الرئيس سعيَّد بين الإصلاح الديمقراطي الراديكالي أو الفوضى

شكلت الآندفاعة الجماهيرية في عيد الجمهورية يوم الأحد 25يوليو/تموز 2021، اختباراً حقيقياً لمدى قوة المعارضة الديمقراطية التونسية على اختلاف أطيافها الليبرالية والديمقراطية واليسارية ، و لشرعيتها الشعبية الحقيقية ، إذ أعادت إلى الأذهان شرعية الثورة التونسية التي أطاحت بالنظام الديكتاتوري السابق في بداية عام 2011.
فالانفجار الشعبي الكبير الذي حصل في تونس في عيد الجمهورية ، جاء كنتيجة منطقية لسياسة الخديعة والخيانة وسرقة الحقوق للشعب التونسي،التي مارستها منظومة الفساد والإرهاب الحاكمة في تونس منذ عشر سنوات، (2011 -2021) ،وعجزت عن تحقيق التقدم سواءً في الاقتصاد أم في السياسة. فالشعب التونسي الذي ثار منذ 10 سنوات على النظام السابق وأحرق مقرات حزب “التجمع ” المنحل، ثار اليوم على حركة النهضة وقام بحرق مقراتها يوم 25 يوليو/تموز 2021،وتكسير لافتاتها. فالحرية والديمقراطية في تونس لم تجلب الاستقرار السياسي ولا الرخاء الاقتصادي،وبدلاً من ذلك استمر الفساد والتضخم والبطالة، الأمر الذي دفع بالجماهير التونسية خلال السنوات القليلة الماضية إلى الخروج إلى الشوارع للتعبير عن سخطها، وكان ذلك التعبير عنيفاً في بعض الأحيان. وتعاني تونس من نسبة عالية من البطالة والفقر والشلل الاقتصادي، ما قاد الكثيرين للتساؤل عن أي مكاسب حققتها الثورة للشعب التونسي ،في وقت فاقم فيه انتشار فيروس كورونا من أزمة المنظومة الصحية ، حيث زاد عدد التونسيين الذين ماتوا بسبب كوفيد -19 لمستويات تعدّ الأعلى في شمال أفريقيا والشرق الأوسط.
وتعيش تونس منذ إقرار دستور 2014، في ظل نظام سياسي هجين وشاذ،شبه برلمان –شبه رئاسي،فُصِّلَ على مقاس حركة النهضة لكي تبقى أقصى مدى ممكن في السلطة،ونجم عنه “الصراع المحتدم” بين رئاسة الجمهورية بقيادة قيس سعيَدْ، ورئاسة الحكومة بقيادة هشام المشيشي،ورئاسة البرلمان بقيادة راشد الغنوشي،وهو الصراع الذي قاد إلى شَلِّ عمل مؤسسات الدولة التونسية،ويهدد بتلاشيها،الأمر الذي يؤكد مرة أخرى ضرورة التخلي عن هذا النظام السياسي الهجين والتوجه نحو نظام رئاسي جديد متوازن ( وليس نظام رئاسوي تسلطي)،يضمن وحدة السلطة التنفيذية ويخلص الحكومة من قبضة الأحزاب.
الإجراءات التي اتخذها الرئيس سعيد
في ضوء هذا الانفجار الشعبي الكبير، تحرك الرئيس التونسي قيس سعيَّدْ، وقام بتفعيل المادة 80 من الدستور التونسي، ما أثار قلق المعارضين الذين اعتبروا أنَّ سعيد تجاوز صلاحياته فيها، فقام الرئيس سعيَّدْ بعزل رئيس الحكومة التونسية هشام المشيشي من منصبه، وتولى هو مهام كل السلطة التنفيذية “بمساعدة” حكومة جديدة قال أنه سيعينها بنفسه، وأعلن عن تجميد عمل البرلمان مدة 30 يوما، ولجأ سعيد إلى رفع الحصانة عن كل النواب في البرلمان.وقال إنه عمل هذا “للحفاظ على أمن واستقلال البلد، وحماية عمل مؤسسات الدولة “، وقام بتسليم عملية الرد على وباء كورونا إلى الجيش، وسط الفوضى في مراكز التطعيم والمستشفيات.
وفي ما يلي سرد لأهم القرارات التي اتخذهاسعيد:
*-إعفاء هشام مشيشي، رئيس الحكومة والمكلف بإدارة شؤون وزارة الداخلية.
-*إعفاء إبراهيم البرتاجي، وزير الدفاع الوطني.
-*إعفاء حسناء بن سليمان، الوزيرة لدى رئيس الحكومة المكلفة بالوظيفة العمومية ووزيرة العدل بالنيابة.
-*تولي الكتاب العامين أو المكلفين بالشؤون الإدارية والمالية تصريف الأمور الإدارية والمالية في رئاسة الحكومة والوزارات (الدفاع، الداخلية، العدل)، إلى حين تسمية رئيس حكومة جديد.
-*تكليف خالد اليحياوي، المدير العام لوحدة الأمن الرئاسي، بالإشراف على وزارة الداخلية بعد إقالة الحكومة، وذلك بحسب ما نقلته وكالة “رويترز”.
-*تولي الرئيس رئاسة السلطة التنفيذية بمساعدة رئيس وزراء جديد يتولى تعيينه بنفسه.
-* تولي الرئيس التونسي “إصدار القوانين كما ينص على ذلك الدستور”.
-*تجميد كل اختصاصات المجلس الدستوري.
*-رفع الحصانة عن كل أعضاء المجلس النيابي.
-*إغلاق الجيش مبنى البرلمان ومنع رئيسه وعدد من النواب من دخول مقر المؤسسة التشريعية.
*- تعطيل العمل بالإدارات المركزية والمصالح الخارجية والجماعات المحلية والمؤسسات العمومية لمدة يومين حسب “رويترز”.
*- منع حركة الأفراد والمركبات اعتبارا من السابعة مساء وحتى السادسة صباحا من اليوم وحتى الجمعة 27 أغسطس/ آب باستثناء الحالات الصحية الطارئة وأصحاب العمل الليلي.
*- منع حركة الأفراد والمركبات بين المدن خارج أوقات حظر التجول باستثناء الاحتياجات الأساسية والظروف الصحية الطارئة.
*- منع تجمع أكثر من ثلاثة أفراد في الطرق والميادين العامة.
*-منع من السفر كل رؤساء الأندية الرياضية ورجال الأعمال والمسؤولين والوزراء والنواب ورؤساء البلديات ونوابهم في هذه الفترة.
جدل تونسي حول المادة 80 من الدستور
قسم الدستور التونسي لعام 2014 السلطات التنفيذية بين الرئيس والبرلمان ورئيس الوزراء، لكن الرئيس سعيَّدْ استند على المادة 80 من الدستور، التي قال إنها تمنحه سلطات استثنائية. ولم ينجح البرلمان التونسي في تجاوز أزمة المحكمة الدستورية طيلة السنوات الست الماضية، لأنَّ جميع الأحزاب والأطراف السياسية طالما أكدت حرصها على إرساء المحكمة الدستورية وأهميتها في تجنيب البلاد الأزمات والخلافات التي تعيشها، ولكن لم يبادر أي طرف بشكل فعلي ولم يتنازل من أجل التعجيل بإحداثها.فقد تحولت المحكمة الدستورية إلى وسيلة لابتزاز الخصوم وآلية من وسائل الخلاف السياسي ، لا سيما في ضوء الصراع الدائر بين أحزاب الحكم (حركة النهضة، ائتلاف الكرامة، وقلب تونس) الذين يشكلون الحام السياسي لحكومة المشيشي السابقة،وحزام رئيس الحكومة البرلماني مع رئيس الجمهورية ، بينما يُعَدّ دورالمحكمة الدستوري الحسم في الخلافات.
ونظرًا لعدم وجود المحكمة الدستورية، التي أعاق تشكيلها التجاذبات السياسية بين حزب حركة النهضة الإسلامية والرئيس الراحل الباجي قائد السبسي وحزبه، فإنَّ الرئيس قيس سعيد، يمكنه أن يقوم بتفعيل الفصل 80، دون شرط إعلام رئيس الحكومة ورئيس البرلمان بقراره هذا، ولكنَّ بشرط استشارتهما، وهو ما أكَّد ه رئيس الجمهورية حين قال : إنه تشاور مع المشيشي والغنوشي، وعقد اجتماعات طارئة قبل التحرك.
نص الفصل 80 من الدستور التونسي
“لرئيس الجمهورية في حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن أو أمن البلاد أو استقلالها، يتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة، أن يتخذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب، وإعلام رئيس المحكمة الدستورية، ويعلًن عن التدابير في بيان إلى الشعب.
ويجب أن تهدف هذه التدابير إلى تأمين عودة السير العادي لدواليب الدولة في أقرب الآجال، ويعتبر مجلس نواب الشعب في حالة انعقاد دائم طيلة هذه الفترة. وفي هذه الحالة، لا يجوز لرئيس الجمهورية حل مجلس نواب الشعب، كما لا يجوز تقديم لائحة لوم ضد الحكومة.
وبعد مضي ثلاثين يوما على سريان هذه التدابير، وفي كل وقت بعد ذلك، يعهد إلى المحكمة الدستورية بطلب من رئيس مجلس نواب الشعب أو ثلاثين من أعضائه البت في استمرار الحالة الاستثنائية من عدمه.”
المعارضون لإجراءات الرئيس سعيَّدْ:انقلاب سعيد على انقلاب النهضة
أجمع المعارضون للإجراءات التي اتخذها الرئيس قيس سعيد الأخيرة على وصفها بالانقلاب على الدستور، وبالعمل على تركيز حكم الفرد، و العودة إلى نظام الاستبداد الرئاسي.ومن بين أهم القوى السياسية التي تتبنى هذه الطرح كل حركات الإسلام السياسي في الوطن العربي، وفي طليعتها بكل تأكيد حركة النهضة الإسلامية في تونس، ومعظم الأحزاب الموصوفة في تونس بأنها أحزاب الفساد السياسي و المالي في البلاد، مثل حزب”قلب تونس” ، إضافة إلى أجهزة الإعلام المرئية و المكتوبة و المرتبطة أساسًا بدولة قطر(فضائيات، وجرائد، ومركزدراسات عزمي بشارة ).
لقد اعتبرت حركة النهضة ، والكرامة ، وقلب تونس، أنَّ ماقام به الرئيس سعيد يمثل “انقلاباً على الدستور والمؤسسات، خصوصاً ما يتعلّق منها بتجميد النشاط النيابي، واحتكار كل السلطات من دون جهة رقابيّة دستوريّة، وهو ما أجمعت عليه كل الأحزاب والمنظمات وأهل الاختصاص”،وأجمعتْ على وصف ما جرى في تونس بأنه “انقلاب كامل الأوصاف”، وأن الرئيس قيس سعيّد ، غير مكترث، وأنه قام على خرق صريح للدستور، ووضع من خلاله يده على السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، و أنًّه يعمل على إقامة “جمهورية شعبوية،شبيهة بالشعبويات التي سبق أن قام بعضها في المنطقة وخارجها”.ونوَّه الإعلام القطري برد فعل الأحزاب السياسية التونسية الناضج الذي لم يؤيد الانقلاب ،على غرارحزب العمال الشيوعي بقيادة حمة الهمامي ،الذي يعد ألد أعداء حركة “النهضة”حسب زعمه.
الأحزاب السياسية هذه ،ومن يقف وراءها من أجهزة إعلام عربية وغربية ،تعتبر أنَّ قرارات الرئيس سعيد،تقود إلى “تجميد أهم سلطة في البلد وهي البرلمان، الذي يكرّس الإرادة الشعبية”، لكنَّهم يتناسون عن قصدٍ ووعيٍ أنَّ البرلمان التونسي ، تحول إلى وكر يرتاع فيه النواب اللصوص وقطاع طرق ورجال الأعمال الفاسدين لعقد الصفقات المشبوهة مع اللوبيات ،وإقرار القوانين التي تخدم مصالح الطبقة الرأسمالية الطفيلية، وإبرام اتفاقيات الاستيراد مع الدول التي تدمرالصناعات التونسية (تر كيا) ، باستثناء النواب الوطنيين والديمقراطيين من عدة كتل برلمانية ومستقلين، و أنَّ هذه البرلمان التونسي يوجد فيه 54 نائبًا مطلوبًا للعدالة التونسية بسبب شبهة الفساد وغيرها .فأين احترام الدستور وعدد من النواب مجرمون ومهربون، ولا أحد تجرأ على رفع الحصانة عنهم،رغم العنف المباشر أمام الجميع…فهناك حوالي 80نائبًا لا يحمل في تكوينه التعليمي شهادة الباكلوريا، في بلد يُعَدٌّ المتقدم عربيًا على مستوى التعليم .
فأين احترام الدستور ،وأين دور البرلمان في الدفاع عن حقوق المواطنين، بينما الشباب التونسي يعيش في البطالة المزمنة، وقسم منه يموت غرقًا في البحرالمتوسط بسبب لجوئه إلى الهجرة غير الشرعية بحثًا عن الفردوس المفقود في شمال المتوسط.
فأين احترام الدستور وتقرير دائرة المحاسبات حول فساد الانتخابات نائم في الأدراج، والمتورط الرئيس في هذه الفضيحة هو رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخبات نبيل بفون،المشرف تزوير انتخابات 2019، إذ كشف مسؤول قضائي تونسي، الأربعاء الماضي ، أنَّه تم فتح تحقيق يشمل حزبي “حركة النهضة” و”قلب تونس” بتهمة “تلقي تمويل خارجي” أثناء الحملة الانتخابية لبرلمانيات عام 2019.فقد قال الناطق باسم القطب القضائي الاقتصادي والمالي محسن الدالي في تصريح صحافي ، إن فتح التحقيق انطلق منذ الرابع عشر من تموز/ يوليو الجاري وليس بعد الخامس والعشرين.ويشمل التحقيق حزبي “حركة النهضة” (53 نائبا من إجمالي 217 في البرلمان) و”قلب تونس” (28 نائبا) وجمعية “عيش تونسي” (ثقافية ورياضية خاصة/لها نائب واحد بالبرلمان).
فأين احترام الدستور والقضاء في معظمه مخترق من قبل حركة النهضة الإسلامية،وملفات الإغتيالات السياسية للشهيدين شكري بلعيد،ومحمد البراهمي ، وملفات الجرائم الإرهابية الأخرى في داخل تونس، وفي خارجها، يسيطر عليها القاضي البشير العكرمي المَحْمِي من حركة النهضة، وتسخر لاقياداتها المتنفذة من الغنوشي إلى البحيري من الجميع: اذهبوا الى القضاء…
فأين احترام الدستور ،حين تحالفت حركة النهضة مع المجموعات الإرهابية ،وعبدت لها الطريق لكي يكون لها موقع قدم على الأرض التونسية، واستخدمتها في نطاق حربها على المعارضة اليسارية و الليبرالية و القومية التونسية، فضلاً عن تسهيل تسفير حوالي 8000مقاتل تونسي لخوض الحرب الإرهابية على سورية،بدعم مالي قطري، ولوجستي تركي .
فالتدخل السياسي في عمل القضاء التونسي من جانب حركة النهضة الإسلامية ،موجود دائماً،لمنع وصول القضاء إلى كشف الحقيقة عن جرائم الاغتيالات السياسية،وكذلك عدم كشف ملفات الفساد ،ويحصل بشكل مسبق واستباقي، حتى التشكيلات القضائية صدرت عن مجلس القضاء الأعلى المُسيّس بدوره، والمعيّن من الحكومة السابقة.من هنا فإنّ كل ملف فساد يفتح، ينظر حكماً إلى القاضي الذي يثيره وتبعيته السياسية، فينقلب إلى بازار سياسي لمخترقه من قبل حركة النهضة الإسلامية.فالقضاء في تونس مُسيَّسٌ، وكلّ المراكز الحسّاسة ضمنه، تُعيَّن بموجب مرسوم صادر عن الحكومة.
فأين احترام الدستور في ظل غياب استقلالية القضاء، وهو مطلب أساسي للثورة التونسية ، ولأي برنامج إصلاحي حكومي، حيث إن القضاء يمكن أن يكون مفتاحاً لملاحقة المتظاهرين والناشطين وادعاءات النيابات الفارغة، وأن يكون وسيلة قمع بيد السلطة السياسية، ويمكن أن يكون في المقابل وسيلة محاسبة بيد الشعب التونسي للإرهابيين و الفاسدين ،واللصوص السياسيين من وزراء ونواب ورجال أمن ورجال جمارق،ورؤساء الإدارات ، الذين يساهمون في تسهيل الفساد.
الذين يتحدثون عن الدستورمن الأحزاب التونسية الحاكمة ،و النخب الليبرالية المرتبطة بالغرب و الدول الإقليمية الخليجية ، لم يكترثوا للشعب التونسي الذي كان يموت جوعًا وفقرًا وقهرًا طيلة العشر سنوات الماضية، لأنهم أساسًا لا يعرفون معنى الفقر،ومعنى القهر،ومعنى اليأس!..
فأين احترام الدستور في خطاب حركة النهضة عن ثورة الكرامة والحرية،وهي التي حافظت على نفس منوال التنمية الاقتصادي القديم التابع للغرب ،إذ أثبت إفلاسه في تونس بشهادة المؤسسات الدولية المانحة، وقد ثبت أن النهضة لا تمتلك مشروعاً اقتصادياً واجتماعياً، وأنها تعيد إنتاج منظومة التبعية للغرب ، وتنتج قيادات فاسدة، وعائلات سياسية فاسدة، ومنظومة سياسية سائدة بالمال الفاسد، لن تسمح بدورها لغيرها بالتناوب على الحكم، فهو حكر عليها نظرا لشبقها الفظيع للسلطة، وفي كل تحالفاتها السابقة ، أبقت على سيطرة الطبقة الرأسمالية الطفيلية و الممتلكة لنظام الحكم في تونس ، و المستولية عليه من وراء الستارالمهيمنة ،وما يستتبع ذلك من منطق ولادة اللوبيات و المافيات الفاسدة، وفرق الإرهاب المنظم، وكل ذلك من أجل الدفاع المستميت عن الاقتصاد الليبرالي ، وعن مصالح “ال45عائلة تونسية” التي تتشكل منها الطبقة الرأسمالية التونسية المافياوية.
إذا وافقت حركة النهضة أن تكون جزءاً من المنظومة الرأسمالية الطفيلية التونسية،وأن تكون في خدمة أصحاب رؤوس الأمول ، لا في خدمة مصالح الشعب التونسي وثورته، فوجدت النهضة في امبراطورية النظام الرأسمالي الأمريكي أكبر حماية لهم ولأموال المنظومة السياسية الحاكمة ، لذلك فإنهم يخزنون ويرهنون ويكدسون أموالهم تحت إمرة صندوق النقد الدولي، وخزنة البنك الدولي، أو يتقترضون منهما مرغمين بفوائد عالية جدًّا وتعجيزية، وفي الوقت عينه أصحوا تحت رحمتهما خوفًا منهما أن يبطئأ بمدخراتهم، هؤلاء الرأسماليون المتحكمون في أموال الأغنياء لا يمكن أن يسمحوا لأحد أن يقاسمهم غنائمهم إى بالقدر اليسير. لقد أبقت حركة النهضة على النموذج الاقتصادي والاجتماعي السياسي القديم السائد، بينما كانت انتظارات الثورة التونسية تتمثل في انتهاج خيار نموذج اقتصادي واجتماعي وسياسي مختلف عما النموذج السابق الذي أثبت إفلاسه حين وصل إلى طريق مسدود في سنة 2010، بل على النقيض من ذلك تحالفت النهضة مع العائلات التونسية الاقتصادية المافياوية (45 عائلة) ،المحتكرة للاقتصاد التونسي،والعميلة للاتحاد الأوروبي ،وأمريكا و إسرائيل ،ومع لوبيات ومافيات الفساد في الداخل التونسي ،ومع الأجهزة الأمنية والقضائية التابعة للدولة العميقة التي أنشأها النظام الديكتاتوري السابق، كما تحالفت أيضا مع حزب “نداء تونس”، فيما يسمى بحكم التوافق ،وتقاسمت معه كعكعة الدولة الغنائمة التونسية الفاسدة، إضافة إلى سرقتها لكل المساعدات الدولية الغربية منها و الخليجية، والتي تقدر بعشرات المليارات من الدولارات،في حين أنَّ حكمها مع الإئتلافات التي شكلتها قاد إلى استمرار حالة الاختناق المالي على مدار 10 سنوات أو يزيد، (ديسمبر/ كانون الأول 2010 – يوليو/ تموز 2021)، حيث عانت تونس من أزمات مالية حادة ألجأتها إلى المؤسسات المالية الدولية، والحصول على العديد من القروض الخارجية، التي أرهقت الموازنة العامة للدولة، بسبب أعباء هذه الديون.
لهذه الأسباب كلها،وجد الرئيس قيس سعيّد تأييداً شعبياً، واعتبر قطاع كبير من الشعب التونسي، ومن منظمات المجتمع المدني ، ولهم الحق في ذلك، أنّ ما حدث في عيد الجمهورية هو استجابة لنداءاتهم بضرورة الإصلاح، ورأوا في انقلاب قيس سعيد عملاً ثورياً! وشعبياً! ودستورياً! (الفصل 80)، تماماً كما حدث في مصرعام 2013).
هل يمتلك الرئيس سعيَّدْ خارطة طريق لإنقاذ تونس
في البداية علينا أن نعترف بأن الرئيس قيس سعيَّدْ كان أستاذاً جامعياً متمرداً لا سياسياً هرماً من النظام القديم مثل الباجي قايد السبسي الذي ابتليت به التجربة التونسية مع الديمقراطية.
فالرئيس سعيَّدْ الذي جاء من خارج الوسط السياسي، ولا يوجد من ورائه حزب، لا ينتمي إلى أي مدرسة فكرية وسياسية معروفة في القرن العشرين،وإن كانت النهضة قد ساندته في الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية باعتباره الخيار الأقل سوءاً من بين جميع المرشحين الرئاسيين، ولكونه من النمط الذي ينمي أفكاراً خاصة به.
وذهب الأستاذ الجامعي في القانون الدستوري قيس سعيد ،والمترشح إلى الانتخابات الرئاسية،إلى القول أن تونس تعيش في ظل نظامين اثنين أحدهما ظاهر وهو الذي يَنُصُّ عليه الدستور وآخر خَفِيٌ وهو الذي بيده كل مقاليد السلطة.. فالظاهر لا يتحرك إلا في الحدود التي يرسمها له النظام الخفي، فَإِنْ تجاوز بعض الحدود أو بعض الخطوط دَفَعَ الثمن، واستشهد محدثنا بما حصل لرئيس الحكومة السابق الحبيب الصيد.
إن قيس سعيد لم تلوثه سياسة مرحلة ما بعد الثورة، ولا اتهامات الفساد، وبدا كرهان آمن، وحل محل الباجي قايد السبسي الذي توفي منتصف عام 2019.وفرض أستاذ القانون االدستوري نفسه على الانتخابات التي شابتها عملية اعتقال وسجن رجل الإعلام المعروف نبيل القروي بتهم الفساد.
ولم يخف سعيد، الذي درس القانون بجامعة تونس، مواقفه المحافظة، فقد عبر عن صراحة في معارضته لحقوق المثليين، وقدم نفسه كمرشح محارب للفساد، وداعية للعدالة الاجتماعية، في بلد عبر فيه الكثيرون عن خيبة أملهم بالسياسة الديمقراطية التي أعقبت ديكتاتورية زين العابدين بن علي، وليس أقلها تلك التي مثلتها حركة النهضة.وفي الوقت الذي انتخب فيه سعيد لمنصب يمنحه سلطات محدودة، إلا أنه عبر عن رغبة بدستور يمنحه سلطات رئاسية أوسع، وهو ما قاد إلى سلسلة من المواجهات مع رئيس الوزراء هشام المشيشي ورئيس البرلمان راشد الغنوشي، زعيم حركة النهضة المخضرم، والذي عاد إلى تونس من المنفى في عام 2011 بعد رحيل ابن علي.
في أولى القرارات المهمة بعد حصول الانقلاب قال الرئيس التونسي قيس سعيد مساء الأربعاء28يوليو 2021 إن عدد من نهبوا أموال تونس 460، بناء على تقرير لجنة وطنية لتقصي الحقائق، مضيفا أنه “عرض سابقا مصالحة قانونية”.
وأوضح سعيد خلال كلمة في أثناء استقبال رئيس اتحاد الصناعة والتجارة، أنه “سيصدر لاحقا نصا قانونيا، ينظم إجراءات مصالحة قانونية تسمح باسترجاع الأموال المنهوبة”.وتابع: “رؤيتي تتضمن إلزام من تورطوا في نهب الأموال العامة، بتمويل مشاريع في المناطق الفقيرة”، مؤكدا أنه “لا يريد التنكيل بأي كان، بل إعادة الأموال المنهوبة إلى الشعب التونسي”، على حد تعبيره.
وشدد سعيد على ضرورة إنهاء التهرب من دفع الضرائب، “والعودة فورا لعملية استخراج الفوسفات اليوم قبل الغد”.
هل يشكل اقتراح قيس سعيَّدْ فرصة للمصالحة مع الفاسدين؟
يُعَدُّ ملف محاربة الفساد ملفاً مفصلياً في نجاح أي حكومة ما بعد الثورة.فالمراقب للوضع السياسي التونسي يلمس بوضوح أنَّ الحكومات المتعاقبة سواء في عهد الترويكا السابقة بقيادة حركة النهضة(2011-2014)،أم في عهد رئيس الحكومة السابق يوسف الشاهد (2016-2019)،أو في عهد حكومة المشيشي(2020-2021)لم تبلورخطة حقيقية لمقاومة الفساد،وإقرارالحوكمة الرشيدة ،بل إنَّ جميعها همشتْ ملف الفساد.فالأحزاب المكونة للمنظومة السياسية الحاكمة ،لم تطرحْ في برامجها السياسية  مسألة محاربة الفساد كمسألة محورية،وإن كانت تدرج هذا الملف ضمن شعاراتها الانتخابية.
و الحال هذه أصبحت الحكومات المتعاقبة الثماني منذ تشكلها في سنة 2011 ولغاية 2020 فاقدة لكل إرادة سياسية لمحاربة الفساد،لأنَّ الأحزاب الموجودة في صلبها تتجَّنَبُ الإحراجَ في طرح هذا الملف نظرًا لعلاقتها بالمال السياسي الفاسد،وأيضا لعلاقتها برجال الأعمال المتورطين في قضايا فساد.وكان ملف رجال الأعمال النقطة السوداء في سجل الحكومات المتعاقبة ما بعد الثورة .
يذكر بهذا الصدد قائمة رجال الأعمال وتضمُّ 126 شخصًاتحصلوا على حوالي 7000 ملايين دينار(أي حوالي 6مليار دولار)من البنوك العمومية التونسية ،ولم تسترجع إلى اليوم.وكان الرئيس قيس سعيَّد تقدم تقدم في سنة 2012بمقترح إلى عدد من المنظمات من بينها برنامج الأمم المتحدة للإنماء حول القيام بمصالحة مع رجال الأعمال المورطين في قضايا فساد في العهد السابق يهدف إلى تمويل مشاريع تنموية في عدد من الجهات،واقترح كذلك أن تقوم الدوائر المتعلقة بالفساد الإقتصادي والإداري في الهيئة العليا للعدالة الإنتقالية بمراقبة الإستثمار في هذه المناطق وعلى أساس الترتيب التفاضلي للمعتمديات وعددها 264 معتمدية من الأكثر إلى الأقل فقرا وترتيب ثاني يخص رجال الأعمال سيقع توزيع المشاريع التنموية على الجهات من طرف رجال الأعمال . وفي نفس السياق أفاد قيس سعيد أن مصدر حكومي أكد له أن المبلغ المطلوب من 460 رجل أعمال ممنوع من السفر يتراوح بين 10 و13.5 مليار دينار (حوالي 10مليار دولار)أي ما يناهزأقل من نصف ميزانية تونس .
إنَّ التركيز على موضوع المصالحة مع رجال الأعمال الفاسدين في هذا الظرف السياسي والتاريخي الذي تمر فيه تونس، ليس بريئاً لأسباب داخلية وأخرى خارجية. فحزب “نداء تونس” وزعيمه التاريخي السيد الباجي قائد السبسي رئيس الجمهورية التونسية السابق وقع في الخطأ التاريخي عينه الذي وقعت فيه حركة “النهضة” الإسلامية عندما استلمت السلطة عقب انتخابات 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011، وهو عدم إدراك أنَّ الشعب التونسي الذي صنع ثورته،وأسقط النظام الديكتاتوري السابق، يحتاج إلى بناء دولة ديمقراطية تعددية، وخلق مجتمع جديد،وانتهاج خيار اقتصادي واجتماعي جديد يجسد القطيعة مع الخيارات الاقتصادية والاجتماعية المنحرفة في عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي التي أدّت في الواقع إلى إثراء أقلية من العائلات المرتبطة بالسلطة،وكبار رجال الأعمال على حساب إفقار معظم طبقات الشعب التونسي، بما فيها الطبقة المتوسطة التي تعد أكبر طبقة اجتماعية موجودة في تونس.
لا يختلف طرح الرئيس قيس سعيَّدْ القديم-الجديد فيما يتعلق باسترداد الأموال المنهوبة من قبل رجال الأعمال الفاسدين خلال حكم النظام السابق عن قانون “المصالحة الاقتصادي” الذي طرحه الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي ،بوصفه رديفاً طبيعياً لقانون المصالحة السياسية الذي أشرف على رعايته منذ 2013 الرباعي الفائز بجائزة نوبل للسلام،والذي سمح لفئة رجال الأعمال في العهد السابق المتهمين بالفساد،ونهب المال العام ،والإثراء الفاحش في العهد الديكتاتوري السابق،والذين في معظمهم ينتمون إلى “حزب التجمع ” المنحل،أن يخوضوا الانتخابات التشريعية في سنة 2014،فركبوا موجة “حزب النداء” الذي أصبح حاكمًا في البلاد في سنة 2015 في إطار سياسة “التوافق” مع حركة النهضة الإسلامية.
وكانت رؤية الباجي قائد السبسي آنذاك للمصالحة الوطنية على طي الملفات الكبرى التي لا تزال موضوع خلاف في المجتمع التونسي، بين فئة رجال الأعمال في العهد السابق المتهمين بالفساد والإثراء الفاحش في العهد الديكتاتوري السابق، بما أن “حزب نداء تونس “كان يمثل استعادة لجزء أساسيٍّ من “حزب التجمع” المنحل بنحو 50 نائبًا،إذ ضمَّ الحزب في صفوفه أيضاً رجال أعمال متورطون في قضايا فساد وسياسيون وأمنيون متهمون بالضلوع في قضايا تتعلق بانتهاك حقوق الإنسان زمن حكم بن علي، وبين طبقة سياسية جديدة استولت على السلطة بعد انتخابات23 أكتوبر/تشرين الأول 2011، وأصبحت تلقب بطبقة “الأثرياء الجدد في زمن الثورة” التي لم تكن لها نظرية للاقتصاد، بل هي انساقت في نهج الليبرالية الجديدة التي سقطت في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي غيرها من الدول الرأسمالية الغربية عقب وقوع الأزمة المالية والاقتصادية العالمية عام 2008،ولم تقمْ بمراجعة نقدية للأنموذج الرأسمالي الطفيلي الذي كان سائدًا في تونس،حيث وصل إلى مأزقه المحتوم،وأسهمَتْ سياساتها في التساهل والتغاضي عن تنامي ظاهرة الإرهاب و التهريب اللذين اسْتَوْطَنَا في تونس.
سعيَّدْ يُغْمِضُ عَيْنَيْه عن انتشار الفساد في ظل حكم الترويكا وظهور”الأثرياء الجدد”
لم يتطرق الرئيس قيس سعيَّدْ مداخلته عن الفساد خلال حكم الترويكا وتجربة “التوافق” بين الشيخين ،بينما أجمع عدد من المختصين والعارفين على أنَّ “أثرياء الثورة الجدد”هم في الأساس تجار التهريب وتبييض الأموال إلى حدّ أنَّ أحد المختصين قال إنَّ المجتمع التونسي صار شَبِيهًا بالمجتمع الإيطالي الذي تسيطر عليه المافيات.وأظهر تقرير مؤسسة “ويلث إكس” السنغافورية المتخصصة في جمع المعلومات حول أثرياء العالم وتوزيع الثروة للعام 2013 أي بعد عامين على رحيل نظام بن علي أن عدد الأثرياء في تونس ارتفع بنسبة 16.2 بالمئة مقارنة بالعام 2012 ليبلغ عدد الأثرياء التونسيين الذين يملكون ثروات تفوق المليارات إلى 70 شخصا تقدر ثروتهم معا بـ9 مليار دولار (27مليار دينار تونسي) أي ما يعادل 357 مليون دينار للشخص الواحد ما جعل تونس تحتل المرتبة السابعة من حيث مجموع الأثرياء في القارة الإفريقية .وحسب ذات التقرير فإنّ 25 مهرّبا يتصدّرون قائمة أثرياء تونس كما أنّ تونس تحتلّ المركز الأوّل في المغرب العربي في قائمة أصحاب الثروات التي تتجاوز قيمتها 58 مليون دينار .
ووفق مؤشّرات إحصائيّة احتلت تونس المرتبة الخامسة عالميّا في تبييض الأموال حسب تقرير منظمة الشفافيّة الدوليّة ويعتبر التهريب المتزايد من أبرز أسباب هذه الظاهرة. ولاشكّ أنّ تفشي ظواهر  التهريب وتجارة المخدرات والسلاح والدعارة والتجارة الموازية ينمّ عن غياب آليات المراقبة ووسائل الردع، في ظلّ انتشار الرشوة والفساد.والمؤكد أنّ المنظومة التي نسجوا خيوطها ستتضخّم إذا لم تستعد الدولة سلطتها لفرض تطبيق القانون ولمحاسبة كلّ الذين  أثروا بطريقة غير مشروعة،إِذْ إِنَّ وجودهم يشكل خطرًا على الاقتصاد الوطني.
غير أنَّ الخبراء الماليزيين يقولون إنَّ النسبة العامة للأثرياء التونسيين ارتفعتْ خلال السنوات الأربع الماضية إلى حوالي 20 بالمئة لتستحوذ على حوالي 80 بالمئة من ثروات البلاد، في مجتمع تصل فيه نسبة الفقر في الجهات المحرومة وفي الأحياء الشعبية إلى 70 بالمئة، الأمر الذي يعد مؤشرًا قويًا على أنَّ التونسيين لم يجنُوا من سنوات الثروة سوى حالة عميقة من الفوارق الاجتماعية،والفقر،والبؤس الاجتماعي،في وقت كانوا ينتظرون فيه أنْ تقودَ ثورتهم إلى مجتمع أكثر توازنًا بين فئاته من خلال تأمين الحدِّ الأدنَى من العدالة في تقاسم عائدات الخيرات.
ويرجع الخبراء هذا الارتفاع السريع لعدد الأثرياء في تونس مابعد الثروة إلى “فوضى الاقتصاد المتوحش المنفلت من أية ضوابط”، وهي فوضى انتشرت خلال السنوات الأخيرة نظرا لغياب المراقبة خاصة على الحدود التونسية الغربية مع الجزائر والحدود الشرقية مع ليبيا. ويرتبط “الأثرياء الجدد” بتنامي ظاهرة تهريب الأسلحة التي نشطت بكثافة خلال السنوات الأخيرة، إلى جانب تهريب المخدرات والمنتجات الصينية، ومختلف المواد الاستهلاكية بما فيها المواد الغذائية.
ويعرف الخبير الاقتصادي معز الجودي “أثرياء تونس الجدد” بـ”أثرياء التهريب والإرهاب وتهريب السلاح والبضائع الذين “تمعشوا “(استفادوا)من الثورة وضعف أجهزة الدولة الرقابية”.ويشدِّدُ الجودي على أنَّ “هناك مافيا كبرى تعمل في مجال المحروقات وغيرها ومليارات يتم استعمالها لتهريب السلع من الجزائر وليبيا ويستثمرون في تهريب السلع”، مفيدا أنَّ “هذا الاقتصاد الموازي ينخر الاقتصاد الرسمي إضافة إلى أنه يولد الإرهاب والتهريب ويفضي إلى تبييض الأموال”. واحتلت تونس المرتبة الخامسة عالميا في تبييض الأموال، حسب تقرير منظمة الشفافية الدولية. ووفق تقرير نشره البنك الدولي في كانون الاول/ديسمبر 2013، يتكبد الاقتصاد التونسي سنويا خسائر بقيمة 1.2 مليار دينار (حوالي 1 مليار دولار) بسبب “التجارة الموازية” مع الجارتين ليبيا والجزائر. وذكر البنك أنَّ التهريب والتجارة غير الرسمية يمثلان “أكثر من نصف المبادلات مع ليبيا”.
وتقول السلطات التونسية إنَّ ممارسة التجارة الموازية ضخت خلال السنوات الأربع الماضية أكثر من 5 مليار دينار (حوالي 2.5 مليار دولار) لفائدة شبكات الإرهاب التي يقودها “الأثرياء الجدد”.أنماط استهلاك تظاهرية مع بروز “طبقة الأثرياء الجدد” اخترقت المجتمع التونسي ظاهرة مايعرف في علم الاجتماع بـ”أنماط الاستهلاك التظاهري” لتتفشى سلوكيات استهلاكية لا تعكس فقط حدة الفوارق الاجتماعية، وإنما تؤجج لدى أكثر من 70 في المئة من التونسيين المنتمين للطبقتين الوسطى والفقيرة نوعا من الحقد الاجتماعي، يرافقه سخط على السلطة السياسية التي خذلت غالبية التونسيين بعد أن ساهمت سياساتها الفاشلة وغير العادلة في تقسيم الخارطة الاجتماعية إلى” ثلاث جزر” كل جزيرة تمثل “مجتمعا قائما بذاته”: “جزيرة الأغنياء” التي تعلو سلم الهرم الاجتماعي، “جزيرة الفئات الوسطى المتآكلة” و”جزيرة الفقراء”الغارقة في مستنقع الدرك الأسفل من الهرم.
خلال أربع سنوات فقط زج الثراء الفاحش بالأثرياء الجدد في أنماط استهلاكية استفزازية بعد أن انسلخوا من “بيئتهم الاجتماعية”،إذ ينحدر 75 بالمئة منهم من فئات اجتماعية متواضعة، نزحوا من أحيائهم السكنية الشعبية ومن الجهات الداخلية ليلتحقوا بأحياء من سبقوهم في الثراء مثل حي النصر وأحياء المنازه الواقعة شمال تونس العاصمة، بل زاحموا حتى العائلات الأرستقراطية التي ورثت الثراء جيلا بعد جيل، خاصة في أحياء قرطاج على ضفاف مياه البحر الأبيض المتوسط، ليسكنوا في فلل فاخرة يتجاوز سعر الفيلا الواحدة 3 ملايين دينار (حوالي 1.5 مليون دولار) فيما يقطن 30 بالمئة من فقراء تونس في “بيوت”غير صحية،ومتواضعة جدَّا.
وكان البنك الدولي نشر تقريرًا مع مطلع سنة 2015،شَخَّصَ فيه وضع البنوك التونسية وأكَّدَ أنَّه بعد 4 سنوات من الثورة لم يتغير كثيرًا لا سيما على مستوى التشريع. واعتبر البنك الدولي أنَّ تحسين كفاءات النظام البنكي تَمُرُّ عبرإعطاء الأولوية لتطبيق القوانين التنظيمية للبنوك بكل دقة وصرامة مع ضرورة تعديل طرق اتخاذ القرار ودور الدولة في الجهاز المصرفي.وأكدَّت ْوثيقة البنك الدولي على الحاجة المُلِحَّة لتعزيز التشريع وخاصة في مسائل تصنيف القروض والمخصصات وإشراف البنك المركزي التونسي على بسط رقابة فعلية على جميع مؤسسات الائتمان. والأهم تسليط عقوبات صارمة عند انتهاك قواعد التصرف السليم. فالقطاع البنكي في تونس مريض اليوم لذلك لا يمكن توقع لا نمو ولا استثمار إذا ما ظل القطاع على حاله.أما الفَسَادَ فهو أحد عِلَلِ القطاع وأكبر دليل أن حوالي 12 مليار دينار(6مليارات دولار) ديون مصنفة ومشكوك في استرجاعها، وذلك جرَّاء غياب الْحَوْكَمَةِ وعدم احترام قواعد التصرف الحذر والمعايير الدولية المعمول بها.فنسبة استرجاع الديون في البنك لا تتجاوز 13 بالمائة ما يؤشر على ضعف الحوكمة الرشيدة وعدم احترام معايير التصرف.ولم تفعل الحكومات المتعاقبة أي شيىءلإصلاح القطاع البنكي ، من جراءغياب الإرادة السياسية ،ماجعل الحكومات ما بعد الثورة تتجه فقط لموضوع الرسملة.
تونس اليوم تحتاج إلى تشكيل حكومة إنقاذ وطنية
لا تزال تونس تعيش في ظل القرارات الجريئة التي اتخذها الرئيس قيس سعيد منذ يوم عيد الجمهورية، عقب الانفجار الشعبي الكبير،ويتساءل المراقبون و المحللون في تونس ، حول الشخصية الكفؤة التي يتعين على رئيس الجمهورية اختيارها لتولي رئاسة حكومة الإنقاذ الوطني ،التي تستهدف قيادة المرحلة المقبلة بعد إسقاط منظومة الفساد والإرهاب.
تونس بحاجة ماسة إلى حكومة إنقاذ وطنية، تتبنى استراتجية وطنية واضحة لمكافحة الفسادوالإرهاب،ووباء كورونا، إذ يحتل الفساد ومكافحته، موقعاً مهماً في تحقيق الإصلاح الديمقراطي الذي ينتظره الشعب التونسي ، ذلك أن الفساد يعتبر من المعوقات الأساسية التي تقف في وجه معالجة الأزمة الخانقة التي تعيشها البلاد، منذ سقوط رأس النظام الديكتاتوري السابق، إضافة أنه تحول إلى الحليف الاستراتيجي للإرهاب.
ونظرا لأن المنظومة السياسية التي حكمت تونس منذ عشر سنوات تمثل مصالح الطبقة السياسية و الاقتصادية الرأسمالية الطفيلية الفاسدة،حيث توجد علاقة بين السلطة و الثروة يشكل الفساد قاسمهما المشترك، فإن هؤلاء جميعاً يشكلون في الوقت الحاضر سُدّاً منيعاً في وجه تحقيق الأهداف الاستراتيجية للثورة الديمقراطية التونسية .و بما أن الفساد أصبح مستوطنا في كل مفاصل الدولة،فقد أصبح المعرقل الرئيس للإستثمار، و المعيق للتنمية، و المقوض للشرعية السياسية.
تعتبرمسألة تشكيل حكومة الإنقاذ الوطنية و إقرار برنامجها من أهم الموضوعات التي تتطلب حلاً واقعياً سريعًا ،منذ أن اتخذ رئيس الجمهورية التونسية قيس سعيد إجراءاته العملية والسريعة للإسهام في إسقاط منظومة الحكم الفاسدة المتحالفة مع الإرهاب.
فتشكيل حكومة الإنقاذ الوطنية باتت محل اهتمام الأوساط الشعبية و السياسية على السواء، نظراً للتحديات الاقتصادية و الاجتماعية و الأمنية التي تواجهها البلاد ، ليس من باب أهمية الإعلان على التوافقات حول حكومة الإنقاذ الوطنية للمساهمة في إخراج البلاد من أزمتها البنيوية العميقة الراهنة فحسب، و إنما أيضاً من أجل رسم استراتيجية وطنية وخيارات جديدة للمستقبل.
لقد أثبت التاريخ مراراًوتكراراً أن حكومة الإنقاذ الوطنية الجيدةليست من قبيل الترف، بل هي ضرورة وطنية،لأنه من دون إعادة بناء الدولة الوطنية الديمقراطية التعددية في تونس، يتعذر مواجهة التحديات التي تعيشها البلاد، في أبعادها الاقتصادية و الاجتماعية و الإرهابية.فتونس تعيش اليوم في ظل دولة ضعيفة وفاقدة تماما للهيبة، نظرا لأن منظومة الحكم الفاسدة التي حكمت البلاد طيلة عشر سنوات عجزت عن إعادة بناء الدولة الوطنية ومؤسساتها في ظل ديمقراطية ناشئة تواجه خطر الإرهاب المستوطن داخليا ، و العابر للحدود، و أزمات اقتصادية و اجتماعية خانقة، فللعمر أحكامه.
والحال هذه،هناك أزمة حكم في تونس اليوم مستفحلة لا سيما في قمة هرم الدولة، فالرئيس قيس سعيد يرفض هذا النظام السياسي الشاذ و الهجين (شبه برلماني وشبه رئاسي)، ويريد بناء نظام رئاسي جديد، يجعل من قصر قرطاج السلطة المرجعية الأولى للسلطة التنفيذية.
غير أن نجاح حكومة الإنقاذ الوطنية يتطلب من الرئيس ومن مختلف الأطراف السياسية الوطنية و الديمقراطية ، ومنظمات المجتمعى المدني، والاتحاد العام التونسي للشغل ،المشاركة في إعداد عقد اجتماعي جديد ، ووثيقة للحكومة الجديدة ،واختيار رئيس حكومة جديد ، باعتباره هو من يقوم بضبط السياسة العامة للبلاد،كما ينص ذلك صراحة الفصل 89من الدستور التونسي،وأن أي تأخير ينتج عنه عدم الاستقرار في مستوى النظام السياسي ,لا سيما أن حركة النهضة ومعها كل القوى الإرهابية، وكل اللوبيات المناصرة للفساد، تهيأ نفسها للرد على إجراءات الرئيس قيس سعيد.
ويجب أن تتضمن وثيقة أولويات حكومة الإنقاذ الوطنية ستة محاورهامة،وهي: كسب الحرب على الإرهاب ومن يدعمه في الداخل ،وتقديم المتورطين في الجرائم الإرهابية إلى القضاء–مقاومة الفساد وإرساء مقومات الحوكمة الرشيدة ، وتقديم كل المتورطين في ملفات الفساد إلى القضاء ، ومصادرة أملاكهم غير المشروعة ووضعها في ذمة خزينة الدولة – التحكم في التوازنات المالية ومواصلة تنفيذ سياسة اجتماعية ناجعة –تسريع نسق النمو والتشغيل – إرساء سياسة خاصة بالمدن والجماعات المحلية – دعم نجاعة العمل الحكومي واستكمال تركيز المؤسسات.
و إذا كان إعداد وثيقة أولويات حكومة الإنقاذ الوطنية، مثلما هو منتظر اليوم، يشكل بلا شك خطوة مهمة تحدّد الإطار الذي يجب أن تعمل فيه حكومة الرئيس قيس سعيد، وتوجهاتها الكبرى، لكنها بكل تأكيد ليست الخطوة الأهم في هذا المسار الذي لا تزال ظروف استكماله صعبة واستحقاقاته أصعب، نظرًا لوجود عواقبُ معقَّدةٌ لمواجهة الفساد المتضخم في تونس التي عاشت عشر سنوات من الانتقال الديمقراطي المتعثر ،لا سيما في ظل أحزاب المنظومة السياسية الحاكمة الباحثة عن تقسيم كعكعة السلطة وفق المحاصصات الحزبية،و التغاضي عن صُوَرِ الأنشطة السِّريَّة للفساد، ماجعل السقوطَ في دوامة الصَّفقات المشبوهة غيرَ قاصرٍ على القطاع العام ، بل امتدَّ  – بصورٍ غير معهودة – إلى المؤسَّسات الخاصَّة، والبنوك الأجنبية، والشَّركات متعددة الجنسيات، ليفتحَ الباب أمامَ المُقامِرين الجدد من السياسيين المدافعين عن الرأسمالية الطفيلية ،و سياساتِ الخصخصة، التسريع ببيع القطاعات العامَّة كفرصةٍ للثراء الفاحش، عن طريق بيع الأصول العامَّة بأسعارٍ زهيدة للأقارب والأصدقاء من الباطن، لتدخلَ أموال الشَّعب في جيوب كبار الفاسدين عبرَ ممارساتٍ غيرِ شريفة تُحاك في الظلام، أدَّت لإفلاس الموازنات العامَّة من جهة، وإعادة إنتاج النظام الديكتاتوري الفاسد السابق الذي كافحه الشعب التونسي على مدى أكثر من أربعة عقود من جهةٍ أخرى.لهذا كله، يجب شن الحرب على منظومة الفساد والإرهاب التي كانت حاكمة،بأحزابها ورموزها، لأنها لن تتخلى بسهولة معن مصالحها وامتيازاتها بسهولة
إن نجاح حكومة الإنقاذ الوطنية في مجابهة المشاكل الاقتصادية و الاجتماعية مرهون بمجابهة الفساد الديكتاتوري ، المدعوم من الطبقة الرأسمالية الطفيلية في الداخل ، و الذي يجد من يدافع عنه من أحزاب المنظومة السياسية التي حكمت البلاد لمدة عشر سنوات، بينما تقتضي تحقيق التنمية المستدامة محاربة الفساد جذريًّا، نظرًا لإفراغه المجتمع التونسي مِن مبادئه المتوارثة، لِيَحُلَّ محلَّها تجمعاتٌ شاردةٌ مِن اللِّئام والمرتزقة، مِن وراء الأزمات الاقتصادية ، حيثُ يَحصُل الفاسدون على أرباحٍ طائلةٍ على حساب خسائر الطَّبقات الفقيرة، التي تكدح بالعمل في المصانع والمزارع. كما أن الفساد يكلف تونس خسارة سنويا من 3 إلى 4 نقاط النمو ،وذلك حسب دراسة قام بها المعهد العربي لرؤساء المؤسسات ،علما ان نقطة النمو الوحيدة تمكن من خلق ما بين 15 و20 ألف موطن شغل.
ووسْطَ كلِّ هذه النقاشات الماراتونية في قصر قرطاج ،أصبح الشعبُ التونسي أكثرَ وعيًا بضرورة إيجاد حلولٍ عاجلة للأَزمات المتفاقمة، لا سيما حل مشكلة البطالة،وإعادة ترتيب المؤسَّسات العملاقة، وإصلاح الأجهزة المصرفيَّة والبنكيَّة، والتوصُّل لأُطرٍ صحيحة لمعالجة مظاهر الرِّشوة، وغسيل الأموال، والضَّرب على أيدي المفسدين لتنقية الأسواق مِن الغلاء، خاصَّةً مع تحرُّك المنظَّمات الحكومية وجهاتِ التَّنمية والتعاون لضبط آليات العرْض والطلب، ووضع أطر تنظيميَّة للشَّركات متعددة الجنسيات، ومنع صُوَر التلاعُب بقوتِ وأرزاقِ البُسطاء مِن عامَّة النَّاس، والاستفادة الإيجابيةِ من ثورة المعلومات الرَّقميَّة، وتكنولوجيا الاتِّصالات والإعلام، لخدمة مقومات التنمية الشَّعبيَّة.
و أصبح من نافل القول أن المستثمر التونسي، أو العربي، أو الأجنبي (النظيف)، يتهيب من الاستثمار في تونس، بسبب انتشار الفساد أولا، وتخلف قوانين البيروقراطية التونسية ثانيا، والتقارير السلبية الصادرة عن منظمات الشفافية الدولية ذات المصداقية، التي أصبحت تصنف تونس في قائمة البلدان الأكثر فساداً على صعيد عالمي ثالثاً.إضافة إلى ذلك،تكمن خطورة الفساد السياسية و الاقتصادية، ليس في إضعاف الحكومة تجاه الداخل فقط، و إنما في إضعافها تجاه الخارج ، وتحديدا تجاه المؤسسات الدولية المانحة ، وشركاء تونس الاقتصاديين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.
انتظارات الشعب التونسي ، كانت ولاتزال ، تكمن في تحقيق العدالة الاجتماعية ،أي عدالة توزيع الدخل و الثروة،بوصف العدالة في تجلياتها الفلسفية والأخلاقية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، تعتبر حجر الزاوية في بلورة أي منوال تنمية جديد سياسي ـ اقتصادي ـ اجتماعي، يرتبط بواقع ومستقبل العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية داخل المجتمع، وبينه وبين المجتمعات الأخرى.
فإذا استمرت حكومة الإنقاذ الوطنية في انتهاج نفس الخيارات الاقتصادية و الاجتماعية، أي تطبيق برامج الإصلاح الاقتصادي الهيكلي الموصى بها من جانب البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ،بموجب (تسوية واشنطن) وجوهرها الإندماج في العولمة الليبرالية الاقتصادية الجديدة، التي فشلت أيضاً في تحقيق الإصلاح الاقتصادي المنشود في العديد من بلدان العالم ، فإن تونس لم تحصد من الليبرالية الجديدة المعولمة سوى البطالة والفقر والفساد مما هدّد، ويهدّد، السلم الاجتماعي الذي كان البؤرة (إلى جانب عوامل أخرى) التي ولدّت حركات الاحتجاج التي اجتاحت البلاد في نهاية 2010 وتوجت بثورة 14 يناير 2011،منذ أكثر من عشرسنوات، ولاتزال الاحتجاجات مستمرة .
ولعلَّ أقسى ألوان التَّسلُّط الشمولي التي تعاني منه تونس اليوم ،هي سيطرة وصفات المؤسسات الدولية المانحة (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية )، وبصورة أقلَّ وضوحًا المؤسَّسات الأجنبية العملاقة،التي أصبحت هي التي تُسيِّرُ البلاد نحو تجميل الرَشوة بإعطاء القروض والاكتتابات، والتَّزوير في الميزانيات العامَّة، لتصيرَ السيادة الوطنية للدولة التونسية بين عشيَّةٍ وضُحاها أثرًا بعد عَين. ويتكبد الشعب التونسي الخسائرَ، الواحدة تلوَ الأخرى، في طوفان الأزمات المتلونة، لا سيما أزمة الديون وعلاقة تونس بالمؤسسات الدولية الدائنة (100الف مليار من المليمات(35مليار دولار حجم الديون الخارجية) وهو ما سيجعل حكومة الإنقاذ الوطنية أمام وضعية صعبة .إذ بات من الضروري أن تقوم الدولة التونسية بجدولة ديونها واتفاق جميع الاطراف على بداية التفكير في جدولة الديون وايجاد الحلول الضرورية ، و الحيلولة دون فقدان تونس سيادتها الوطنية ، بفعل فساد الطبقة السياسية الحاكمة، و الضغوطات التي تمارسها الولايات المتحدة و دول الاتحاد الأوروبي و المؤسسات الدولية المانحة ،لفرض هيمنتَها وإرادتها بنظُمها السياسيَّة والاقتصاديَّة، وبسط سطوتَها العسكريَّة، واستعمارَها الاقتصاديَّ على الشعب التونسي.
إن حكومة الإنقاذ الوطنية القادرة على إنقاذ تونس من الكارثة و الإفلاس المالي، هي تلك الحكومة التي تتبنى خيارًا اقتصاديًا جديدًا مناسباً، لتحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية، وهو الذي يعيد الاعتبار للدولة التنموية، ويجمع بين آليات السوق وتدخل الدولة في تكامل وتناسق يؤمنه نظام سياسي ديمقراطي يقوم على الحرية واحترام حقوق الإنسان، ويضمن تحقيق العدالة الاجتماعية ،والنمو الاقتصادي ،وتحسين مستوى المعيشة للسكان، ويدعم الإنتاج الصناعي والزراعي ،ويشجع التصدير، ويهتم بالتعليم والبحث العلمي ونقل التكنولوجيا وتوطينها ،وبناء اقتصاد قوي وتنافسي وبناء علاقات تعاون وتعامل مع الخارج، انطلاقاً من مراعاة المصالح الوطنية، لا من خلال التفريط في السيادة الوطنية كماهو سائد الآن في تونس.
إن نجاح أي حكومة إنقاذ وطنية في تونس ، يحتاج إلى بلورة استراتيجية وطنية لمعالجة الأزمات الرَّاهنة، وفى مُقدَّمتها: التَّركيزُ على القطاعات الإنتاجيَّة، والتركيز على الزراعة التي تُغذي الصناعات الإستراتيجيَّة، وتعديل مؤسَّسات السياحة ومؤتمراتها، وتنمية الاستثمارات في الولايات الفقيرة و المحرومة تاريخيا من التنمية ، وترميم الطُّرق والسِّكك الحديديَّة، والتزام حكومة الوحدة الوطنية بالحوكمة الرشيدة. كما أنَّه من الضَّروريِّ أن تلتزمَ الحكومة بترشيد الثروات العامَّة، وتحسين الانتفاع بالقُدرات الذاتية للشعب، وضبط آليات الأسعار وموازين المدفوعات، والالْتزام بالنُّظُم الأكثرِ شفافيةً، لمنعِ الفساد الإداريِّ والمصرفيِّ، وحسن إدارة الممتلكات المؤمَّنة – إن وجدت – وتطوير النُّظُم التكنولوجية ، وإضفاء طابع اللاَّمركزيَّة على الحُكم المحلي، وجعل السلطات الإقليميَّة أكثرَ خضوعًا للرَّقابة والمحاسبة، لضمان نزاهتها، وحظر الفساد الأجنبيِّ الخارجي في الأسواق الوطنية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى