شهدت الاسابيع التي اعقبت وفاة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر مظاهر كثيرة من الحزن و الحداد عمت مصر كلها خاصة مدينة القاهرة حيث كنت أدرس. اتشحت صور الفقيد في كل مكان بالسواد و ارتدت نساء مصر ملابس الحداد السوداء لأسابيع أو أشهر عديدة. كنت أسكن في منشية البكري و هي منطقة سكنية متوسطة المستوى كان يسكن فيها جمال عبد الناصر. كان رئيس الجمهورية يعيش في بيت منزوٍ من بيوت الأشغال العسكرية يتعذر رؤيتة بسبب الاشجار و الحراسة على الشارع الفرعي المؤدي له. لكني أتشرف بالقول أنني كنت ألمح الرئيس مراراً و هو في مواكبه الرسميه مع ضيوفه من قادة الدول و كان رحمه الله حريصاً على أن يحيي المواطنين الذين كانوا يترقبونه على ناصية الشارع.
بعد أن أُعلن خبر وفاة القائد الكبير في ذلك اليوم المشئوم من سبتمبر، اختارت الحكومة مسجداً في شارع المأمون ليكون مثواه الأخير، و كان المسجد قد تم بناؤه حديثاً و كان ذو هندسة معمارية جذابة و ملفتة للنظر. في الأسابيع التي سبقت رحيل الفقيد الكبير كنت أسير نحو ثلث ساعة لأصلي الجمعة في ذلك المسجد و لم أكن أعرف أن المسجد لم يكن قد اُفتتح رسمياً بعد.
في الأيام التي تلت الجنازة التاريخية و الحزينة كانت الآلاف من أفراد الشعب تتجمع حول المسجد لقراءة الفاتحة على روح الفقيد الطاهرة. مرت الايام و الاسابيع و استمر تواجد الجموع الغفيرة حول المسجد و أضطررت لأن أصلي الجمعة في مسجد قريب من شقتي تلافياً لمخاطر الازدحام. كنت في تلك الفترة شديد التدين و متزمتاً في اعتقاداتي و أرفض القدسية التي يضفيها الناس على أضرحة الأولياء. كان خوفي أن يتحول ضريح الزعيم الفقيد إلى مزار ديني يقدسه الناس و يتبركون به، و أذكر أني قلت لزميلي في السكن لو كان الفقيد على قيد الحياة لرفض تلك الممارسات لأنها لا ترضي الله. كان زميلي ناصرياً مثلي لكنه كان أكثر حكمة و دراية مني فلم يهتم بمخاوفي لأنه كانت له مخاوف أخرى. كان ذلك الزميل مشغولاً بقص و جمع مقالات الرثاء التي تنشر يومياً في الصحف و المجلات بأقلام كتاب كان يشك في صدقهم و كان يقول ”سأريكم أن هؤلاء يكتبون ما يكتبون نفاقاً للمجتمع“. كلما أجتمع به أذكّره ببصيرته تلك و كأنه كان مكشوفاً عنه الحجاب!
بعد بضعة أسابيع طالعتنا الأهرام بمقال لهيكل تحت عنوان ” عبد الناصر لم يكن أسطورة“، و أسعدني أنه كان هناك من يشاركني مخاوفي. هيكل كان يخشى أن يتحول عبد الناصر الى اسطورة تزخر بما تزخر به الاساطير من خوارق و غيبيات. أما أنا فكانت قبضة التدين تُحتّم علي أن أخشى أن يتحول ضريحه إلى رمز ديني مقدس و يصبح مزاراً يعتقد الناس أنه يقربهم لله تعالى.
طبعاً لم يكن عبد الناصر ولياً مقدساً و لا أسطورة تزخر بالخوارق و الغيبيات وانما كان قائداً وطنياً ملهماً ذو مبادىء سامية أخلص لها و تفانى من أجلها. بزغ نجمه مع بزوغ شمس الحرية و الاستقلال في العالم العربي. كان يتحدث بعفوية مع أفراد شعبه و يشعر بآلامهم و يحلم أحلامهم و يُعَبِّرُ بصدق عن أحاسيسهم فتجسدت فيه آمال أمته و تطلعاتها. و كان يؤمن بالقوة الكامنة في الشعوب العربية و الطاقة الجبارة التي يمكن أن تفرزها الوحدة العربية، و تميزت قيادته باستقلالية ملفتة للانظار في زمن شاعت فيه التبعية للدول الكبرى. أجمعت الأمة العربية على الثقة به و حبه حباً اسطورياً، و كان يرى في ذلك مسئولية جسيمة أكثر مما يرى فيه تكريماً لشخصه. و مع ذلك فقد كان أكثر الناس رفضاً لتضخيم دور الفرد و أكثرهم تأكيداً على دور الشعوب. لم يقل يوماً ”أنني كسرت احتكار السلاح أو أممت قناة السويس أو أنشأت المصانع أو بنيت السد العالي“ رغم دوره الاساسي و المحوري في كل تلك الانجازات، لكنه كان ينسبها للشعب الذي انجزها بسواعده. و من الناحية الاخرى فكان يلوم نفسه على إخفاقاته كما فعل بعد النكسة عندما أعلن أنه شخصياً يتحمل المسئولية كاملة.
لكننا الآن و بعد نصف قرن ننظر إلى تلك الايام فنرى صورة لم يكن متاحاً لنا رؤيتها عندما كنا في خضم أحداثها. في عصر عبدالناصر، كنا نظن أن نهجه المستقل و استقامته و زهده و حرصه على العدالة الاجتماعية ستكون نموذجاً يحتذى لخلفائه من الحكام العرب في مرحلة ما بعد الاستقلال. لكننا الآن و بعد أكثر من نصف قرن تداول علينا فيه عشرات من الحكام لا نذكر واحداً منهم تمتع بوطنية و إستقلالية جمال عبد الناصر ولا بساطته و لم يجاريه أي منهم في تفانيه و استقامته.
بعد أكثر من نصف قرن نستطيع الآن أن ننظر إلى أحداث الماضي و نرى بوضوح كيف كان جمال عبد الناصر بمثابة العقل المحرك و القلب النابض لتنظيم الضباط الاحرار الذي أسسه و تولى قيادته. و نرى أيضاً أنه كضابط شاب كان قائداً ملهماً ذو بصيرة لم تتوفر لغيره. فلولا شجاعته و إقدامه لتعثرت خطة الثورة بعد انكشاف أمرها قبل بضعة ساعات من انطلاقتها التاريخية. كان قائداً طبيعياً لزملائه الضباط يحبونه و يُجمعون عليه و يعيدون انتخابه مرة تلو المرة. و مع ذلك فبعد نجاح الثورة كان راضياً و قانعاً بأن يقود الثورة من المقعد الخلفي، فلم يكن يهمه الحكم بقدر ما كان يهمه استمرار الثورة في تحقيق اهدافها.
و نستطيع أن نرى أيضاً أنه من غير بصيرة عبد الناصر و عزيمته فإنه حتى بعد نجاح حركة الجيش يوم ٢٣ يوليو ١٩٥٢ و استتباب الامور فإن الثورة كانت غالباً ستتجمد عند مرحلة الانقلاب و لما حققت إنجازاتها. عندما نتأمل الأحداث و نتمعن في شخصيات زملائه( بعد مِحَكّ الأيام ) يتبين لنا بوضوح أنه لم يكن منهم أحد غير عبدالناصر قادر على الوقوف بتلك الدرجة من القوة و الحزم ضد الاحلاف الدولية التي كانت مفروضة على المنطقة، و لم يكن أحد غيره قادر على اتخاذ قرار تأميم القناة ( و لا مجرد التفكير فيه) و لا بناء السد العالي بعد وضوح موقف البنك الدولي و الدول الكبرى. و أكثر من ذلك لما انطلقت تلك الشرارة القوية التي فجرت تلك الطاقة المذهلة من العزة و الكرامة و الأخوة العربية و التي سرت كالبرق في عروق الوطن العربي و أسست لقيام دولة الوحدة و أشعلت نيران الثورة و التحرر في بلاد عديدة.
لم يطمح جمال عبدالناصر في يوم من الأيام لأن يكون زعيماً عربياً و لا أن يكون رئيساً و لم يخطط لشيء من ذلك. كان حلمه و كل ما يدور في خلده هو أن يثور على الطغيان و الاوضاع الفاسدة. كان شغله الشاغل و هدفه الذي وضعه نصب عينيه هو أن يُحدث تغييراً جذرياً في بلده ليقضي على الظلم و يحقق ما كان يصفه ”بمجتمع الكفاية و العدل“ و إذابة الفوارق بين الطبقات. لكن شاءت الارادة الالهية أن يصبح زعيماً عالمياً يشار إليه بالبنان و قامة دولية لها وزنها. كان الشرفاء و الاحرار في شتى أنحاء العالم ناصريين، و كانت الأمة العربية، بأسرها تقريباً، أمة ناصرية ، بينما انحصر أعداؤه في دعاة الرجعية و اذيال الاستعمار. كانت الامة العربية تحطم قيود الاستعمار و تحلم بمستقبل مشرق و دولة كبرى تَجمع الشعوب العربية و تعيد أمجاد الماضي. كان قدر جمال عبدالناصر أن يكون ذلك البطل الذي انتظرته أمته و توسمت فيه الخير و أجمعت على على حبه و الثقة به و الزعيم الذي اختارته ليكون لها امبراطوراً غير مُتوَّج تتعدى زعامته كل الحدود.
نعم، كان رحمه الله زعيماً اسطورياً .. من غير خوارق و لا غيبيات.