٢٣ يوليو .. ملكةٌ بين الثورات

 
قامت ثورة ٢٣ يوليو في مثل هذه الأيام قبل تسعة و ستين عاماً، و في فترة وجيزة أصبحت ضياءً للعرب ينير لهم طريقهم للمستقبل و يعطيهم إطلالة على ما قد يصيرون إليه فيما لو تشبثوا بطموحاتهم التي جسدتها الثورة مثل الاستقلال و المساواة الاجتماعية و بناء دولة الوحدة. كانت ثورة جُنْدٍِ من شعب عريق يتقدمهم قائد أبيٌّ رابط الجأش قلما يجود الزمان بمثله، و هو جمال عبد الناصر. ذلك البطل العربي الجسور الذي أحب أمته و وطنه و تفانى في خدمتهما بلا كلل ولا ملل و الذي تمثلت فيه الوطنية و الشجاعة و عزة النفس و الاستعصاء على الفساد. كان جمال عبد الناصر و رفاقة جزء من أمتهم يحسون بأحاسيسها و يشعرون بآلامها فجائت ثورتهم تعبيراً صادقاً عن ما كان يدور في وجدان كل مصري و عربي شريف و تجسيداً لأحلامهم و مطالبهم. ذلك التجانس بين الشعب و جنوده كان القوة الدافعة لذلك التأييد الشعبي الفوري الذي حظيت به الثورة منذ مولدها.

نذكر ثورة يوليو المجيدة بفخر و اعتزاز و نذكر إنجازاتها السامية و مبادئها الخالدة. نذكرها و نفخر بها و هي تقف شامخة بين ما سبقها أو خَلَفها من ثورات الشعوب عبر التاريخ، مثل الثورة الفرنسية و الثورة البلشفية في روسيا. و قد أحدثت كل من هاتين الثورتين في حينها زلزالاً اهتزت له البلاد شرقاً و غرباً لكنها أيضاً أحدثت من الفوضى ما تشيب له الرؤوس و أراقت من الدماء ما تقشعر له الأبدان، و هدمت قبل أن تبني و أفسدت قبل أن تصلح ، و كذلك هو شأن الثورات الشعبية في التاريخ: سنين من الفوضى و إسراف في الثأر و القتل حتى تهدأ العاصفة و يستقر الغبار و تتضح معالم الطريق. أما ثورة يوليو فقد باركها الله من ساعة انطلاقتها وحباها بثوب من السلام و الأمان فكانت ثورة بيضاء ناصعة في بياضها، و زَيّنها بعقد من مظاهر الدعم الشعبي ترصَّعَت فرائضه بدُررٍ من الحب العفوي الصادق حتى أصبح بمثابة تاجٍ على رأسها جعلها ملكةً بين الثورات.

و كانت ثورة يوليو سخية في خيرها و عطائها. فصدر قانون الإصلاح الزراعي بعد بضعة أسابيع فقط من قيامها، فعادت للمواطن المصري أرضه التي أُغتصبت منه ظلماً و عدواناً في سالف الزمان بفعل قوانين جائرة. ثم حققت للشعب المصري حلمه بالاستقلال فكانت معاهدة الجلاء سنة ١٩٥٤. ثم جعلت من مصر قلعة صناعية في زمن كانت الصناعة فيه حكراً على دول المعسكرين الغربي والشرقي. و في عام ١٩٥٦ تم تأميم القناة من أجل بناء السد العالي. لقد وضعت الثورة نصب أعينها ستة أهداف سامية وعدت بتحقيقها و حققتها فعلاً في فترة قصيرة و بنجاح ملفت للأنظار باستثناء هدف واحد وهو تحقيق الحياة الديمقراطية السليمة. تعطل تنفيذ ذلك الهدف بسبب كثرة المؤامرات على الثورة لزعزعة دولتها و استقرارها و القضاء عليها و هي في مهدها، و مع ذلك فمن المعروف ان قائد الثورة كان يخطط لأن يؤسس لتحقيق هذا الهدف في السبعينات – و لكن لم يمهله القدر.

و يتناسى الحاقدون كل انجازات الثورة و لا يتحدثون الا عن غياب الديمقراطية و كأن مصر قبل الثورة كانت تعرف الديمقراطية! و هؤلاء الحاقدون يخلطون، عن جهل أو قصد، بين الديمقراطية و وجود أحزاب فاسدة. في العصر الملكي كانت مصر تعج بالاحزاب السياسية، و في حقبة الأربعينيات كان الفساد قد تغلغل فيها جميعاً الى أن انقطعت صلتها بعامة الشعب. تلك الحالة من الفساد السياسي و الاجتماعي أدت إلى غليان الشارع المصري و جعل قيام الثورة أمر حتمي. و كانت لجمال عبد الناصر خبرة طويلة مع الأحزاب و هو في مقتبل الشباب و انضم لبعضها ظناً منه أنها تعمل من أجل الوطن و لما عرفها عن قرب أدرك الفساد المستشري فيها و رفضها جميعاً. و أثناء دعوته لحركة الضباط الأحرار، اشترط أن يتخلى الضباط عن انتماءاتهم الحزبية السابقة. و الحقيقة أن جمال عبد الناصر لم يذكر كلمة ”الديمقراطية“ إلا و ذكر معها كلمة ”السليمة“ لأنه لا معنى لوجود الديمقراطية الزائفة بل أن غيابها أفضل من وجودها.

أذكر ذلك لأني أعيش في بلاد يعتبرها الكثيرون أماً للديمقراطية الحديثة و حصناً منيعاً للكلمة الحرة، لكني أعرف أنها ديمقراطية زائفة. و أنا لست وحيداً في هذا الرأي فقطاع كبير من البريطانيين يدركون هذه الحقيقة عن ديمقراطية بلادهم المزعومة، و هذا يفسر الاقبال البسيط على الانتخابات. أعضاء البرلمان، الذين تأتي غالبيتهم من الأحزاب، يهدفون أساساً للاستفادة من الوظيفة (و ما أكثر ميزاتها) لا خدمة المواطنين. بل أن حرية الكلمة بوضعها الحالي هي أيضاً حرية زائفة لأنها انتقائية، وحرية الكلمة هي الاكسجين الذي تعيش عليه الديمقراطية. و في السنين الأخيرة ازددت كفراً بديمقراطيتهم و حريتهم عندما بدأت الحملة المسعورة لتشويه سمعة زعيم حزب العمال السابق جيرمي كوربن المعروف بمناصرته لحقوق الفلسطينيين و اتهامه بالعنصرية تجاه اليهود. و قبل بضعة أسابيع نشرت الصحف أن بعض قادة الجيش كانوا يتدارسون فكرة القيام بانقلاب (نعم انقلاب .. في بريطانيا!) للإطاحة بكوربن فيما لو وصل إلى رئاسة الحكومة!

ليس غريباً على الشعب المصري أن يثور و يتصدي للطغيان، فمنه انطلقت ثورة عرابي سنة ١٨٨٢، ثم ثورة ١٩١٩ و حديثاً ثورة يناير. حققت ثورة عرابي بعض مطالبها في البداية لكنها فشلت في النهاية و نُفي عرابي و رفاقه، و كذلك فشلت ثورة ١٩١٩ في تحقيق اهدافها فبقيت الأمور على حالها و بقيت مصر ترضخ تحت الاحتلال البريطاني … إلى أن جاءت ثورة يوليو ١٩٥٢ فانتصرت لكلتا الثورتين و حققت كل ما كان يطالب به الشعب و يحلم.

و ثورة يناير أيضاً لم تحقق أهدافها. كان الشباب في ميدان التحرير يهتفون ”عيش، حريه و عداله اجتماعية“ و هي مطالب كانت قد حققتها ثورة يوليو لأجدادهم قبل ستين عاماً! و هذا مؤشر مؤلم يدل على كم عادت شعوبنا الى الوراء بعد الردة عن ثورة يوليو. و كان من مطالب الشعب في ثورة يناير عزل مبارك للتخلص من كابوس ”الملكية المقنعة“ الذي كان يخيم على البلاد فيما لو تم توريث الحكم لأبنه. ثورة يوليو قضت على الملكية بكل صورها، مقنعةً و غير مقنعة، و أعادت حكم مصر لأبنائها لأول مرة من آلاف السنين و حققت كل ما طالب به الشعب المصري في ميدان التحرير و جعلت مصر دولة حرة رائدة و غير مرتبطة بأحلاف أو إتفاقيات مخزية .

لهذا فإن ثورة يوليو تقف شامخة عاليةً بين الثورات لأنها وعدت و أنجزت و أوفت، بل أن إنجازاتها زادت على وعودها. من كان يحلم أن تصبح قناة السويس مصرية خالصة بعد أربعة سنوات فقط من الثورة؟ و من كان يتوقع أن يُبنى السد العالي و ذلك العدد الكبير من المصانع؟ جادت يوليو في عطائها و خيرها الذي تعدى حدود مصر فانتصرت لحروب التحرير في الجزائر و اليمن و تنفس العرب نسيم الحرية المنعش و ذاقوا طعم العزة و الكبرياء. نعم، يحق لمصر و للشعب المصري أن يفخروا بثورتهم المباركة التي صارت ثورة لكل العرب و إلهاماً لهم و لشعوب العالم المستضعفة. فها نحن اليوم في الاردن و سوريا و فلسطين و لبنان و سائر أقطار الوطن العربي نحتفل بذكرى انطلاقتها و نسترجع انجازاتها و افضالها تماماً كما يحتفل بها الاخوة المصريون.

حقاً كانت ثورة ٢٣ يوليو ملكةً بين الثورات كما كان قائدها زعيماً بين الملوك والرؤساء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى