في ذكرى رحيله.. هل تسعفنا “فلسفة الضرورة” في انجاب خليفة لعبد الناصر؟؟
بقلم: فهـــد الريمـــاوي
رفيقَ صلاح الدينِ هل لكَ عودةٌ فإن جيوشَ الرومِ تنهى وتأمرُ
نزار قباني
١٩٧٠/٩/٢٨ يوم غاشم مولود من خاصرة الخطيئة، ومطرود من رزنامة التاريخ، ومعدود من اسوأ ايام العرب.. فهو عنصر عذاب وارهاب من عصابات داعش، وظرف زمان لئيم وضالع في المكر والغدر ، ودسيسة خسيسة من حماقات الاقدار العمياء، وعلامة حالكة وفارقة في جبين القرن العشرين، وجملة تعسفية معترضة فصلت ما بين الفعل والفاعل، وبين المبتدأ والخبر في صفحات المشروع القومي الناصري العظيم.
في ذلك اليوم البائس لم يرحل عن دنيانا زعيم عربي ثوري مقدام، ورمز المعي من رموز القرن العشرين، اسمه جمال عبد الناصر، بل رحل معه عصر عربي باكمله، ومجد عربي بكليته، وحلم عربي عزيز بالوحدة والحرية والاشتراكية، ومصير عربي شديد الاختلاف عما نحن عليه الآن، وحضور عربي وازن في سائر المحافل الاقليمية والدولية، وقاموس عامر بمفردات العزة والكرامة والسيادة والنزاهة وموفور الشرف.
في ذلك اليوم الارهابي اغتال الردى “ابا خالد”.. داهمه على حين غرة، واختطفه من حومة الوغى قبل ان يُكمل استعدادات جيشه لمنازلة الصهيوني المحتل، واخذ الثأر بالكيل الوافي، ورد الصاع صاعين لعدو انتصر في لحظة غفلة، وتحرير التراب العربي في القدس وسيناء والجولان.. فليس مثله مَن يقبل الذل، ويرتضي الضيم، ويفرّط في الحق، ويتهاون في انتزاع الثأر، وفي القاء سورة الرعد وآيات الويل في مسامع الاعداء.
بكل المقاييس، يمكن اعتبار ذلك اليوم كارثة قومية، وضربة قاتلة من ضربات الزمان، وانقلاباً جنونياً في دوران عقارب الساعة، فليس ما سبق ذلك اليوم المقيت شبيهاً بما لحقه، وليس ما كان قبله مثيلاً لما طرأ بعده.. فشتان بين امة حيّة تجاهد حق الجهاد لاتنزاع حقوقها، واثبات وجودها، وتقرير مصيرها بمحض ارادتها.. وبين امة مشتتة ومأزومة وعاجزة عن صون كرامتها، ومتخاذلة في الدفاع عن ترابها ومياهها وانسانها، وفاقدة للحس الوطني وروح المسؤولية القومية، ومتهافتة على الدول والمراكز الامبريالية لتأمين الدعم والحماية لها، مقابل بيع ارادتها، وشطب استقلالها، واعادة استعمارها وتدنيس اراضيها بالقواعد العسكرية.
وعليه.. هل كان رحيل “ابي خالد” قَدَرياً ومحمولاً على اسباب صحية ؟ ام ان هناك مَن سرق عمره واستعجل رحيله، واستدعى ملاك الموت خلسة ليقبض روح هذا “الفدائي” المضطلع بمرتبة رئيس جمهورية ؟
سؤال ليس امنياً او سياسياً يقتضي التحقيق والتدقيق فيما فات اوانه، بل هو سؤال فلسفي يكتسب اهميته ومنطقيته من “الهجوم المعاكس” الذي تعرض له الواقع المصري والعربي مباشرة بعد ذلك الرحيل المفجع والمفاجئ، والذي شكّل “اشارة البدء” في تنفيذ اتجاه معاكس ومسار بديل، وفقاً لمخطط جهنمي مُسبق الصنع وبعيد المدى.. كما سنبيّن لاحقاً.
مباشرة بعد الرحيل، انقلبت في الديار العربية سائر الاحوال، واختلفت غالبية النوايا والافعال، حتى بات الجواب يسبق السؤال، والصدى يسبق الصوت، والخاتمة تتقدم على الفاتحة، والتعمية تطغى على التوعية، والتزوير يطغى على التنوير، والتظاهر والادعاء ينتحلان صفة الحقيقة والصدق، ومنظومة التفريط والتهاون والتخاذل تتدثر بلبوس الحرص والاخلاص، الى حد إقدام الحكام العرب اليوم على تدوين اتفاقات التطبيع بحروف الافتخار، وعزف اناشيد الهزيمة بالحان الانتصار، واطلاق نار الخيانة ببنادق “الكفاح المسلح”، ونشر ثقافة الفُرقة والعزلة والمباعدة والعصبية القُطرية والقَبَلية والطائفية، تحت عناوين الخصوصية والفرادة والسيادة الوطنية “والقرار المستقل”.
في غياب النهج الناصري والعقيدة القومية، لم يعد معظم الحكام العرب – وربما النخب ايضاً – صناعة عربية، ولا يتمتعون بالغيرة الوطنية والاهلية القيادية، ولا محل لهم من الإعراب في ميزان الجماهير الشعبية، وليس في واردهم او حسبانهم رعاية اوطانهم وصون حقوق ومصالح مجتمعاتهم، وانما هم عملاء ووكلاء مجندون – علناً وعلى رؤوس الأشهاد – لخدمة اسيادهم في امريكا المهزومة والمذمومة في كل مكان الا عندهم، وموادعة اصدقائهم وحلفائهم الجدد في اسرائيل التي نشرت جواسيسها ورفعت أعلامها – بكل اسى واسف – من مشارق الوطن العربي الخليجية الى مغاربه المغربية.
لم يكن عبد الناصر نبياً او ولياً او إماماً معصوماً نخشع بين يديه ونتعبد في محرابه، بل كان بطلاً بمعنى الكلمة، وزعيماً كاريزمياً عظيماً، ورمزاً قيادياً كبيراً، وامثولة في الصدق والشجاعة والنزاهة تستحق الاقتداء بها، والاهتداء بهديها، والسير على نهجها الذي ايقظ امة بكاملها، وفولذ عزيمتها النضالية، واطلق طاقاتها الوحدوية، ورفع روحها المعنوية حين وضعها على قدم المساواة مع جلائل الامم.
لو ان “ابا خالد” لا يزال رابضاً في القاهرة، او ان عهده لا يزال قائماً ونهجه لا يزال مستمراً.. هل كان بمقدور اوباش من فصيلة ابن زايد وامثاله ان يوغلوا في الخيانة، ويمعنوا في التطبيع، ويحتموا بالتبعية للخارج بدل الشرعية من الداخل، ويسرفوا في اهانة امتهم وتشكيكها في ذاتها، وتكفيرها في ثوابتها وقناعاتها.. حتى اوشكت ارض العرب ان تهجر ترابها، وشمسهم ان تعلن غيابها، وصلواتهم ان تنكر محرابها، وعقولهم ان تفقد صوابها، وايامهم ان تسير القهقرى الى الوراء.
ليس عفوياً او عشوائياً او طبيعياً، كل هذا التدهور الذي طرأ على الحال العربي منذ رحيل عبد الناصر، وانما هو بالقطع واليقين وليد مكيدة تخريبية متعددة المراحل التنفيذية، ومتنوعة الاطراف المشارِكة، بدءاً من ردة المقبور انور السادات حتى وقتنا هذا، حيث امكن للعدو الاسرامريكي اختراق الساحات العربية طولاً وعرضاً، وزرعها بالخونة والجواسيس على مختلف المستويات الحاكمة والمعارِضة، وتلك المُصنّفة من زُمر المثقفين ورجال البزنس وحيتان البترودولار .
ليس ما جرى ويجري في عموم الاقطار العربية، كبيرها وصغيرها.. غنيها وفقيرها، حركة تدهور وتقهقر ذاتية تعود الى اسباب موضوعية تتمثل في ضعف قواها الوطنية، ودورتها الدموية، ومواردها الاقتصادية، ومستوياتها العلمية والثقافية، بل هي نتاج عملية هدم وتخريب وتفكيك مقصودة وممنهجة بدقة وتستهدف كل مناحي الحياة العربية، لكي تَسهل السيطرة الصهيونية عليها، وبالتحديد على العقل العربي الذي يتعرض للافساد والتجويف والتجريف بمختلف الطرق والاساليب الشيطانية، لمنحه صفة “العقل العميل”، وحمله على مفارقة مواقع الصواب والسداد والرشاد، ومن ثَمّ مقارفة الوعي الزائف، ومداومة التغريب والتفكير الخاطئ، وتعاطي التحشيش السياسي والاجتماعي والاخلاقي، وافراز مرذول الافكار من سفاسف التخلّف والانحطاط، وادمان خطايا القسمة والطرح بدل الجمع والحشد، وعِوَضَ تعزيز “قوة التفاهم”، وتوحيد وجهات النظر لدى الرأي العربي العام.
ولكن.. من المؤكد ان دوام حالٍ من المُحال، وان هذا الواقع العربي المُزري ليس قَدَراً مقضيّاً ولا قضاءً مُبرماً ولا وضعاً نهائياً او بلاءً حاسماً وحتمياً، وانما هو مجرد مرحلة طارئة ومؤقتة مهما طال بها الامد، وهي حقبة قابلة للتغيّر والتغيير ما ان تستيقظ هذه الامة من غفلتها، وتدرك سوء المصير الذي سيترتب على استمرار تخاذلها، وتختل المعادلات الدولية والاقليمية المعاكسة لها، وتتراخى قبضة القوى المتسلطة عليها، واولها واهمها دولة البغي والطغيان الامريكية التي تخصصت – منذ ثلاثة ارباع قرن – في قتل الاحلام والطموحات والمشاريع القومية العربية، فيما تكرّست لنصرة كل اعداء العروبة من صهاينة واكراد واتراك واحباش وايران الشاه.
هذه الحالة الظرفية العابرة لا يجوز ان تدفعنا لليأس، وتصيبنا بالقنوط والاحباط، وتمنعنا من الرهان الدائم على القوة الروحية الكامنة في دخيلة امتنا، وعلى ضميرها الوطني المستتر، وموروثها الجهادي والاستشهادي المكنون، وقدرتها على مفاجأة نفسها والعالم، وجذورها الضاربة في اعماق الجغرافيا والتاريخ، واسبقيتها الى الهُدى والايمان بوصفها مهد المسيحية ودار الاسلام.. وصدق جلّ وعلا اذ يقول ” إنكم ترونه بعيداً ونراه قريباً”.
انظروا كيف فاجأت جماهير الامة نفسها، واهتز بالفرح وجدانها من صنعاء الى الدار البيضاء، حين اخترق “ابطال الحرية” باستيل الصهاينة في جلبوع، وانتزعوا حريتهم بقوة صبرهم ومثابرتهم، واثبتوا ان فعل الاستحالة يسقط امام فعل الارادة.. وانظروا كيف شهقت كل القلوب العربية (باستثناء الخونة) ضراعة لله ان يحفظ هؤلاء الابطال ويُعمي عنهم عيون الاعداء، وكيف وقع على الجميع، وقوع الصاعقة، خبر اعادة القاء القبض عليهم.. غالباً بفعل لعنة التنسيق الامني “العباسي”.
قبل نحو عامين دفعني السخط وتكدر البال وتعكر الخاطر وضيق ذات الصدر من هذه المتاهة العربية، الى السفر براً في تضاريس تاريخنا طولاً وعرضاً، لعلي اعثر على ما يشابه زماننا الراهن من وقائع وفظائع، واعرف كيف امكن لاسلافنا الانبعاث من رماد البأساء، ووضع نقاط الانتصار على حروف الهزيمة.. ولم اجد ما يماثل او يضاهي ايامنا الحاضرة اكثر من حقبة الحروب الصليبية التي اسفرت بادئ الامر عن انتصارات الفرنجة، وتأسيسهم ممالك وامارات دخيلة على ترابنا العربي ردحاً طويلاً.. والى حين توفر عاملين مهمين ومتزامنين، وحتى متقاطعين، كان لهما الاثر البالغ في قلب موازين القوى، وتبديل آليات الصراع وقواعد الاشتباك، وترجمة خطاب النصر من الرطانة اللاتينية الى لغة الضاد العربية.
لقد تمثل العامل الاول في بواكير الصحوة العربية الاسلامية، لدى قيام الوحدة المصرية السورية العراقية على يد القائد المجاهد صلاح الدين الايوبي.. فيما تمثل العامل الثاني في اضطراب واحتراب الدول والدوقيات الاوروبية الداعمة للكيانات الصليبية في بلادنا، وبالتالي انقطاع “الحبل السُري” الذي كان يربط الام الاوروبية بهذه الكيانات اللقيطة والموجودات الغريبة عن محيطها المشرقي.
منذ بداية هذا القرن لاحت بوادر انحدار امريكا، تحت قيادة الارعن بوش الابن الذي تورط في غزو العراق وافغانستان، وهوى بامبراطوريته، عام ٢٠٠٨، الى حضيض الافلاس المالي والسياسي والعسكري.. ثم كرّت المسبحة نزولاً الى عهد اوباما الذي كان يحلم ولا يحكم، ثم ترامب الذي اجتمعت لديه كل الحماقات السياسية والرذائل الاخلاقية، ثم “العم” بايدن الذي انكسرت عصاته من اول غزواته، او بالاحرى انسحاباته، من افغانستان.
كل الدلائل والتقديرات تؤشر الى تراجع – وربما تقهقر – هيلمان الامبريالية الامريكية في الخارج، وقرب تخففها من اعباء عملائها ووكلائها بالشرق الاوسط.. مقابل انصرافها لمعالجة انقساماتها على نفسها، وتفاقم ازماتها واضطراباتها العرقية والطبقية في الداخل، الامر الذي سوف يُشغلها، خلال وقت ندعو الله الا يطول، عن رعاية وحماية ربيبتها الاسرائيلية، والاستغناء عن خدماتها الاجرامية، وبما يؤدي حينذاك الى دخول هذه الاسرائيل مرحلة “انعدام الوزن”، ومواجهة مصير عدد من دول المعسكر الاشتراكي التي ذابت او تفككت، عقب انهيار الاتحاد السوفياتي.
ليس معنى ذلك ترك العوامل الخارجية كي تنوب عنا في حسم الصراع وامتشاق الانتصار، بل يتوجب على طلائع هذه الامة وقواها الحية والثورية ان تُشمّر عن ساعد النضال والفداء والمقاومة الباسلة، “فما نيل المطالب بالتمني”، ولا امل يُرجى من انظمة العمالة القائمة.. ولكن مَن يدري، فربما تُسعفنا “فلسفة الضرورة” بقائد مغوار من مدرسة عبد الناصر، فالشعوب المقهورة مضطرة لانجاب الابطال، لانها في أمسّ الحاجة اليهم.
رحم الله “ابا خالد”، والفاتحة لروحة النقية والتقية الطاهرة.