فاروق .. ما له و ما عليه !!
بقلم: د. موسى الحمداني/ لندن
خرج ملك مصر السابق فاروق من مصر يوم ٢٦ يوليو ١٩٥٢، و كان على رأس المودعين له نخبة من الضباط الاحرار بينما أطلقت المدفعية ٢١ طلقة تحية للملك السابق و هو يستقر يخته الملكي ليغادر شواطىء مصر لآخر مرة متجهاً الى ايطاليا. يذكر عن الملك فاروق مقولته الشهيرة ”أنه لن يبقى في العالم سوى خمسة ملوك: ملك بريطانيا و ملوك لعبة الورق الاربعة“، فيبدو أنه كان على دراية بمسيرة التاريخ و أن عرشه لن يدوم طويلاً. حمل معه ما شاء من أمتعته الخاصة و كان في السنين السابقة قد حوَّل الكثير من أمواله إلى بنوك سويسرا، و كأنه كان يتوقع قدوم ذلك اليوم.
لا نستطيع أن نصف بدقة حقيقة مشاعر الملك السابق و هو يغادر مصر لآخر مرة. فقد انطوت صفحة هامة من حياته و لا بد أن ذلك كان يثير لدية الكثير من المشاعر و الذكريات و العواطف القوية. لكن من دراسة سيرة فاروق أنا لا أستبعد أن في خلفية تلك العواطف المتضاربه كان يمكث إحساس غامر بالراحة بأن كابوساً ثقيلاً قد رُفِع عن صدره و أنه الآن فقط، و للمفارقة بعد أن فقد مُلْكَه، أصبح بامكانه أن يعيش حياة الملوك من غير المنغصات التي كان يسببها رؤساء الوزارات و الاحزاب. فاروق ولد ليكون ملكاً لكنه لم يولد ليكون حاكماً، و الجانب الوحيد الذي أحبه من حياة الملوك كان الرفاهية و نعومة العيش.
كان طبيعياً للملك السابق أن لا يمارس أي نشاط سياسي في المنفى، فالسياسة كانت عدوه اللدود. و رغم ذلك فأنا لا استبعد أنه ربما أحس بشيء من الابتهاج عندما سمع بتأميم قناة السويس، ليس حباً في عبد الناصر و لا حرصاً على بناء السد العالي، و لكن نكاية في بريطانيا التي كان يكرهها لكثرة مضايقاتها واضطهادها له. كما أنني لا أستبعد أنه ضحك متشفياً حتى ظهرت نواجذه عندما انسحبت بريطانيا من مصر و ذيلها بين أرجلها بعد فشل العدوان الثلاثي. و من المعروف أن خطة العدوان الثلاثي كانت تشمل الإطاحة بجمال عبد الناصر لكنها لم تشتمل على إعادة فاروق الى العرش و لم تحاول بريطانيا الاتصال به. في تلك الاثناء كانت فرنسا (بمباركة بريطانيا) تتفاوض مع عميل جديد وضعته الثورة في قمة السلطة ثم انقلب عليها وهو محمد نجيب. و فعلاً تم الاتفاق على تنصيب نجيب رئيساً بعد الاطاحة بجمال عبدالناصر مقابل أن يتخذ سياسة متوافقة مع الدول الاستعمارية. عاش فاروق في المنفى بعيداً عن السياسة و متاعبها لكنه و للأسف لم يكن بلا متاعب، فقد لاحقته هموم أسرته حتى و هو في المنفى. فزوجته الثانية تركته و عادت الي مصر و رفعت عليه قضية طلاق بحجة الخيانه الزوجية. بينما كانت والدته و شقيقته قد انغمستا في نمط متحرر من الحياة الغربية في اميركا و كفرتا بالدين الاسلامي و اعتنقتا المسيحية مما سبب له الكثير من الإحراج.
كانت للملك السابق شهية جيدة للطعام و كان يرى في الأكل علاجاً نفسياً ينسيه همومه. كانت العلاقة غير الصحية لفاروق مع الطعام مثيرة للانتباه و القلق منذ أوائل الاربعينات و أدت الي زيادة مفرطة في وزنه لازمته حتى وفاته عام ١٩٦٥ بعد وجبة ثقيلة تناولها مع إحدى صديقاته في أحد مطاعم روما الفاخرة. نقل جثمانه آلى مصر و دفن فيها.
كانت وفاة فاروق نتيجة طبيعية لوضعه الصحي و عاداته الغذائية السيئة، ولو كان هناك ما يدعو للشك في اسباب الوفاة لاتخذت السلطات الايطالية إجراءات أخرى. و لكن بعد أن بدأت الحملة على عصر عبدالناصر بدأ الحاقدون يفتشون عن ما يمكن الصاقة بتلك الفترة لتشويهها، فجاء اسلوبهم ساذجاً و أكاذيبهم مكشوفة. كان الملك الشاب فاروق محبوباً من شعبه عندما جلس على العرش سنة ١٩٣٦ و تفاءل الناس به خيراً. لكن شيئاً فشيئاً وَهَنَ ذلك الحب و تلاشى مع أوائل الاربعينات و تلطخت فترة حكمه بالفساد و أصبحت كابوساً على الملايين من الشعب المصري، و هي نفس الملايين التي عاشت حقبة الخمسينات و الستينات و تعرف مباشرة حقيقة الأوضاع أثناء حكم فاروق. الحقيقة الساطعة أن فاروق فقد قيمته السياسية في المنفى و لم يكن يشكل تهديداً للثورة و لا لعبدالناصر ولا أي أحد ولا فائدة ترتجى من التخلص منه. و لا ننسى أن عبدالناصر هو الذي سمح لفاروق أن يغادر مصر سالماً معززاً رغم أن بعض رفاقه أرادوا أن يعدموه، فلا معنى لقتله بعد اعتزاله وبعد أن ضعفت مكانته السياسية الى درجة التلاشي في وقت كانت شعبية عبدالناصر في أوجها.
ثم تمادى الحاقدون و اخترعوا قصة خيالية لا واقع لها و لا أصول زاعمين أن عبد الناصر رفض دفنه في مصر لولا تدخل الملك فيصل! و للأسف أن مثل تلك الأكاذيب تنتشر انتشار النار في الهشيم و تنطلي على البسطاء الذين لا يتحملون عناء البحث. الحقيقة هي أن الموافقة على دفن الجثمان كانت فورية و في المكان الذي أوصى به فاروق و لم تكن هنالك أي علاقة للملك فيصل في الموضوع، و هو ما أكده الاستاذ سامي شرف و ما نشرته الصحف الصادرة في تلك الفترة. ما روجه الأفاقون و الحاقدون عن موت فاروق و دفنه يدل على حقد قائليها و مرض نفوسهم و سذاجة فكرهم. فقصصهم الخيالية لا تتفق مع المنطق و لا مع اسلوب عبدالناصر الذي عُرف عنه السماحة و العفو تجاه أعدائه خاصة وهم ضعفاء، و موقفه من الملك سعود ( الذي طرده أخوه فيصل) و استقباله له للإقامة في القاهره أكبر دليل على ذلك رغم أن سعود تآمر فعلاً لقتل عبد الناصر و دفع من أجل ذلك الملايين.
كان فاروق الابن الوحيد لأبوية فوضع والده حوله سياجاً معنوياً و لم يكن من اليسير أن يختلط معه أحد. و هكذا نشأ من غير أصدقاء فكان جاهلاً غشيماً في كثير من جوانب الحياة. كانت لديه موهبة اتقان اللغات لكن لم تكن له أية رغبة في تعلم أي علم آخر و كان ذهنه يسرح بمجرد أن يبدأ استاذه في اعطاء درسه. أرسله أبوه لبريطانيا للدراسة في الكلية العسكرية لكنه لم يجتاز امتحان القبول، ثم وصله خبر وفاة والده فقفل راجعاً الى مصر و كان لا يزال مراهقاً في السادسة عشرة من عمره و لم يتلق بعد أي تعليم عالي و لم يكمل تعليمه المدرسي.
في بداية عهدة لبس عباءة الدين و نشرت الصحف صوره وهو يؤدي صلاة الجمعه لكنه سريعاً ما خلع تلك العبائه و عاد الى طبيعته. تزوج من فتاة مصرية من أسرة عريقة و انجبت له بنتاً فاسود وجهه و هو كظيم ثم انجبت طفلة اخرى فامتعض أكثر ثم ازداد غضبه و تشاؤمه عندما انجبت طفلة ثالثة. انخرط في علاقات نسائية عديدة لم يكن من الممكن اخفاؤها، و كان يعتمد على موظف ايطالي في القصر ليحضر له النساء. من عشيقاته في اوائل الاربعينات كانت الاميركية ايرين جيونل و الروائية البريطانية باربرا سكيلتون. كلتاهما كتبتا عنه فيما بعد انه كان رقيقاً مهذباً و لطيفاً و يحب الدعابة والمرح لكنه لم يكن ناضجاً و لم تكن فية أيٌ من صفات الملوك الأقوياء و كان يكره السياسة و كان لا يحب القراءة عموماً و لا حتى قراءة الصحف و لا كتابة الرسائل.
كانت الصحف الغربية تصف فاروق ”بالولد اللعوب“ لكنها عدة مرات أشارت إليه ب”لص القاهرة“ بعد أن ُضبط مراراً و هو يسرق ممتلكات غيره مع أنه لم يكن بحاجة اليها. لم تسبب تلك الخصلة الغريبة أية مشاكل لفاروق في مصر، فقد كان أصحاب المسروقات يتنازلون له عنها باعتبار أنه كان ملك مصر و بالتالي يمتلك كل شيء في مصر. لكن وقعت تلك العادة القبيحة تحت الأضواء عندما امتدت يده الى جيب تشرشل و نشل ساعته مما أثار غضب رئيس الوزراء البريطاني. أعاد فاروق الساعة قائلاً أنه كان يمازحه و أنه يعرف أن الانجليز يحبون الدعابة! تلك العادة الذميمة تسمى في علم النفس kleptomania و قد يرافقها الاكل بشراهة و الافراط في استعمال الادوية والكحول، و لكن لم يعرف عن فاروق الافراط في الشرب.
كان لفاروق ميولاً لدول المحور كما ظهر في الوثائق النازية التي كشفت عنها المانيا بعد الحرب. في رسالة منه للمستشار الالماني تبين أن الملك كان يحث هتلر لاحتلال وادي النيل و قناة السويس مؤكداً أن مصر ستساعده للسيطرة على المنطقة بما فيها منابع البترول. عرفت بريطانيا عن ذلك لكنها رفضت ازاحته عن العرش حسب نصائح سفيرها لامبسون المتكررة لما كان في ذلك من تشتيت لجهود الحرب. و كان المسؤلون البريطانيون كثيراً ما يستهزئون بذلك الملك الذي يريد ان يستبدل الاحتلال البريطاني باحتلال فاشي/نازي. بعد هزيمة المانيا في معركة العلمين تغير اتجاه فاروق فأصبح مناصراً لبريطانيا.
في فبراير عام ١٩٤٢ وقعت حادثة أثرت كثيراً على فاروق عندما طلب منه السفير البريطاني ( كعادته في فرض إرادته) أن يعين النحاس باشا لرئاسة الحكومة بدلاً من حسين سري باشا. تردد فاروق فإذا بالسفير البريطاني يحاصر القصر بالدبابات و يدخل على الملك بوثيقة تنازل عن العرش لصالح الامير محمد علي، فأذعن فاروق فوراً. بقي فاروق ملكاً لكنه فقد ثقته بنفسه تماماً و كره السياسة وانصرف يسلي عن نفسه بالاكل و السهر في ملهى الأوبرج و لعب الورق ”القمار“ مع أفراد الطبقة الثرية. و جدير بالذكر أن موقف الضابط جمال عبدالناصر في حادثة فبراير كان مسانداً للملك فاروق و اعتبر معاملة ملك مصر بذلك الأسلوب المهين بمثابة إهانة لمصر.
بينما كان فاروق منغمساً في علاقاته النسائية المتعدده أُبتلي بمشاكل أسرية كثيرة و فاضحة. فقد بدأت الخلافات بين والدته و زوجته مبكراً و سرعان ما ظهرت للعلن، ثم في عام ١٩٤٠ اكتشف أن والدته على علاقة مع أحمد حسنين باشا، بل أنه ضبطهما يوماً و هددهما بالقتل. ثم وصل الى علمه أن زوجته هي الأخرى كانت على علاقة مع أحد افراد الطبقة الارستقراطية مما أضاف الى تعقيدات حياته الزوجية. ثم زادت الامور سوءاً عندما اكتشف أن زوجته كانت تخونه مع رسام بريطاني كان متواجداً في مصر. و فيما بعد و عندما تبين أن زوجته كانت حامل للمرة الثالثة قال له السفير البريطاني بطريقة مهينه و بذيئه ” آمل أن تنجب زوجتك ولداً هذه المرة.. وآمل أن يكون ابنك“.
كان فاروق ضحية لتركيبته النفسية و ظروف نشأته الملكية التي فرضت عليه أن يصبح ملكاً في سن مبكرة على بلد يئن من وطأة الاحتلال. هو الآن في ذمة الله، لكني لا أستبعد أنه عندما كان في منفاه كان يضمر في قرارة نفسه احساساً دفيناً بالامتنان للرجل الذي أزاح عنه هموم العرش و أرسله معززاً مكرماً إلى ايطاليا و هو جمال عبد الناصر. فضائح الملوك و العائلات المالكة كثيرة و شائعة و لم تسلم منها عائلة واحدة عبر التاريخ، و بالتأكيد ليست حكراً على اسرة محمد علي. و ربما ينفع أن نُذَكِّر أن المملكة التي أسسها محمد علي تختلف عن ما تعودنا عليه في العالم العربي من ممالك و مشيخات و إمارات و سلطنات بأنها لم تكن مدينة في وجودها للتاج البريطاني. لذلك كانت العلاقة بين ملوك مصر و بريطانيا علاقة قاهر و مقهور بينما علاقة بريطانيا مع الأُسر الحاكمة في الخليج كانت دائماً كعلاقة الأم الحنون مع أبنائها المدللين. و أنا شخصياً أرى أن فاروق، على مساوئه، كان ملاكاً قياساً لملوك و أمراء الخليج، فهو على الأقل لم يتورط في أية محادثات سرية أو اتفاقيات مع إسرائيل. لكن من التجني على الذاكرة و التاريخ أن يتمادي البعض في الكذب و التلفيق من أجل تلميع صورة ملك فاشل أو يتباكى على عصر فاسد. فالحقائق أسطع من أن تحجبها أكاذيب ساذجة، فنحن نتكلم عن تاريخ حديث و مسجل في تقارير المراسلين و وكالات الانباء و الصحف، المصرية منها والعالمية.