ألتفكير خارج القفص

 

يعيش المجتمع الفلسطيني ، ومنذ فترة ليست بقصيرة ، حالة يمكن وصفها بسرعة ردة الفعل والانفعال الزائد حيال حدث/ أحداث معينة لم تترك هذه الحالة متسعا كافيا كي يتم التركيز على صناعة الحدث ، بدلا من صناعة وتداول الاخبار، والتي غالبيتها غير مؤكد ، بشتى الوسائل المتاحة .
حتما هناك عدة عوامل وراء ذلك، منها الهامش الواسع والمتاح في وسائل التواصل الاجتماعي ، والتي تطورت في الاونة الاخيرة بشكل كبير جدا دون رقابة ذاتية أو الالتزام بقواعد وأصول أخلقيات صناعة الخبر ونشره، الامر الذي اتاح للطرف الاخير شحن سهامه ووسائل اعلامه المحمومة وبعض من الطابور الخامس، لنشر الاشاعات والاخبار الزائفة بغية تعميق الخلافات والانقسامات وبث الفتن بين فئات الشعب المرابط .
قبل الخوض في هدف هذه العجالة ، لا بد من التنويه الى تعدد مصادر وأشكال الصدمات النفسية التي تلقاها ولا يزال يتلقاها الانسان الفلسطيني ، ، دون التفكير مسبقا بالنتائج المترتبة على هذا السلوك ألاندفاعي كردة فعل حيال أحداث/ حدث ، صحيح كان للاحتلال الاسرائيلي دور في صناعته ،و قد يكون للضغوط النفسية Personal Stressors ، ولجائحة كوفيد ، وللظروف العامة ( اعتقالات ، اغلاقات ، اغتيالات ….) التي تسببّت في المزيد من الضغوطات النفسية Background stressors دورها ايضا، الا أن نمط الصدمة المتناولة هنا ، هي ، وبنسبة عالية ، وليدة سلوك ذاتي أقدم عليه البعض ، بقصد أو غير قصد ودون وعي وادراك مسبق للنتائج الوخيمة المترتبة عليها .
أتحدث هنا ،عن الصدمة الناجمة عن المبالغة والتهويل في نشر وتداول الاشاعات وألاخبار غير المؤكدة بخصوص العملية التي قام بها ستة أسرى لانتزاع حريتهم . هناك حتما ، ستكون انعكاسات وخيمة لمثل هذا النمط من الصدمة ، تعتمد بالاساس على الفترة الزمنية التي يتعرض لها الانسان الفلسطيني ، أما بخصوص نوعية هذه الصدمة ، هل هي قصيرة المدى أم طويلة المدى ، سيكولوجيا و واقعيا، يشكل دوام وجود أسرى في المعتقلات الاسرائيلية بمثابة عوامل تذكير ( Reminders).مما قد يخفّف من حدتها ، كونها وليدة الذات وليست بسب ايذاء سببه طرف خارجي وان كان الاحتلال الاسرائيلي هو المسؤول الاول والاخير عن كل ماّسي شعبنا ، دون الانتقاص من المسؤولية الفردية أو الجماعية لنا للتخلص من براثن هذا الاحتلال.
جدير الاشارة هنا ،أيضا، الى أن من أكثر الفئات المعرضة لآثار هذه الصدمة، هم ممن عاشوا تجربة الاعتقال وقسوته من الاسرى المحررين .
أجتهد هنا لتوقع بعض الانعكاسات السلبية لهذه الصدمة :
• ألبدء بالتشكيك ، ان لم يكن فقدان الثقة بالقدرات الذاتية والجماعية مع غلبة الاعتقاد بتفوق قدرات الطرف الاخر
• تأثير سلبي على قدرة الفرد بالشعور بالسعادة والقدرة على الانحراط بالعمل المنتج (في أول يوم تم القاء القبض على 4 من هؤلاء الاسرى ، سمعت البعض يقول ” والله ما لي نفس أخرج من البيت ” ” تغيب عن مكان العمل” ” لم أعد أشعر بلذة ألاكل هذا اليوم ” ،” قضيت الليل بكاء وترقب والانتقال بين مواقع التواصل الاجتماعي “.
• اهتزاز في العلاقات الاجتماعية، سواء داخل الاسرة أو وسط أفراد المجتمع .
• محاولة الامتناع عن حضور /المشاركة أو الذهاب الى مناسبات اجتماعية لها طابع الترفيه (Recreation events )
مقترحات للخروج / التخفيف من حدة اّثار هذا الحدث ألصادم (Traumatic event)
بداية مهم جدا ذكر أنه اذا ما لم تُبذل جهود للتقليل من اّثار هذه الصدمة ،فقد تتطور الحالة الى ما يعرف بـ اضطرابات ما بعد الصدمة (Post Traumatic stress disorder- PTSD )، وقد تزداد الامور سوءا اذا ما وجدت اضطرابا أخرى مثل الاكتئاب والقلق والرهاب الدائم
لن يتمكن الجميع من التخلص من حدة ألاثار السلبية بنفس المقدار والمستوى والسرعة ، اذ ان هناك عوامل لها دورها الهام في ذلك ، مثل :
• مدى التجارب السابقة المشابهة التي عاشها الفرد في حياته وقدرته على تطوير مهارات ألمرونة الذاتية(self- resilience )
• منسوب الايمان لديه بالقضاء والقدر ، ومدى تعلقه بروحانيات وقيم أخلاقية من شأنها اعادة رفع تقدير الذات لدى الشخص( self- steam) والعمل على مواجهة التحديات اليومية دون محاولة الخنوع ( submission) أو التجنب ( Avoidance) أو ألانعزال ( disassociation).
• قدرات الفرد على توظيف كل ما يمكن من أجل ايجاد بيئة نفسية اّمنة له وللمحيطين (Safe place) من خلال تقوية وتعزيز العلاقات الاجتماعية ، الانهماك في عمل يفضي الى نتائج ايجابية ملموسة ، الابتعاد قدر الامكان عن مصادر الاخبار الكاذبة ( Fake news) .
• الميل الى استخدام/ الاصغاء الى روح الدعابة والنكت ، والاتعاظ والتعلم من تجارب سابقة سواء له/لها أو للغير
الحاجة دوما الى خفض سقف التوقعات
معروف أن ارثنا الثقافي والاجتماعي غني بمقولات بتنا نكررها عند كل خيبة أمل تحدث لنا ، أسرد بعضا منها :
• لوم نفسك ولا تلوم غيرك اذا خذلك
• عش بدون توقعات من الاخرين ، بتعيش ملك بدون خذلان
اضافة الى نتيجة “الخذلان” التي تكررت في هاتين المقولتين ، ايضا هناك معاناة اخرى تنجم عن دوام النتظار ،ألا وهي دوام القلق جرّاء الانتظار وتراكم التوقعات والتخيلات
مما يساهم في الميل الى رفع سقف التوقعات لدى الشخص :
• ألامل الزائد والاحلام الجامحة في التخلص من وضع مزرٍ يعيشه، سواء كان نفسيا ، اجتماعيا ، اقتصادي أو سياسيا كحالتنا .
• البحث عن خلاص من هذه الحالة/ الحالات بعد أن افترض بأنه وجد المخلّص له / المنقذ له ، دون أي ثمن شخصي قد يدفعه أو أي مساهمة ذاتية ، وهذا ما يفسّر صمتنا المذهل حيال بقاء هؤلاء الاسرى لعقود خلت في المعتقلات الاسرائيلية .
• منذ القدم ، لدينا أرتباط تاريخي مع شخصية الفدائي المخلص ،وما نظرتنا الى السيد المسيح كمخلص للبشرية في عهده ، الا خير دليل . أضف الى ذلك ، انه منذ اطلاقة الثورة الفلسطينية ، ارتبط الخلاص بشخصية الفدائي الثائر على الظلم والاحتلال.
كيف تبنى مثل هذه التوقعات :
لنا أن نفترض وكما أشرنا أعلاه، بأن الظروف المزرية هي المولّد الاساس لبلورة هذه التوقعات عالية السقف، اضافة الى أن البعض فينا جيد التهرب من مصارحة الذات حيال الدور المناط به للقيام بوجبه الوطني ، مع دوام ايجاد التبريرات والتي في أغلبها تكون واهية.
يعود الشخص من عمله الى بيته ، بعد عناء طويل : حواجز احتلالية ، أزمات مرور ، شظف عيش ، ضفوطات اقتصادية ، هدم بيوت مع دوام التفكير في أعباء القروض البنكية….الخ، وحيث أن مثل هذه الاوضاع توجد أثارا سلبية عميقة في ذات الشخص ، كل هذا يدفعه الى اتخاذ قرارات بعيدة عن سمات الاتزان، ومنها بناء توقعات عالية السقف وتخيلات تكون مقبولة لديه ، طالما لا تكلفه بأي عبء ذاتي .

أمنية شخصية
لست من أصحاب نظرية المؤامرة ولست من المتشائمين في هذه الحياة ، لقناعتي التامة بالرعاية والعناية الالهية ” “ان مع العسر يسرا، ان مع العسر يسرا ” ” والله رحيم بعباده “” أستجيب لدعوة الداعي اذا دعاني ” ،دوما تجدني أنظر الى النصف الممتلىء من الكأس، لكنني لست من دعاة التطبيل والتزمير، مستذكرا ” لمن تقرأ يا داوود المزامير”.

[email protected]

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى