في ذكرى 28 ايلول 1970.. اليوم الاخير في حياة جمال عبد الناصر

يقول الدكتور الصاوي حبيب , وهو الطبيب الخاص للرئيس جمال عبد الناصر, في مذكراته أن الزعيم كان قد تعرض لأزمةٍ قلبيةٍ سنة 1969 – قبل سنةٍ من وفاته , وأنه في ذلك الوقت نجا منها وتجاوزها بمساعدةٍ من الاطباء الذين نصحوه وأكدوا عليه بضرورة تغيير نمط حياته وأخذ قسط وافر من الراحة وتقليل المجهود الذي يبذله وساعات العمل الطويلة وتجنب التوتر والانفعال. ولكن هيهات ! كيف يمكن لشخص بحجم جمال عبد الناصر والمسؤوليات الجسام التي يحملها فوق كتفيه أن يهنأ بالراحة والسكينة , فذاك المستحيل بعينه. والذي حصل أن الرئيس بعد تعافيه من تلك الأزمة القلبية استأنف عمله المرهق المتواصل بلا كلل 18 ساعة في اليوم, يجتمع بالحكومة والوزراء, يترأس اجتماعات القيادة العسكرية ويقود عمليات حرب الاستنزاف, وزار جنوده في خطوط النار على الجبهة مع “اسرائيل” مرات عديدة, كما تنقل في انحاء مصر من اقصى شمالها لجنوبها وألقى الكثير من الخطب, وشارك في عدة مؤتمرات واستقبل رؤساء دول اجانب, كما قام بزيارة موسكو مرتين , وزار ليبيا والمغرب والسودان ,,, مجهود مضاعف كان يبذله الزعيم في ذلك الوقت العصيب الذي تمر به مصر, ساعياً لإعادة الثقة بالنفس لدى شعبه وجيشه بعد هزيمة 67 تحضيراً للمواجهة الحتمية القادمة مع العدو الصهيوني. والواقع ان تراجع الوضع الصحي للرئيس قد بدأ مبكراً سنة 1958 عندما كان بسن الأربعين, حين شُخّص بمرض السكري وازداد بمرور الوقت حيث بدأ يعاني من ارتفاع ضغط الدم والكوليسترول و خصوصاً أنه كان مدخناً , حتى وصل الى انسداد الشرايين والأزمة القلبية الاولى سنة 69.
في 17 ايلول 1970 اندلع القتال الشرس في الاردن بين الجيش الاردني من جهة وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية من جهة أخرى. وهذا الأمر كان كابوساً بالنسبة لجمال عبد الناصر الذي كان يسعى الى حشد الطاقات العربية وتوحيد الجهود لمواجهة الكيان الاسرائيلي المحتل وآخر شيء يريده أن يرى الدماء العربية تُسفك في قتال داخلي عربي – عربي. ومنذ لحظة اندلاع المعارك بدأ عبدالناصر في سلسلة اتصالات واجتماعات مكثفة لوقف القتال في الاردن. مجهودات مكثفة بذلها الرجل المريض على مدار الليل والنهار , ودعا الى قمّة عربية عاجلة لمعالجة الموقف. وبالفعل استجاب معظم الزعماء العرب وحضروا الى القاهرة (9 دول) يوم 22 ايلول حيث عقدت القمة الاستثنائية المخصصة لموضوع الاردن. وقررت القمة ارسال وفد من الرؤساء الى الاردن لمقابلة الطرفين والسعي للتوصل الى حل. وبالفعل ذهب الوفد الذي كان برئاسة جعفر النميري (السودان) الى عمان ونجح بعد مجهودات مكثفة كان يتابعها عبد الناصر اولاً بأول الى التوصل الى اتفاقية مبدئية للتهدئة وعاد الى القاهرة يوم 25 ايلول مصطحباً معه ياسر عرفات الذي كان مختبئاً في جبل اللويبدة في عمان. وفي يوم 27 ايلول حضر الملك حسين ايضاً ووقّع الطرفان على اتفاقية رسمية لوقف اطلاق النار برعاية مصر وشهادة سبعة من الزعماء العرب. وهكذا نجحت الجهود الجبارة لجمال عبد الناصر وتحقق هدفه (الصعب) الذي كان يتلخص في المحافظة على المقاومة الفلسطينية حيّة وفاعلة ضد العدو الاسرائيلي وفي ذات الوقت احترام سيادة الدولة الاردنية (نصت الاتفاقية على خروج قوات الفدائيين بأسلحتهم من العاصمة عمان والمدن الرئيسية وإعادة تمركزهم في مناطق الأحراش قرب جرش وعجلون وفي قواعد قرب الحدود).
في اليوم التالي, الأخير لجمال عبد الناصر على قيد الحياة, صدرت جريدة الأهرام بعنوان رئيسي (التوصل الى اتفاق). وكان وقف سفك الدماء العربية في الاردن آخر أعمال جمال عبد الناصر في هذه الدنيا. توجد عدة روايات لتفاصيل اليوم الأخير لعبد الناصر أشهرها ما قاله وكتبه مستشاره المقرب محمد حسنين هيكل. أصر جمال عبد الناصر أن يذهب بنفسه لمراسم توديع الزعماء العرب العائدين لبلادهم وكان آخرهم امير الكويت. قال عبد الناصر لمن نصحه بالراحة انه سيذهب احتراماً لهم وخصوصاً انه لم يكن في استقبالهم في المطار عندما جاؤوا. وبعد أن لوّح بيديه لأمير الكويت الذي كانت طائرته تستعد للاقلاع شعر عبد الناصر بألم شديد في صدره, مما دفعه للإشارة لمرافقيه لكي تأتي السيارة الى حيث كان يقف بسبب عدم قدرته على المشي. توجه الرئيس مباشرة الى منزله في منشية البكري حيث كانت تنتظره زوجته السيدة تحية واولاده على الغداء, ولكنه قال لها “مش قادر أحط حاجة في بقّي” وتوجه مباشرة الى غرفة نومه بعد أن طلب من مساعديه استدعاء طبيبه الخاص الصاوي حبيب. عندما وصل الدكتور الصاوي أدرك فوراً مدى خطورة الحالة التي عليها الرئيس بسبب انسداد الشريان التاجي فطلب استدعاء المزيد من كبار الاطباء وبدأ في اجراءات الاسعافات ومحاولة تحريك عضلة القلب بالتدليك وعن عن طريق الصدمات الكهربائية والتنفس الصناعي. ولما رأت السيدة تحية مدى انهماك الاطباء في محاولة انقاذ زوجها وتجهّمهم الواضح بدأت في البكاء ثم قامت بالاتصال واستدعاء قيادات الدولة العليا الى منزل الرئيس. ويقول هيكل انه عندما وصل الى حجرة عبد الناصر كان قد سبقه, بالترتيب, كل من : الفريق محمد فوزي , علي صبري , شعراوي جمعة وسامي شرف. وبعد دقائق حضر حسين الشافعي و أخيراً جاء انور السادات.
في تمام الساعة 6:15 مساء أسلم الزعيم الروح , عن 52 عاماً. أعلن الاطباء الوفاة وسط صدمة وذهول الحاضرين. انتهت حياة الرئيس وسط حزن شديد عمّ انحاء مصر والعالم العربي الذي رأى فيه زعيماً حقيقياً يجسّد الأمل العربي في الوحدة والتقدم والعدالة. عاش نزيهاً عفيفاً ومات نظيفاً شريفاً , رحمه الله.

*كاتب من الاردن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى