اطروحه هامة.. حركة حماس بين الرغبة في قيادة الشعب الفلسطيني والقدرة عليها

كشف الاستطلاع الذي أجراه “المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية” مؤخرا في الضفة الغربية وقطاع غزة، ان حركة حماس قد انتقلت في فترة لم تتجاوز الأسابيع الأربعة، بين نهاية نيسان (إبريل) 2021 ونهاية آيار (مايو)، من موقعها السابق كقائدة للمقاومة وممثلة لمصالح قطاع غزة إلى قائدة للمقاومة وممثلة لمصالح كافة الشعب الفلسطيني المتعلقة بالعلاقة بالاحتلال. لم تفعل ذلك من خلال الانتخابات ولا من خلال السيطرة على منظمة التحرير الفلسطينية، او السلطة الفلسطينية، بل فعلته من خلال استغلال الفراغ القيادي للسلطة الفلسطينية ومن خلال استحواذ واسع النطاق على عقول وقلوب الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، أي الواقعين تحت الاحتلال. في لحظة نادرة في تاريخ الشعب الفلسطيني

فقد قالت الأغلبية من الواقعين منهم تحت الاحتلال أن حركة حماس هي الأجدر بتمثيل وقيادة الشعب الفلسطيني. ولعله من المؤكد أن الجمهور يقصد بذلك أخذ المبادرة في الرد والتعامل مع التهديدات الإسرائيلية لمصالح الشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال. كما أن من المؤكد ان الجمهور الفلسطيني قد فعل ذلك لاعتقاده بأن حماس تمتلك شيئاً لا تمتلكه السلطة الفلسطينية أو فصائل منظمة التحرير الفلسطينية من عناصر القوة ومن الإرادة السياسية ومن الاستعداد للقيادة والمبادرة.

ووفقا للاستطلاع فإن هذا التطور، إن استمر وتعزز، قد يشكل تحولا لمنظومة جديدة من العلاقات الداخلية والعلاقات الفلسطينية-الإسرائيلية. لكن السؤال الكبير هو: هل تستطيع حركة حماس القيام بذلك؟ حتى بهذا المعنى الضيق للتمثيل والقيادة؟ وهل ترغب حقاً بذلك؟.

وحسب الاستطلاع، فان حماس لا تمتلك المصادر المالية اللازمة، ولا تمتلك الوجود الفعال لها ولقيادتها على الأرض في الضفة الغربية أو القدس الشرقية، وليس لها مصادر دعم سياسي واقتصادي كاف من الإقليم ولا من المجتمع الدولي، وليس لها اعتراف أو تواجد دبلوماسي في أي من عواصم العالم الرئيسية. على العكس يراها المجتمع الدولي الغربي كمنظمة إرهابية، وتحاربها إسرائيل بشراسة مالياً وسياسياً وعسكرياً، وتسعى السلطة الفلسطينية إلى معاقبتها بمنع نشاطها واحتوائها. فهل تستطيع حماس رغم كل ذلك أخذ المسؤولية الأكبر في الرد على السياسات الإسرائيلية وبالتالي تحديد طبيعة العلاقة اليومية الفلسطينية-الإسرائيلية وإعادة الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي لأصوله الوجودية، صراع على الوجود وليس على الحدود أو غيرها من قضايا التسوية الدائمة؟

وحسب خليل الشقاقي مدير المركز تهدف هذه الورقة لتحليل هذا التطور بالغ الأهمية في السياسة الفلسطينية بهدف فهم مصادره وامكانيات استمراريته، وتنتهي باستعراض لخيارات حركة حماس وآخرين في التعامل معه.

خلفيـــــــــــــــة:

شكل التهديد المتمثل في الإعلان عن خطة ترامب للسلام، المعروفة بصفقة القرن، وما تبعها من خطوات حكومية إسرائيلية في طريق ضم أجزاء واسعة من الضفة الغربية، دافعا للرئيس محمود عباس وحركة فتح في النصف الثاني من 2020 للبحث عن شراكة مع حركة حماس في بلورة استراتيجية مواجهة موحدة ضد إسرائيل في الضفة الغربية. بعبارة أخرى، جاء لقاء المصالح بين فتح وحماس على خلفية ضعف حركة فتح وقلة حيلتها وعجزها عن المبادرة بمفردها في مواجهة السياسة الأمريكية والإسرائيلية التوسعية. ربما بسبب ذلك نجحت هذه المحاولة التي قادها جبريل الرجوب، ممثلاً عن الرئيس وحركة فتح، وصالح العاروري نائب رئيس حركة حماس في التوصل لتفاهمات تصالحية بعقد انتخابات تشريعية ورئاسية وأخرى للمجلس الوطني لمنظمة التحرير الفلسطينية وذلك بشكل تتابعي. بناءً على ذلك، قام الرئيس عباس بإصدار مرسوم في كانون ثاني/يناير 2021، لإجراء انتخابات تشريعية في 22 آيار (مايو) 2021 يتبعها في نهاية تموز (يوليو) اجراء انتخابات رئاسية ثم بعد ذلك انتخابات للمجلس الوطني لمنظمة التحرير.

شكِّل ذلك المرسوم وما تبعه من خطوات عملية لإجراء الانتخابات فرصة نادرة لإعادة توحيد الضفة والقطاع، وتخفيف الحصار والإغلاق والقيود المالية والإدارية المفروضة على القطاع من قبل إسرائيل ومصر والسلطة الفلسطينية، وإعادة صياغة النظام السياسي الفلسطيني، بإعطائه المشروعية، وبإصلاح بنيته الأساسية الدستورية والقانونية، وإعادة المساءلة والمحاسبة بشكل يسمح بإعادة الفصل بين السلطات وضمان حكم القانون واستقلال القضاء وإلغاء القيود المفروضة على حرية التعبير وعلى عمل المجتمع المدني، وكلها كانت قد شهدت تدهوراً كبيراً نحو السلطوية وحكم الفرد خلال السنوات القليلة الماضية، وخاصة منذ عام 2015.كما شكلت تلك الخطوة إيذاناً بنجاح المصالحة وشكلت نجاحاً كبيراً لاستراتيجية حركة حماس في العودة للاندماج في النظام السياسي الفلسطيني بما في ذلك اكتساب موطئ قدم سياسي وتنظيمي في الضفة الغربية.

تمهيد الطريق للحرب الرابعة بين حماس وإسرائيل:

في المقابل شكل قرار الرئيس عباس وحركة فتح في نهاية نيسان (إبريل) بتأجيل الانتخابات إلى أجل غير مسمى، بحجة رفض إسرائيل السماح بإجرائها في القدس الشرقية، ضربة قاضية لجهود المصالحة وإعادة توحيد الضفة والقطاع وإصلاح النظام السياسي الفلسطيني. ليس هناك شك أن الرئيس عباس قد ألغى الانتخابات لأنه قد خشي من نتائجها، خاصة من خسارته المؤكدة للانتخابات الرئاسية، وعدم قدرة فتح على تشكيل حكومة جديدة بعد الانتخابات إلا بالتحالف مع قائمتي محمد دحلان (قائمة المستقبل) وناصر القدوة ومروان البرغوثي (قائمة الحرية)، وهو تحالف من المؤكد أن الرئيس عباس لم يرغب في دفع ثمنه.

لكن لجوء الرئيس عباس لاستخدام حجة الرفض الإسرائيلي لإجراء الانتخابات في القدس الشرقية لتأجيل أو إلغاء الانتخابات، في ظل وضع كان يتصف على الأرض بمواجهات شعبية سلمية مع جيش الاحتلال وشرطته ومستوطنيه المتطرفين، عبر عن سوء تقدير وعدم فهم لمغزى ذلك على مكانة ودور السلطة الفلسطينية القيادي لأنه ببساطة شكّل في نظر الجمهور الفلسطيني تفريطاً، بل تخلياً، عن قيادة المواجهة مع إسرائيل في القدس الشرقية وتركها فريسة سهلة للاحتلال والمتطرفين الإسرائيليين. عارضت الغالبية العظمى من الجمهور قرار الرئيس بتأجيل الانتخابات واعتقدت نسبة بلغت الثلثين أن القرار قد جاء خشية من النتائج. كذلك، طالبت تلك الغالبية بإجراء الانتخابات دون تردد وبدون انتظار الموافقة الإسرائيلية. اعتقد الجمهور أن على السلطة الفلسطينية فرض أمر واقع على اسرائيل في القدس الشرقية وقيادة التحركات المؤكدة للسيادة الفلسطينية في المدينة. لقد عكست هذه الفروقات بين مواقف الجمهور وقيادته فجوة كبيرة بين الطرفين أكدت بوضوح على أن الرئيس يعيش في عزلة واضحة عن محيطه وقاعدته الشعبية التي انتخبته في عام 2005. أحدث قرار الرئيس عباس بتأجيل أو إلغاء الانتخابات شرخا عميقا قد لا يكون قابلاً للجسر في الثقة بين فتح وحماس، ودفع حماس للبحث عن وسائل لمواجهة السلطة وقيادتها وإرغامها على العودة للتفاهمات السابقة. لكن حركة حماس فشلت في بلورة تحالف سياسي (من القوى والقوائم الانتخابية من خارج فتح الرسمية) يكون قادراً على إجبار الرئيس وحركة فتح على التراجع.

لذلك وجدت حماس ضالتها في مواجهات القدس. لقد كان الرئيس عباس هو الذي تخلى عن معركة القدس الانتخابية، فلماذا لا تحولها حماس إلى معركة عضلات سياسية تكسر فيها إرادة إسرائيل وتوقف تغولها على المدينة الفلسطينية وأماكنها المقدسة. لتتمكن من القيام بذلك، كان على حماس المغامرة بدخول حرب عسكرية رابعة مع إسرائيل يدفع ثمنها قطاع غزة. لم يسبق أن قامت حركة حماس بمغامرة مثل هذه، حتى عندما قامت إسرائيل بوضع حواجز البوابات الالكترونية أمام المصلين الداخلين للصلاة في المسجد الأقصى. لذلك لم تتوقع السلطة الفلسطينية ولا إسرائيل أن تقوم حماس بذلك الآن وخاصة عندما تكون بؤرة الصراع تتمحور حول عدة عائلات مهددة بالطرد من منازلها أو التلويح بتغيير الوضع الراهن في الحرم الشريف.

شكل قرار حماس القاضي بأخذ المخاطرة بدخول حرب رابعة مع إسرائيل من أجل القدس ومواطنيها، بإطلاق عشرات الصواريخ باتجاه مدينة القدس ثم بعد ذلك غيرها من المدن الإسرائيلية، تغيرا جوهريا في سياسة الحركة. فها هي الآن لا تطالب بتخفيف القيود عن القطاع مقابل ضمان الأمن الإسرائيلي، بل هي تغامر بالقطاع ومصالحه من أجل قضية ليست من مسؤولياتها. فالسلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير والرئيس عباس هم المسؤولون عن المواجهة مع إسرائيل في شؤون الضفة والقدس الشرقية. لكن تقاعس القيادة الفلسطينية وعجزها عن اتخاذ المبادرة وحشد عناصر القوة المطلوبة لإجبار إسرائيل على احترام الوضع القائم في الحرم الشريف وحماية سكان الشيخ جراح خلق حالة من الفراغ الظاهر وفرصة لا تعوض بالنسبة لحماس لملء هذا الفراغ. إن مما لا شك فيه أن قرار حماس بالدخول في صراع عسكري مع إسرائيل قد عبر عن عدة تطورات كان أهمها على الإطلاق الحاجة لإفهام السلطة الفلسطينية أن حركة حماس قادرة على احراجها ونزع الشرعية عنها وإظهارها عاجزة أمام الاحتلال، بل وحتى إظهارها كمتواطئ مع الاحتلال في منع الانتخابات. وفي كل ذلك نجحت الحركة نجاحاً كبيراً.

مكاسب حماس من حربها الرابعة مع إسرائيل:

رغم ان هذه كانت الحرب الرابعة لحماس مع اسرائيل فهي الأولى التي خاضتها لأسباب لا علاقة مباشرة لها بقطاع غزة بل دفاعا عن القدس والاقصى. ورغم ان دوافع حماس كانت متعددة، وأنها هدفت أساسا لإضعاف سلطة الرئيس عباس، فإن الجمهور الفلسطيني قبل بدون تردد ولا تحفظ كامل رواية حماس حول الدوافع والنتائج لهذه الحرب. فهي بنظر الجمهور حرب من أجل القدس وعائلات الشيخ جراح المهددة بالطرد، وهي حرب خرجت حماس منها منتصرة، ليس فقط سياساً، بل عسكرياً أيضاً. لكن الأخطر من ذلك أن مقارنة الجمهور لمقدرة المبادرة وتحمل المسؤولية لدى حماس مقابل حركة فتح بقيادة الرئيس عباس دفعه للتوصل لقناعة مذهلة: أن حماس، التي دخلت الصراع المسلح مع اسرائيل خلال الانتفاضة الأولى فقط، هي الأجدر والأقدر على قيادة الشعب الفلسطيني مقارنة بحركة فتح، صاحبة الطلقة الأولى والمؤسسة لحركة التحرر الوطني الفلسطيني المعاصر.

كان لهذا التطور تأثيرات فورية على الأرض، كما شهدنا من ردة فعل الجمهور على جريمة قتل المعارض الفلسطيني نزار بنات. خرجت الجماهير متظاهرة ومتحدية للسلطة ومطالبة برحيلها ورحيل قيادتها مما أظهر أن الجمهور لم يعد مستعداً لإغماض عينيه عن سلوك السلطة المنافي لإرادة الجمهور. وقبل ذلك شهدنا ردة الفعل المترددة، بل والخائفة، للسلطة تجاه الاتفاق الذي عقدته سراً مع إسرائيل بتنسيق مع شركة الأدوية المصنعة لاستلام فوري للمصل فايزر المضاد لكورونا مقابل حصول اسرائيل لاحقاً على اللقاح المتوقع وصوله للسلطة بعد عدة أشهر. بالرغم من أن فترة انتهاء المفعول كانت لا تزال سارية على الأقل لأسبوعين آخرين، فإن السلطة قامت بإعادة أكثر من 90 ألف جرعة من اللقاح، كان الجمهور الفلسطيني بأمس الحاجة للحصول عليها، لأنها عملت في الخفاء ولأن مصداقيتها كانت قد سقطت تماما ولم يعد أحد على استعداد لتصديقها، بل وظن معظم الناس، بدون وجه حق، أن فترة فاعلية اللقاح قد انتهت حتى قبل وصولها للسلطة. إدراكاً منها بعدم قدرتها على اقناع الناس بتصديق روايتها، أعادت السلطة اللقاح خشية أن يفقد الجمهور الثقة بعملية التطعيم برمتها. ولعل الإحساس بفقدان الشرعية والمصداقية والخوف من الانتقادات الداخلية كان الدافع الأكبر وراء حملة الاعتقالات التي قامت بها السلطة بعد انتهاء الحرب بين حماس وإسرائيل، بل وربما كان القرار المتعلق بكيفية التعامل مع المعارض نزار بنات هو أيضا نتاج لهذه العقلية الخائفة والمترددة.

هل تستطيع حماس أن تلعب الدور الذي يطالبها به الفلسطينيون؟

رغم الموقف العلني لقيادة حماس المرحب بالدور الجديد للحركة، فإن مما لا شك فيه أن حماس غير جاهزة لقيادة الشعب الفلسطيني، حتى لو كان المقصود بالقيادة أخذ المبادرة في الرد على السياسات التوسعية الإسرائيلية. والأهم من ذلك ان حركة فتح والرئيس عباس لن يسمحا لها بذلك مهما كان الثمن، أي حتى لو كان هذا الثمن هو المخاطرة بحرب أهلية في الضفة الغربية. أربعة أسباب توضح عدم جهوزية حماس، وربما عدم رغبتها في لعب الدور المطلوب منها:

إن حماس غير جاهزة لأنها أولاً، لا تمتلك الموارد اللازمة للضغط على اسرائيل باستثناء المخاطرة بالحرب الشاملة على قطاع غزة. قد لا ترتقي الإجراءات الإسرائيلية لمستوى من التحدي للشعب الفلسطيني تستحق معها تلك المخاطرة بحرب شاملة. فماذا ستفعل حماس حينها؟ ستجد أن أيديها مقيدة وعاجزة تماما، كما هي السلطة الفلسطينية. لكن هذا سيضع حماس في نفس الموقع الذي تجد فيه السلطة نفسها اليوم، أي بدون مبادرة ولا آليه للضغط إلا بحل نفسها ووقف كافة أشكال التعاون والتنسيق مع اسرائيل. صحيح أن حماس تتمتع بمصداقية أكبر بكثير لدى اسرائيل مما لدى السلطة. فمثلا، يعتقد قادة اسرائيل ان حل السلطة ووقف التعاون والتنسيق هو وصفة للانتحار بالنسبة للنخبة السياسية الحاكمة في الضفة الغربية. أما حماس فقد أثبتت بعد أربعة حروب أنها على استعداد تام للمخاطرة بحرب مدمرة لها ولقطاع غزة من أجل تحقيق أهدافها السياسية.

ثانيا: إن حماس غير جاهزة لقيادة الشعب الفلسطيني لأنها تفتقر للتحالفات الداخلية بين أطياف السياسة الفلسطينية والمجتمع المدني من خارج منافستها فتح. إن سلوك حماس الداخلي منذ انتخابها في عام 2006 لم يمكنها من جلب حليف واحد إلى صفها حتى اليوم، باستثناء الجهاد الإسلامي وقوى المقاومة المسلحة في القطاع ممن لا يتمتعون بوجود شعبي فعال. ولعل أبرز مظاهر هذا الفشل الراهن أن حركة حماس لم تتمكن من بلورة ائتلاف فاعل قادر على الاعتراض على قرار الرئيس عباس بإلغاء الانتخابات رغم وجود مصلحة مشتركة واضحة بينها وبين الغالبية العظمى من القوائم الانتخابية التي ترشحت لتلك الانتخابات. بدون بلورة ائتلافات سياسية كهذه ستجد حركة حماس أيديها مقيدة في التعامل مع إسرائيل والسلطة الفلسطينية في قطاع غزة، ولن تختلف في ذلك عن السلطة الفلسطينية وحركة فتح اللتان فشلتا فشلا ذريعا، بسبب فقدانهما شرعية الحكم والمصداقية مع الجمهور، في تعبئة الرأي العام وبناء تحالف شعبي واسع قادر على خوض مواجهة شعبية سلمية جذرية ضد الاحتلال رغم أنهما لا يملكان فعليا خياراً آخراً.

ثالثا، لو استلمت حماس دور القيادة الذي يطالبها به الجمهور فإنها ستجد نفسها أكثر استهدافاً من إسرائيل مما كان الوضع في السابق، وذلك لسببين. يتعلق السبب الأول بالتطور المتعلق بدور حماس في السياسة الفلسطينية وفي التأثير المباشر على العلاقات الفلسطينية-الإسرائيلية. فطالما بقي دور حماس مقتصرا على قطاع غزة ستكون اسرائيل اقل استهدافا لها لأن لذلك الدور فاعلية في إضعاف وشرذمة الطرف الفلسطيني. كما أن دوراً لحماس يقتصر على قطاع غزة يشكل تهديدا هامشياً لإسرائيل مقارنة بدور يحمل بذور تهديد لمصالح اسرائيل الحيوية في القدس والضفة الغربية. أما السبب الثاني فيتعلق بزيادة مجال المناورة لدى إسرائيل عندما تكون حماس، وليست السلطة الفلسطينية وفتح، هي الخصم. ستجد اسرائيل نفسها أكثر قدرة على كسب الرأي العام الغربي عندما يكون صراعها مقتصر على حركة يتهمها الغرب بالإرهاب، مما سيعطيها مجالا اوسع للمناورة وتبرير استهدافها لقطاع غزة. صحيح ان السلطة الفلسطينية كانت هي الأخرى فاشلة في كسب الرأي العام الدولي بشكل فعال، لكن ذلك يعود أساسا لعجز داخلي وفقدان للمبادرة لدى السلطة ذاتها وليس لغياب الأرضية الخصبة دولياً لردع اسرائيل واحتواء توسعها الاستيطاني.

رابعاً، إن التحول الشعبي الراهن المطالب بقيادة وتمثيل حمساوي للشعب الفلسطيني قد لا يكون قادراً على البقاء طويلا. فهو أولاً قد يكون مؤقتاً ونتاجاً لردة فعل عاطفية مردها إلى الشعور الشعبي بعجز وغياب فاضحين للسلطة عن لعب الدور المتوقع منها في حماية مصالح الشعب الفلسطيني واستعداد حماس الطارئ لدفع ثمن هائل للدفاع عن هذه المصالح الوطنية. كما أن هذا التحول قد ينقلب بسرعة ضد حماس في اللحظة التي تتغير فيه أولويات الجمهور. لقد خلقت حكومة نتنياهو الظرف الأمثل لتدخل حماس في القدس في آيار (مايو) الماضي وجاء توقيت ذلك في وقت دمر الرئيس عباس توقعات الجمهور بمستقبل سياسي داخلي أفضل (من الديمقراطية والحريات وحكم القانون) ووضع اقتصادي أكثر ازدهارا في حالة إجراء انتخابات يفوز فيها ائتلاف حكومي تقوده فتح. لقد فضل الجمهور هذا المستقبل الذي تقوده فتح عندما بدى له أن ذلك ممكن. لكن الجمهور تخلى عن هذا الحلم عندما حطمه الرئيس عباس بقرار إلغاء الانتخابات واستبدله بحلم آخر خلق ظروفه سياسات نتنياهو في القدس. إن مما لا شك فيه أن بعض العقلانية والحكمة لدى القيادتين الفلسطينية والإسرائيلية كفيلتان بإحداث تحول لدى الجمهور الفلسطيني معاكس للتحول الراهن. بعبارة أخرى، يريد الجمهور قيادة حمساوية في مواجهة إسرائيل، لكنه يريد قيادة فتحاوية، إن رغبت فتح بذلك، في المجالين الاقتصادي والسياسي الداخلي.

خيارات حماس:

هل تقنع هذه الاسباب حماس بالتراجع عن الدور الذي يريده منها الجمهور الفلسطيني في مواجهة إسرائيل، ليس فقط لمحدودية قدراتها وعظم التحديات التي تواجهها، بل أيضا لصالح البحث مرة اخرى عن حلول أخرى للخروج من صعوبات سيطرتها المنفردة على قطاع غزة؟

إن خيار التراجع يبدو معقولا في حالة اعتقاد قيادة حماس بوجود حلول توافقية مع فتح والرئيس عباس بالعودة للانتخابات والاندماج في النظام السياسي الرسمي. لن يكون من السهل على قيادة حماس، وخاصة تلك المنتخبة من قاعدتها لتكون المسؤولة عن قطاع غزة منذ عام 2017، أن تضع ثقتها مرة أخرى في الرئيس عباس. فهي تعتقد أنها قد قبلت كافة شروطه للمصالحة لكنه خدعها ونقض وعوده معها مرة تلو الأخرى. لكن حسابات قيادات حماس الأخرى قد تختلف عن حسابات قيادات قطاع غزة وقد تجد نفسها مضطرة للعودة للحوار مع الرئيس عباس وفتح للبحث عن مخرج يجنب الفلسطينيين مصير عرب آخرين بعد الربيع العربي مثل السوريين واليمنيين والليبيين.

كما يمكن لحماس التراجع بالعودة لقواعدها الأكثر أمناً في قطاع غزة إن اعتقدت بواقعية البحث عن هدنة طويلة الأمد مع إسرائيل. إن فرص النجاح في هذا الخيار تبدو أقل حظا من الخيار الأول لوجود اشتراطات إسرائيلية تتعلق بالأسرى والجثث الإسرائيلية وتسليح قطاع غزة والعمل العسكري في الضفة الغربية مقابل مطالب حماس المتعلقة بالإفراج عن أعداد كبيرة من الأسرى الفلسطينيين، وإزالة القيود عن حركة البضائع والأفراد والملاحة الدولية، وضمان الحصول على كميات وفيرة من الماء والكهرباء والوقود، والسماح باستثمارات اقتصادية كبيرة وفتح للأسواق الخارجية.

في المقابل، يمكن لحماس ان تقبل بلعب الدور القيادي المطلوب جماهيرياً لو اعتقدت نخبتها أن فرص الوصول للوفاق مع فتح والرئيس عباس منعدمة او ضعيفة، وأن امكانية الوصول لاتفاق “طويل الأمد” مع إسرائيل ليست واردة، ليس فقط بسبب الصعوبات المتعلقة بالترتيبات المقتصرة على أوضاع قطاع غزة، بل، بالدرجة الأولى، بسبب استمرار الاحتلال في الضفة الغربية بما يعنيه ذلك من حتمية الصدام عاجلا أم آجلا، بما يحمله ذلك من تهديد بانهيار مدوي لأي اتفاق طويل الأمد.

بغض النظر عن وجود بدائل أخرى، وحتى لو تراجعت المطالبة الجماهيرية بدور قيادي لحماس في إدارة الصراع مع إسرائيل، يمكن لحماس ان تلعب الدور القيادي المطلوب جماهيريا اليوم إن توفرت دوافع دينية غيبية. فمثلا، قد تصمم حماس على الاحتفاظ على مكاسبها من الحرب الأخيرة إن اعتقد معظم أعضاء نخبتها السياسية والدينية أن هذا التوقيت بالذات، رغم كل صعوباته، هو توقيت رباني، وأنه مرتبط “بوعد الآخرة” و”حتمية زوال اسرائيل”، وهذه مسألة خلافية ومثيرة للجدل داخل أطر العلماء والنشطاء الإسلاميين، خاصة في فلسطين. إن مما لا شك فيه أن التغير في خطاب حماس وبقية الإسلاميين تجاه مغزى الحرب الأخيرة مع إسرائيل مقارنة بالحروب السابقة منذ 2008 يعود جزئيا لاعتقادات غيبية حول وجود “نبوءة قرآنية” تتعلق بالعام 2022. وكانت الحركة الاسلامية الفلسطينية قد شهدت خلال السنوات الثلاثين الماضية نقاشاَ، بدأه في عام 1992 عالم ومفسر إسلامي يحظى بالتقدير بين العلماء المسلمين الناطقين بالعربية، حول ما يسمى “بالإعجاز العددي” في القرآن ومسالة التوقيت هذه. وقد لعبت المواجهة الأخيرة بين حماس واسرائيل دوراً في تعزيز مواقف المؤمنين بهذه الحتمية وبصحة التوقيت المتخيل الوارد في سورة الاسراء رغم أن هناك آراء إسلامية مغايرة بل ورافضة بشدة لهذا الاستخدام للآيات القرآنية.

غني عن القول أن أداءً أفضل من السلطة الفلسطينية وإسرائيل قد يخفف من السعي الحثيث الراهن تجاه الصدام. إن أداءً يعترف بمكانة حماس في النظام السياسي الفلسطيني، ويضع النظام السياسي الفلسطيني في الطريق نحو المساءلة وفصل السلطات وحكم القانون، ويعيد بصيص أمل بجدوى العمل الدبلوماسي والمفاوضات كفيل بخلق واقع جديد قد يمنع انزلاقا فلسطينيا-إسرائيليا نحو الدخول في منظومة جديدة من العلاقات تتميز بالعودة لصراع وجودي تقوده حركة حماس. في المقابل، فإن الاستمرار في المسار الراهن قد يوفر لحماس الأرضية الخصبة لوضع أسس جديدة للصراع الداخلي والصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، صراع يسوده غياب للثقة الداخلية وتتعزز فيه الاعتقادات الشعبية بحتمية الصراع مع إسرائيل وبالطبيعة الوجودية لهذا الصراع، إما نحن أو هم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى