توقف القتال ضد إسرائيل … على ما يبدو إلى الأبد!

طيلة فترة القتال، كنت وزملائي و أصدقائي المصريين نعرف أن الجيش المصري قد أبلي بلاءً حسناً لكننا لم نكن نعرف فيما إذا كانت بطولات الجنود حققت النصر. بعد النجاح المبدئي أصبحت الصوره ضبابية و غير مفهومه للمواطن العادي، فمثلاً لم نكن نعرف ماذا كان مصير القوة المتسللة في الدفرسوار و لماذا لم يتم القضاء عليها. تأكدنا من بسالة الجنود لكننا لم نتأكد من النصر. لم يكن خافياً أنه كان هناك فتوراً متزايداً من ناحية القوات المصرية بينما كان الإعلام، و بشكل متزايد، يؤكد على الانتصار و يتغنى به بناءً على نجاح العبور الذي تم في الساعات الأولى من الحرب.

تلك كانت قصة الحرب كما فهمتها شخصياً و كما فهمها المواطن العادي و كما لا يزال يفهمها غالبية الشعب إلى يومنا هذا. كانت صور الجنود الاسرائيليين الذين وقعوا في الأسر كفيلة بإقناعنا جميعاً بالانتصار. لم نكن يومها نعرف، و لا تزال غالبية الشعب لا تعرف، أنه عندما توقف القتال كانت إسرائيل قد أخذت من الأسرى المصريين ليس فقط ٢٥٠ فرداً بل ما يزيد على ثمانية آلاف! و كذلك كان نجاح الجيش بعبور القناة كفيلاً باقناع الناس بالانتصار و هم يجهلون أن قوات العدو قامت أيضاً بعبور القناة بالاتجاه المعاكس، لا لتتمركز في مواقعها، و لكن لتضرب حصاراً كاملاً على الجيش الثالث و لتدمر حائط الصواريخ، الذي كان مفخرة الجيش المصري و و أغلى ممتلكاته و الذي لولاه لما قامت الحرب أساساً و لما تحقق العبور. بعد تدمير حائط الصواريخ سيطرت إسرائيل تماماً على سماء المعركة و أصبحت تدير دفة الحرب كما تشاء.

عندما انتهت الحرب كان الجيش المصري الثالث تحت حصار تام من القوات الاسرائيلية التي عبرت القناة باتجاه الغرب. أصبح بقاء ذلك الجيش يعتمد على ”رحمة“ إسرائيل و موافقتها على مرور الكميات الكافية من الماء و الغذاء والتي كانت تُخضعها لتفتيشات دقيقة و مُهينة و تُخضع كذلك الشاحنات و سائقيها. ذلك الحال المؤسف يذكرنا بطريقة تعامل إسرائيل مع المدنيين الفلسطينيين العزل، لكننا هنا نتكلم عن جيش كامل التسليح استمر حصاره حتى ربيع العام التالي، فهل كان ذلك الوضع يليق بجيش منتصر؟ فيما بعد أصبح حصار الجيش الثالث ورقة رابحة في يد إسرائيل تستعملها للضغط على مصر للحصول على تنازلات تلو التنازلات في محادثات الكيلو ١٠١ المهينه و التي استغلتها اسرائيل لابتزاز مصر.

حرب اكتوبر طال انتظارها طويلاً و كان متوقعاً لها أن تحدث قبل ربيع سنة ١٩٧١ و كان الهدف المرجو منها هو إزالة آثار العدوان. و كان للحرب هدف آخر غير معلن و هو الانتقام لعدوان ١٩٦٧ و إعادة الاعتبار للعسكرية المصرية. كان إحساسنا أن الحرب وشيكة منذ اليوم الأول من تنفيذ مشروع روجرز لوقف اطلاق النار و الذي استغلته القيادة المصرية بذكاء شديد لتحريك حائط الصواريخ للأمام، و هي الخطوة التي أعطت القوات المسلحة المصرية تفوقاً استراتيجياً على إسرائيل لأن صواريخ الدفاع الجوي ألغت تفوق الطيران الإسرائيلي. لكن الحرب تأجلت كثيراً بعد رحيل جمال عبد الناصر و المعركة التي توقعناها في ربيع سنة ١٩٧٠ تأخرت حتى ١٩٧٣ و عندما وقعت تبين أنها كانت نسخة باهتة و ضعيفة من الحرب التي كانت في بال القادة و الجنود و عامة الشعب. انتهت الحرب من غير إزالة آثار العدوان و لا حتى تحرير سيناء، بل كان الجيش الاسرائيلي قد احتل مزيداً من الأراضي المصرية ( هذه المرة غرب القناة) و وصل الى مسافة ٦٠ ميلاً من القاهرة.

و بينما كان الاعلام الرسمي مشغولاً بتسويق الحرب على أنها انتصار ساحق كان السادات يتفاوض من مركز ضعف و بأسلوب ينم عن أنه في مأزق. مفاوضات الكيلو ١٠١ و ما لحقها فيما بعد من محادثات و اتفاقيات في كامب ديفيد كانت نتائجها تصب في صالح إسرائيل. و في تلك الفترة لوحظ أنه في نشوة تكريس الاحساس بالانتصار كان هناك إغفال متعمد لذكر المجهود الجبار الذي بذله عبدالناصر و قادته في بناء الجيش. كانت الرسالة واضحة: هذا نصر تم في عهد السادات و لا ينبغي لأحد أن يشاركه المجد فيه. و الحقيقة أنه لم يكن للسادات أي دور يذكر في إعادة بناء الجيش ولا حرب الاستنزاف بل أنه لم يكن يقوم بزيارات للجبهة كما كان يفعل عبدالناصر و كاد ينحصر دوره الايجابي في أن الحرب وقعت في عهده. و قد تكون تلك الحقيقة وراء الهوس الاعلامي بأهمية إتخاذ ” قرار الحرب“ و اعتباره بحد ذاته كاف ليصنع منه بطل همام.

تم تضخيم أهمية ”اتخاذ القرار“ بشكل مبالغ فيه حتى أنه تراءى للناس و كأن كل ما سبق الحرب من استعدادات و بناء الجيش وتدريبه و تسليحه و حرب الاستنزاف و صواريخ الدفاع الجوي أصبحت كلها أشياء ثانوية و لا تذكر قياساً لبطولة ” اتخاذ القرار“. و أنا شخصياً أستغرب كيف تنطلي هذه الاضحوكة على أحد، فليس سراً أن قرار الحرب كان قد أتخذ في عهد عبد الناصر و كان انتخاب السادات على أساس أن يدخل الحرب، فهل كان أمامه خيار آخر؟ بل يمكن القول أن القرار الذي اتخذه السادات كان ” عدم دخول الحرب“ التي تأجلت عدة سنوات بلا أي سبب مقنع، و عندما اضطر أن يدخلها كان ذلك بتنسيق مع كيسنجر و بعد أن قرر في نفسه أن يقبل شروط أميريكا و إسرائيل بغض النظر عن نتائج القتال.

كان الجيش المصري، بعد إعادة بنائه، قد أصبح على درجة عالية من الكفائة و الاستعداد و أثبت قدراته القتالية مراراً في حرب الاستنزاف. كان توجه مصر نحو اميركا قد اصبح واضحاً و ازدادت العلاقات مع الاتحاد السوفياتي فتوراً بعد إنهاء عمل الخبراء. وهكذا فقدت مصر ثقة حليفها الاستراتيجي و في نفس الوقت فشلت في أن تكسب أمريكا ( التي تتبنى اسرائيل ) كحليف بديل. بذلك النوع من العلاقات الدولية أصبح تفوق مصر في أي منازلة عسكرية ضد إسرائيل ضرباً من الخيال. أستغرب التذمر الذي يبديه البعض من أن الاتحاد السوفياتي كان شحيحاً في امداد مصر بالسلاح و قطع الغيار بينما كانت اميركا تعطي اسرائيل بسخاء. و ماذا نتوقع؟ أنا شخصياً استغرب أن الاتحاد السوفياتي أعطى مصر أي سلاح بعد آن اصبحت نوايا رئيسها مكشوفة.

الجيش المصري كان قادراً على تحرير سيناء و على منع حدوث الثغرة لو اتيحت له الفرصة. حرب أكتوبر بدأت فعلاً بانتصار مجيد و مُشَرِّف لكن النهاية كانت شيء آخر والإدعاء بغير ذلك يُذكِّر بحال الملاكم الذي يدّعي الفوز في المباراة بناء على أدائه الجيد في الجولة الأولى متناسياً خسارته في كل الجولات التالية و أن المباراة انتهت و هو ملقى على الأرض.

لا تذكر حرب ١٩٦٧ إلا و يذكر معها التضليل الاعلامي الذي رافقها فكان تجنب التضليل الاعلامي من أهم الدروس التي تعلمتها القيادة العسكرية المصرية. كانت كل البيانات العسكرية التي صدرت بعد ١٩٦٧ تتصف بالصدق و تخلوا من أي نوع من المبالغة. لكن يبدو أن ذلك الدرس ضاع في غياهب النسيان في حرب أكتوبر التي رافقها تضليل إعلامي لا يزال مستمراً الى الآن و شاركت فيه الحكومات المصرية المتعاقبة و الإعلام المصري و العربي – إلى حد كبير.

لا أستبعد أن السادات كان جزءاً من مؤامرة كبرى كان عدوان ١٩٦٧ أول مراحلها. كان واضحاً من مجريات الاحداث بعد النكسة أن العرب لن يتخلوا عن حقوقهم و لن يتقبلوا الكيان الصهيوني تحت أي ظرف من الظروف و تأكد ذلك الموقف بعد و فاة عبد الناصر و جنازته التاريخية. أدركت القوى الاستعمارية أن مبادىء الزعيم و طموحاته محفورة في أفئدة الشعوب العربية و هو شيء تنبأ به و تحدث عنه في خطاب التنحي عندما قال: ”إن قوى الاستعمار تتصور أن جمال عبد الناصر عدوها و أريد أن يكون واضحاً لهم انها الأمة العربية كلها و ليس جمال عبدالناصر“. في السنين التي تأجلت فيها الحرب تحول السادات إلى موضع استهزاء و سخرية في الشارع المصري. من أجل ذلك كان من أهم أغراض حرب أكتوبر إسباغ قناع بطولة زائفة عليه لدعم ثقته بنفسه و تمكينه من استعمال الحرب كدرع واق يحتمي وراءه و هو يستدير ضد عبدالناصر و مبادئه و انجازاته، فلا بد من بطل (حتى و إن كان زائفاً) لمجابهة البطل. و هكذا مضى يتحدى جهاد أجيال من الشهداء و يحطم ثوابت الأمة و يرتمي في احضان أعدائها و يقترف الخيانة نهاراً تحت شعار الدهاء.

و أي دهاء؟ فلم يستغفل السادات أحداً غير المغفلين من أمته، في حين استغفله كل أعداء أمته.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى