الانتفاضة الثالثة أعادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة القومية

بقلم: توفيق المديني

بعد أن عمَّتْ الانتفاضة الفلسطينية الثالثة الموحدة كافة أنحاء فلسطين التاريخية،على ساحة المقاومة بجميع أشكالها،ولا سيماانتفاضة فلسطينيي الأراضي المحتلة عام 1948،الذين يعانون من الغضب المتراكم منذ النكبة جرَّاء سياسات التهجير الداخلي،والتمييز العنصري،والحرمان من الحقوق،والأسرلة،ومحاولات طمس الهوية الوطنية،واعتبار العرب مواطنين من الدرجة الثانية، في ظلّ نظام الأبارتهايد الصهيوني.
وبعد أن حصل العدوان الصهيوني على الشعب الفلسطيني في غزة المستمر منذ أسبوعين ،تعالت الأصوات العربية،في مشرق الوطن وفي مغربه،لا سيما من أوساط شعبية،ومن أحزاب سياسية وطنية منددةً بهذا العدوان الصهيوني في معظم العواصم العربية،فعادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة القومية كقضية تجمع نضال الأمة،بينما تسببت الانتفاضة الفلسطينية الثالثة في تراجع سمعة الاحتلال الصهيوني خارجيًا،بعد محاولة تلميعها من خلال اتفاقيات التطبيع التي أبرمها الكيان الصهيوني مع عدد من الدول العربية في الخليج،والسودان، والمغرب.

ردود الأفعال في المنطقة العربية

في السودان،الذي ضغطت عليه إدارة ترامب السابقة لإقامة علاقات دبلوماسية مع الكيان الصهيوني في كانون الثاني/ يناير2021 من أجل رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة عليه، اندلعت مسيرات مؤيدة للفلسطينيين.وأصبح الرئيس المؤقت للبلاد،عبد الفتاح البرهان،في موقف دفاعي،مصرًا على أنَّ قرار حكومته لا يقوض القضية الفلسطينية.وقال البرهان لقناة فرانس 24 الإخبارية يوم الاثنين الماضي:”ما يحدث في غزة ضد المدنيين العزل مؤسف.. [لكنَّ] التطبيع لا علاقة له بحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم”.
ومع ذلك،فإنَّ الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين يؤجج التوترات بين الجمهورالسوداني المؤيد بشدة للقضية الفلسطينية والمجلس العسكري الذي يعمل كسلطة انتقالية في أعقاب الإطاحة بحاكم البلاد لفترة طويلة عام 2019 في انتفاضة شعبية.
حتى الأنظمة الاستبدادية العربية القوية التي حسنت علاقاتها مع الكيان الصهيوني على مرِّ السنين تشعر بالضغط وسط صور لمدنيين فلسطينيين قتلوا في العدوان الصهيوني على غزة.في قطر،وهي إمارة ملكية مطلقة لم توقع أبدا اتفاق سلام مع الكيان الصهيوني لكنَّها حافظت على علاقات ودية واتصالات منتظمة معه،بما في ذلك المساعدة في دفع الأجوروالمرافق في غزة، تجمع الآلاف من الأشخاص الذين يلوحون بالأعلام الفلسطينية في احتجاج نادر. كما اندلعت الاحتجاجات في عُمان التي تربطها بالكيان الصهيوني علاقات حميمة لكنها سرية.
وفي المغرب،إضافة إلى إلغاء أو تأجيل المؤتمر التجاري مع الكيان الصهيوني،فقد ألغى المغرب أيضًازيارة مخططة لمسؤولين صهاينة هذا الشهر لمناقشة الرحلات الجوية المباشرة بين البلدين. بعد تغطية النزاع بشكل محدود، بدأت وسائل الإعلام الحكومية بالتركيز عليها.وشارك سياسيون مقربون من الحزب الحاكم :حزب العدالة و التنمية الإسلامي في احتجاجات تطالب بإنهاء التطبيع مع الكيان الصهيوني.
كما قررت السلطات المغربية،يوم الأربعاء 19مايو الجاري،منع فعالية تضامنية وهي الكبرى من نوعها مع الشعب الفلسطيني،وكان مقررًا تنظيمها يوم الأحد 23مايو 2021بالعاصمة الرباط، بدعوى “تجنب كل ما من شأنه خرق مقتضيات حالة الطوارئ الصحية”، المفروضة في البلاد لمواجهة تفشي فيروس كورونا.
وأعلنت السلطات المغربية عن منع أي تجمهر أو تجمع بالشارع العام تجنبا لكل ما من شأنه خرق مقتضيات حالة الطوارئ الصحية، وحرصًا على “الالتزام بالتدابير الهادفة إلى حماية صحة المواطنات والمواطنين وضمان سلامتهم،وبالنظر للتأثيرات السلبية على الحالة الوبائية التي يمكن أنْ تسهم فيها التجمعات بالطرق والشوارع العمومية.”وأكَّدتْ،في بيان لها،”على حرصها الثابت على تفعيل قرار المنع والتصدي بكل حزم ومسؤولية لكافة السلوكات والتصرفات المنتهجة خلافا لذلك،مهيبةً بالجميع الالتزام بالتدابير المقررة، تكريسًا للنتائج الإيجابية التي حققتها بلادنا في مواجهة تفشي فيروس كورونا – كوفيد 19”.
وكانت “مجموعة العمل الوطنية من أجل فلسطين” (غير حكومية)، قد دعت إلى تنظيم مسيرة وطنية تحت شعار:”الشعب المغربي مع المقاومة..وضد التطبيع،ومن أجل إلغاء اتفاقات العار وطرد الصهاينة من المغرب”.وكشفت المجموعة أنَّ تنظيم المسيرة يأتي في سياق التنديد بـ”العدوان الصهيوني الوحشي على شعبنا الفلسطيني البطل في القدس وفي المسجد الأقصى المبارك و في أراضي 48 واستمرار المذابح الهمجية بحق أهلنا في قطاع غزة الصامد”.كما تأتي المسيرة، “تعبيرًا من الشعب المغربي عن استمرار وثبات مواقفه من قضية فلسطين باعتبارها قضية وطنية ومن المقاومة باعتبارها أمانة ومن التطبيع باعتباره خيانة وطنية وقومية”.
وعرف المغرب،خلال الأيام الماضية،فعاليات عدة للتضامن مع الفلسطينيين كان أقواها ما عاشته أكثر من 46 مدينة مغربية،مساء الأحد الماضي،من تظاهرات للتضامن مع الفلسطينيين في القدس المحتلة والضفة الغربية وقطاع غزة،وللتنديد بالعدوان الصهيوني المستمر منذ 10 أيام على القطاع،وبالتطبيع.
وفي اليمن تظاهر آلاف اليمنيين، استجابة لدعوة “الهيئة الشعبية لنصرة فلسطين”،يوم الأربعاء الماضي ،في مناطق متفرقة من محافظة تعز (جنوب غرب البلاد)؛ تضامنا مع الشعب الفلسطيني، وتنديدا بالعدوان الإسرائيلي على غزة.
وقال بيان صادر عن “الهيئة الشعبية لنصرة فلسطين وصل “عربي21” نسخة منه: “إن قضية الشعب الفلسطيني هي قضية الشعب اليمني بالمقام الأول”، مضيفا: “ومن هنا، ندعو كافة قوى الشعب اليمني ومنظماته السياسية والمدنية إلى مزيد من التضامن والدعم بالفعاليات التضامنية والإعلام، وكل وسائل الدعم الممكنة، بصورة مستمرة ومتزامنة مع مراحل النضال الفلسطيني”.
وتابع البيان: إلى شعبنا الفلسطيني البطل، إلى المقاومة وكتائبها المغاوير، وإلى غزة وأخواتها اللائي  يشكلن صخرة تتساقط إمامها مؤامرات القرون السوداء..، وإلى روح الأمة في الأقصى وغزة والداخل الفلسطيني والضفة الغربية، نحييكم من تعز واليمن المدد.وخاطبت الهيئة الفلسطينيين بالقول: “أنتم فتيلة الثورة وبَذرة العودة، عودةُ الأقصى والروح والوطن والشعب والكرامة، لفلسطين وكافة الأمة العربية والإسلامية”.
وفي ليبيا أدان رئيس حكومة الوحدة الوطنية، عبد الحميد الدبيبة، الاعتداءات الإسرائيلية الأخيرة في القدس وغزة، مؤكدا وقوف بلاده دائما إلى جانب القضية العادلة للشعب الفلسطيني، مطالبا المجتمع الدولي الالتزام بمسؤولياته لإيجاد حل عادل لصالح الفلسطينيين”، وفق قوله.
في حين أكدت وزيرة الخارجية الليبية، نجلاء المنقوش، موقف ليبيا الرافض للعدوان الذي تشنه قوات الاحتلال الغاشمة على أبناء الشعب الفلسطيني، مطالبة باتخاذ خطوات فاعلة وإجراءات عاجلة لوقف العدوان، وإصدار تحذير صريح من أن استمرار العدوان سيكون له تداعيات إقليمية ودولية تهدد السلم الدولي”.

تونس المتميزة شعبيًا ورسميًا

في تونس، شاركت أحزاب سياسية يسارية وقومية ،ومنظمات وطنية،وكذلك حركة النهضة الإسلامية ،بدعوة من الاتحاد العام التونسي للشغل، يوم الأربعاء19مايو الجاري،في مسيرة حاشدة بشارع محمد الخامس بالعاصمة التونسية”نصرة للشعب الفلسطيني في نضاله وصده للاحتلال”.ورفعت الرايات الفلسطينية والتونسية،وردَّدَ المحتجون العديد من الشعارات المعبرة عن”تضامنهم المطلق واللامشروط” مع الفلسطينيين.
وأكَّد الأمين العام المساعد باتحاد الشغل، محمد البوغديري،أنَّ “الرسالة واضحة للإخوة في فلسطين، فالشعب التونسي معهم ولن يتم التراجع عن الدفاع عن القدس”،مضيفا ،أنَّ “الشعب الفلسطيني سيواصل نضاله إلى حين استقلال دولته، وطرد المحتل”، مشيرًا إلى أنَّ رسالتهم هي “رسالة سلام واحترام لكافة الأديان، ولكن عدوهم هم الصهاينة، ولابد من طردهم من فلسطين”.وذكر البوغديري أنَّ “المسيرة اليوم شاركت فيها العديد من القوى الحية من منظمات وأحزاب ومجتمع مدني، ولابد من الصمود، والمرحلة مرحلة فرز، فمن لا يساند القضية ويكون ضد قانون تجريم التطبيع فهو ليس مع القضية”.
من الجدير بالذكر أنَّ القوى الوطنية و الديمقراطية ومنظمات المجتمع المدني في تونس طرحت منذ بداية الشروع في إعداد الدستور التونسي الجديد مشروع قانون تجريم التطبيع في تونس،لكن الذي وتصدَّى لإحباط هذا المشروع داخل المجلس الوطني التأسيسي (البرلمان في دورته 2011-2014 ) هي حركة النهضة الإسلامية (فرع من تنظيم الإخوان المسلمين العالمي )، نظرا لارتباطاتها الإقليمية مع دولتي قطر وتركيا،وتحالف حركات الإسلام السياسي الاستراتيجي مع الولايات المتحدة الأمريكية، إذ إنَّ أول زيارة قام بها الشيخ راشد الغنوشي بعد فوزالإسلاميين في انتخابات 23أكتوبر 2011، كانت لواشنطن، حيث التقى في ديسمبر 2011 قادة منظمة الإيباك الصهيونية،اللوبي الصهيوني المؤثر داخل الكونغرس الأمريكي.
في سيرورة هذه الانتفاضة الفلسطينية الثالثة،عادت القوى الوطنية والديمقراطية ومنظمات المجتمع المدني في تونس من جديد لطرح مشروع قانون تجريم التطبيع في تونس داخل البرلمان لكي يصبح منصوصًا عليه في الدستور،مرتكزة هذه المرّة على قول الرئيس التونسي قيس سعيَّدْ “التطبيع خيانة قومية”،التي ردَّدها قبيل انتخابة، وبعد توليه مهامه في رئاسة الجمهورية التونسية.
تقول بعض المصادر المقربة من حركة النهضة، وتحديدًا الإعلامي التونسي صلاح الدين الجورشي ، أنّه: “في ظلّ التطورات التي تشهدها الساحة الفلسطينية، فإنّ حركة “النهضة” أصبحت مستعدة للتصويت على هذا المشروع، ولم تعد قادرة على رفض ذلك، خصوصاً أن الأغلبية الواسعة داخلها أصبحت متحمسة أكثر من أي وقت مضى لقطع الطريق أمام المطبّعين، حتى لا تتهم بكونها وقفت ضد الإرادة الشعبية، وذلك على الرغم من وجود أصوات داخلها لا تزال تدعو إلى التريّث والتفكير”.
واعتبر الباحث في القانون الدستوري وعضو المجلس الوطني التأسيسي رابح الخرايفي أنَّ “حركة النهضة ستوافق على مشروع قانون تجريم التطبيع الذي سبق أن رفضته في فترة كتابة الدستورعام 2013، وذلك لمجاراة المزاج الشعبي ولإحراج الرئيس قيس سعيد . .وستعمل حركة النهضة وحلفاؤها على تمرير مشروع قانون تجريم التطبيع مع دولة الاحتلال الصهيوني مستغلة في ذلك المزاج الشعبي الهائج وحماس مقدمي المشروع حركة الشعب أساسًا وخطأ قيس سعيد عندما عبر أمس في فرنسا في قناة فرنسا 24 أنه “يكره لفظ تجريم التطبيع”
فعندما يصادق النواب على مشروع قانون تجريم التطبيع تكون الحركة قد سايرت المزاج الشعبي الهائج وتجنبت الاحراج الشعبي والسياسي من معارضة القانون ،وألقت بذلك بالجمرة إلى يد الرئيس قيس سعيد، فإنْ امتنعَ عن الامضاء ونشر مشروع القانون فيكون قد “خان القضية” وأصبح في واد دعم الاحتلال الصهيوني والتعامل معه، وإن ختم مشروع القانون ونشره بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية فإنَّ الدولة التونسية ستعاني مشاكل سياسية ومالية جمة.، بسبب حاجتها الماسة إلى قرض بقيمة 4مليار دولار من صندوق النقد الدولي ، الذي تتحكم فيه أمريكا و إسرائيل.
أمًا على الصعيد الرسمي،ورغم أنَّ تونس لا تزال مرتبطة في سياستها الخارجية بالمحور الغربي،وبما أنها تشغل في الوقت الحاضر مقعدًا غير دائم في مجلس الأمن،(الدولة العربية الوحيدة في المجلس)، فقد ندَدت بالعدوان الصهيوني الغاشم على الشعب الفلسطيني، وتقدمت بطلب لعقد جلسة لمجلس الأمن، في 10 مايو2021، للتداول بشأن التصعيد الخطير لسلطات الاحتلال في الأراضي الفلسطينية، وخاصة في القدس. وأشار بيان لوزارة الخارجية التونسية إلى أنّ “الطلب تم بالتنسيق مع الجانب الفلسطيني، وبدعم من كل من الصين، الرئيس الحالي للمجلس، والنرويج، وأيرلندا، وفيتنام، وسانت فانسنت، وغرينادين، والنيجر (الأعضاء في المجلس)”، وأن نقاش المجلس سيكون “حول انتهاكات إسرائيل في القدس والمسجد الأقصى، واعتداءاتها على الفلسطينيين، وإصرارها على سياساتها التوسعية من مخططات استيطانية وهدم وانتزاع للبيوت، وتهجير للعائلات الفلسطينية، وقضم للأراضي وطمس للهوية التاريخية والحضارية للمدينة المقدسة”، لكنَّ أمريكا الحليف الاستراتيجي للكيان الصهيوني ،أحبطت هذا المسعى.
الخبراء و المحللون في تونس،وفي الوطن العربي، يطرحون السؤال التالي ،هل إنَّ السياسية الخارجية التونسية مقبلة على تحولات في بوصلتها الدولية في ظل هذه الانتفاضة الفلسطينية؟ وهل يمتلك الرئيس التونسي قيس سعيد الذي يتولى مهام إدارة السياسة الخارجية ،استراتيجية وطنية وفكر سياسي راديكالي لتحويل الدولة الوطنية التونسية من موقع خاضع للسيادة الرأسمالية الأوروبية -الأمريكية إلى موقع متمرد على هذه السيادة،وإعادة فتح الحقل التاريخي العربي المقاوم للمشروع الإمبريالي الأمريكي والمشروع الصهيوني ،لا سيما أنَّ إعادة بناء الدولة الوطنية الديمقراطية التعددية في تونس هو التحول إلى ثورة وطنية جذرية قادرة على التحرروالانعتاق كُلِّيًا من الحقل السيادي للهيمنة الغربية الأوروبية والأمريكية؟.
في الواقع لا يمتلك الرئيس الجديد برنامجًا سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًاوطنيًا ،ما عدا كلمة “أنَّنِي لا أَبِيعُ وَهْمًا” وهي كلمة عاطفية جدًّا تَدْخُلُ في وِجْدَانِ الشَعْبِ، بِفِعْلِ ما عاناه المواطن من إِحْبَاطٍ جرّاءِبيع الوعود،بل و من جهة أخرى يَدْخُلُ في الْمَحْظُورِوَفِي الْوُعُودِ عندما يعترف بكل الاتفاقيات، و لا سيما اتفاقية الآليكَا مع الاتحاد الأوروبي ، التي تشترط الاعتراف بدولة “اسرائيل”. فهل اطلع الرئيس الجديد على تلكم الاتفاقية؟.

فلسطين المحتلة لا تزال قضية عربية

تؤكد ردود الأفعال التي انطلقت في أكثر من عاصمة عربية منددة بالعدوان الصهيوني الغاشم على غزة، ومؤيدة في الوقت عينه لخيار المقاومة ،أنَّ قضية تحرير فلسطين ومجابهة العدو الصهيوني لا يزالان على برنامج جدول أعمال الأمة العربية.
“إسرائيل واقع استعماري؟”،هذا ما تجاسر على طرحه مكسيم رودنسون عام 1967. وقد أجمع المثقفون العرب من اليمين واليسار على أن إسرائيل هي جزء من “الظاهرة الاستعمارية” الأوروبية. وقد تبنى هذا الموقف العالم الثالث على أوسع نطاق. ويحار المرء في الانتقاء من بين التأكيدات العربية. فها هو عبد الناصر في كتابه “فلسفة الثورة” يحكي أفكاره كضابط في الثلاثين من العمر عند عودته من حرب فلسطين عام 1948: “لقد كان ذلك كله على توافق طبيعي مع الرؤيا التي رسمتها في ذهني التجربة. (فالمشرق العربي) يشكل منطقة واحدة تعمل فيها الظروف نفسها والعوامل نفسها وحتى القوى نفسها المتألبة عليها جميعاً. ومن البديهي أن تكون الإمبريالية أبرز هذه القوى. ولم تكن إسرائيل ذاتها سوى نتيجة من نتائج الإمبريالية”.
إسرائيل في نظر العرب قاعدة امبريالية أقامتها في الشرق الأوسط الإمبريالية البريطانية بالاتفاق مع الإمبرياليات الأخرى. وهي جزء من النظام الإمبريالي العالمي. ونشاطها في العالم هو منذ وجودها مرتبط بالنشاط الإمبريالي سواء أكان لمصلحتها الخاصة أو لحساب الإمبرياليات الأوروبية والأميركية. هذا هو على الأقل التصور الأكثر شيوعاً في العالم العربي. ويشعر العرب من محيطهم إلى خليجهم بالمهانة من جراء فرض عنصر غريب في قلب أمتهم تسانده قوى العالم الأوروبي – الأميركي.
وفي 14 أيار/مايو 1948 رفع قادة الصهيونية في واشنطن، على مبنى الوكالة اليهودية راية بيضاء ذات نجمة زرقاء سداسية، كمركز لتأسيس دولة إسرائيل. وفي اليوم التالي، 15 مايو، بدأت الحرب العربية – الصهيونية، التي تمخضت عن احتلال إسرائيل لمساحات من الأراضي تزيد كثيراً على تلك التي خصصت لها بموجب قرار التقسيم رقم 181 الصادر بتاريخ 29 نوفمبر 1947. وكان رؤساء إسرائيل يطمعون من وراء تنفيذ سياسة المذابح الجماعية ضد العرب، بوصفها السياسة الرسمية للدولة اليهودية الجديدة، التي بدأها الصهاينة في سنوات الحرب ـ توطيد سيطرتهم على الأراضي العربية، بعد تطهيرها من سكانها الأصليين، أي الفلسطينيين.
وهكذا ظهرت مشكلة اللاجئين الفلسطينيين الذين طردوا قسراً من أرضهم وعددهم 850 ألف فلسطيني، كانوا يمثلون في عام 1948 نحو 61 في المئة من الشعب الفلسطيني البالغ تعداده نحو مليون ونصف مليون شخص، توزع ثمانون في المائة من هؤلاء اللاجئين في الضفة وقطاع غزة، بينما توزع الباقي عشرون في المائة في البلدان العربية المجاورة (حسب الإحصاءات الرسمية لهيئة الأمم المتحدة).
وما أن تأسست الدولة الصهيونية، حتى أعلن بن غوريون رئيس وزراء الحكومة الصهيونية في الأيام الأولى لرئاسته، أن تأسيس إسرائيل ليس سوى بداية للنضال من أجل تأسيس الدولة اليهودية “من النيل إلى الفرات”. ولم ينكر أن دولة إسرائيل ليست هدفاً بحد ذاتها، بل وسيلة لتحقيق الهدف. إن تشكيل دولة إسرائيل على أرض فلسطين العربية هو نتيجة لتطور يمكن إدراجه تمامًا في حركة التوسع الاستعماري الأوروبية والأميركية في القرنين التاسع عشر والعشرين للسيطرة الاقتصادية والسياسية والعسكرية على الأمة العربية. فقد تم إسكان اليهود الصهاينة على أرض فلسطين من ناحية، وتم إجلاء السكان الأصليين أي الفلسطينيين الذين أُجبِروا بقوة السلاح الأوروبي على الارتحال، والتشرد من ناحية أخرى.

خاتمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة:

من وجهة نظر الايديولوجيا القومية العربية المعاصرة لا تزال قضية فلسطين قضية قومية عربية،لا قومية سورية أو فلسطينية. وهذا يعني أنَّ احتلال فلسطين، ليس اعتداء على فلسطين حدود سايكس ـ بيكو، ولا على سكان فلسطين الذين صورتهم خريطة الاحتلال البريطاني، إنَّه اعتداء على الوطن العربي كله، إذا اعتبرنا الوطن العربي واحداً، والأمة العربية واحدة، رغم حدود سايكس ـ بيكو وكل حدود الاحتلال الاستعماري.
لقد كان من صلب المشروع الإمبريالي ـ الصهيوني،أنْ تتعامل قيادات الأقطار العربية مع كل قطر باعتباره وطناً، وأنْ تتعامل قيادات الطوائف كل باعتبار طائفتها “وحدة تامة”، فإذا ما انسجمنا مع هذا المطلب، انسجمنا مع المخطط الامبريالي – الصهيوني. إنَّ الحل الصحيح لتحرير فلسطين هو الحل القومي، والحل القومي يجب أنْ يغلبَ، لأنَّه الحل الوطني الوحيد. أمَّا الحل القطري فهو التصفية، وهو ليس حلاً وطنياً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى