في ذكرى علي شريعتي.. المفكر الذي مهّد للثورة الايرانية

 

في 19 حزيران/يونيو الراهن حلت ذكرى مرور 44 سنة على وفاة أحد أبرز المفكرين الايرانيين في القرن العشرين, الرجل الذي ساهم في كتاباته التنويرية والنهضوية في المقدمات التي أدت الى انفجار ونجاح الثورة الايرانية عام 1979 : الدكتور علي شريعتي.

أولاً : نبذة عن حياته
وُلد علي شريعتي سنة 1933 في احدى قرى اقليم خراسان في ايران.وأنهى دراسته الثانويّة في مدينة مشهد ثم التحق بمعهد إعداد المعلّمين، وتخرّج منه سنة 1952 ليصبح معلّماً في مدرسة حكومية. شارك مبكرا في النشاطات المؤيدة لحركة الدكتور مصدّق الوطنية في ايران. وبعد الانقلاب الامريكي على مصدّق سنة 1953 واعادة الشاه للحكم انضم شريعتي الى “حركة المقاومة الوطنية” وتعرض خلال ذلك للاعتقال مرتين لفترات قصيرة.
في سنة 1955 التحق بكلية الاداب في جامعة مشهد وتخرج منها سنة 1958 وتزوج من إحدى زميلاته, پوران رضوي, التي كانت تشاركه ميوله واهتماماته. وفي سنة 1959 حصل على منحة للدراسة في فرنسا فسافر الى باريس والتحق بجامعة السوربون الى ان تخرج منها بدرجة الدكتوراه في التاريخ والعلوم الاجتماعية سنة 1963. وخلال وجوده في فرنسا تحول الى ناشط في دعم حركات التحرر الوطنية في افريقيا ,وخصوصا الجزائرية , وتعرض للاعتقال مرتين بسبب ذلك.
عاد الى ايران سنة 1964 والتحق بالعمل كمحاضر في جامعة مشهد. وفي سنة 1968 استقطبه مرتضى مطهّري (الذي سيصبح من اهم شخصيات الثورة الايرانية) لإلقاء محاضراته في حسينية الإرشاد بطهران. كان التفاعل مع محاضراته كبيراً جدا من قبل الشباب الايراني الذين اقبلوا على الحضور بأعداد غفيرة. في سنة 1972 قامت الحكومة الايرانية باغلاق حسينية الارشاد واصدرت قرارا بمنع علي شريعتي من القاء المحاضرات. ثم في 1973 تم اعتقاله من قبل مخابرات الشاه وبقي في السجن الانفرادي لمدة 18 شهرا. أفرج عنه سنة 1975 مع قرار بمنعه من مزاولة اي نشاط سياسي.
وفي سنة 1977 تمكن من مغادرة ايران الى بريطانيا حيث توفي فجأة في شقته بظروفٍ غامضة بعد ثلاثة اسابيع من وصوله. قال تقرير الطب الشرعي ان سبب الوفاة كان نوبة قلبية, ولكن كان هناك اعتقاد واسع النطاق في ايران بأن مخابرات الشاه (السافاك) كانت وراء موته المفاجئ وهو بعمر 44 عاماً.
نقل جثمانه الى دمشق حيث دُفن في جوار ضريح السيدة زينب, وصلّي عليه الامام موسى الصدر.

ثانياً : أهميته كمفكّر
يعتبر علي شريعتي من رواد فكر النهضة الاسلامية في القرن العشرين. ولكن دعوة علي شريعتي للاسلام لم تكن تقليدية بل كانت دعوة تقدمية, ثورية ونضالية معادية للظلم وللطغاة ولفقهاء السلاطين. فكان همّه الشاغل يتمثل في تنقية الإسلام مما علق به من تاريخ الظلم والاستبداد, والسعي للرجوع بالإسلام إلى أصله كثورة اجتماعية.
وكثيرا ما يُنظر الى علي شريعتي كـ”منظّر” للثورة الإيرانية. فبحكم دراسته في السوربون وثقافته الغربية طوّر أيديولوجية جمعت بين التأثيرات الفلسفية العلمانية واليسارية, ورمزيّة ولغة الإسلام الشيعي. تصوّر شريعتي الإسلام الشيعي على أنه أيديولوجية تحررية حقة, يمكن استخدامها لخلق مستقبل يضمن العدالة والمساواة للانسان بدلاً من الاكتفاء بالنظر بحنين إلى الماضي. أراد علي شريعتي أن ينبثق من تلك الأيديولوجية مجموعة من المؤمنين الذين لا يكتفون فقط بالتفكير في الخلاص الذاتي وفي العالم الآخر, بل ايضا يسعون جاهدين لتحقيق المثالية ومجتمع لا طبقي على الأرض. كان علي شريعتي عدوا للنظام الملكي وللامبريالية, وكان يؤمن أن الله يقف في صف الفقراء, ويعارض الظلم الذي خلقه الإنسان, مما جعله شخصية مقبولة في اوساط اليسار الإيراني, وكذلك لدى التيار الاسلامي التقدمي/الثوري الذي كان يتزعمه اية الله الخميني.
ساهمت الأفكار التي أسس لها شريعتي في تشكيل الروح الثورية التي عبّرت عن ذاتها لاحقا في الثورة الإيرانية. والوعيُ الذي بثه في اوساط المجتمع الايراني كان له تأثير في إعادة تشكيل الواقع وتحريك مياهه الراكدة.

ثالثاً : نماذج من مؤلفاته وكتبه
ترك الدكتور علي شريعتي عشرات الكتب القيمة والتي لاقت رواجا وانتشاراً واسعاً في ايران وخارجها. نذكر البعض منها:
في كتابه “دينٌ ضد الدين” قسّم علي شريعتي الأديان من خلال نظرته الاجتماعية والسياسية الى نوعين.
الاول هو الدين الثوري (أو دين التوحيد) : وهو الدين الذي يغذي أتباعه و معتنقيه برؤية نقدية حيال كل ما يحيط بهم, ويكسبهم شعوراً بالمسؤولية تجاه الوضع القائم ويجعلهم يفكرون بتغييره للأحسن . وقادة هذا الدين هم أنبياء الله البسطاء والفقراء.
وأما النوع الثاني من الأديان فهو الدين التبريري (أو دين الشرك) : وهو الدين الذي يسعى إلى استعباد معتنقيه وتخديرهم وإقناعهم بأن الوضع الراهن هو من مشيئة الإله, وقادة هذا الدين هم أصحاب السلطة من الملأ والمترفين.
ولعل كتاب “التشيع العلوي والتشيّع الصفوي” من افضل ما كتبه علي شريعتي عن مشاكل المسلمين المذهبية وخلافاتهم التي قال انها تنبع من التيارات المنحرفة عن روح الاسلام الصافي الذي جاء به النبي محمد ومضى على دربه الامام علي. وميّز بين “التسنن المحمدي” الذي ينبع من مشكاة محمد(ص) ونوره وبين تسنّن بني أمية الذين طغوا وبغوا وأرغموا المسلمين على سب علي بن ابي طالب على منابر الجمعة لتسعين سنة! وخلقوا فقه طاعة الحكام الظالمين وعقيدة القدر الالهي أو كما كان يقول معاوية “لو كره الله ما نحن عليه لغيّره” ! كما ميّز بين “التشيّع العلوي” الذي يرجع الى الامام علي وزهده وعدله وسموّه وحكمته وبين تشيّع الحكام الصفويين في ايران الذين نشروا فكر التعصّب والجهل والخرافة وأشاعوا سب ابي بكر وعمر وممارسات اللطم وجلد الظهور في ذكرى كربلاء,,,, فبنظر علي شريعتي لا فرقَ ابداً بين “التسنن المحمدي” وبين “التشيع العلوي” لأنهما من ذات النبع, وانما المشكلة هي في الرجال من منغلقي الذهن والمتعصبين للمذاهب لا للحق.
ومن كتبه المميزة ” النباهة والاستحمار”. ويقصد بمصطلح “الاستحمار” تسخير الطبقات الحاكمة للمستضعفين ليعملوا لديها كالحمير. ويؤكد أن ظاهرة الاستحمار لم تتوقف أبداً بل ظلت شرعَ المستبد, سواء كان مستعمراً اجنبياً أو حاكما محليا.
وفي كتابه “الامام علي في محنِه الثلاث” يتحدث شريعتي بأسلوب فريدٍ أخّاذ عن شخصة الإمام علي الذي هو نموذج لـ”المغلوب المنتصر”! ويشرح كيف أنّ “قرابة علي من النبيّ أحد العوامل التي جعلت منه ضحية وجعلته وحيداً. ويسترسل في الحديث عن “محنة التاريخ” و “محنة التشيع” و “محتة الانسان” لدى الامام علي بن ابي طالب.
وفي كتابه “بناء الذات الثورية” عبّر شريعتي عن أهمية العمل الثوري والنضالي الاجتماعي, وأكد على أن من اهم العوامل التي تنجح هذا العمل هي حالة الايمان بالفكرة وكُره الطبقية والانظمة الاستهلاكية التي تنزع من الانسان قيمته ومعناه الصوفي والوجداني. وقال شريعتي ان الثوري هو “إنسانٌ أعاد صياغة ذاته”, واضاف “ان الثورية تنشأ غالباً من الأشخاص المحرومين والمنتجين في نفس الوقت, لان الانسان بطبعه ثائر على الظلم والقهر والاستبداد”.

رابعاً : من كلامِه
“ما أن وطأت قدماي أرض مصر حتى عزمتُ على زيارة أثرها التاريخي العجيب ” الأهرام” وكدت أطير فرحاً اذ سنحت لي هذه الفرصة واخذت معي احد الادلاء لأستفيد من توضيحاته حول الاهرام وطريقة بنائها وتاريخها واسرارها. وبدأ بالفعل يحكي كيفية البناء وكيف ان العبيد قاموا بتقطيع وتحميل ملايين الصخور من أسوان الى القاهرة , لتكون اماكن دفن لأجساد الفراعنة بعد تحنيطها. ولفتَ نظري اثناء السير مجموعة صخور فوق بعضها فسألت الدليل عنها فأجاب على مضض انها اخاديد حُفرت في باطن الأرض كمقابر جماعية للعبيد الذين شيدوا الأهرامات !
فصممتُ على الذهاب اليها والجلوس بجوارها حتي شعرت وكأن قرابة او صلة رحم تربطني بهؤلاء التعساء, فكنتُ أتلو على قبورهم مأساة خمسة آلاف عام من الجوع والظلم والخوف والمشقة , وكانوا ينحبون معي مأساة حياتهم السوداء ! وعندها ادركتُ ان كل ما يكتب في التاريخ باسم الحضارة والتمدن هو محض افتراء وكذب وان التاريخ الحقيقي هو الذي كتبه هؤلاء الاخوة , لا الفراعنة والقياصرة والأكاسرة”

رحم الله المفكر الثائر الشهيد علي شريعتي.

*كاتب و باحث من الاردن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى