فشل النموذج الديمقراطي التونسي

لم يعد نموذج الانتقال الديمقراطي التونسي الذي شكل قصة النجاح الوحيدة فيما يسمى “بربيع الثورات العربية”،يثير الإعجاب عربيًا و عالميًا،فمعيار إنجاز انتخابات حرة ونزيهة في الأعوام 2011 و2014 و2019، ودستور ديمقراطي جديد في العام 2014،لم يعد معيارًاكافيًا، مادام الشعب التونسي أصبح يعيش في حالة محبطة من الإكتئاب واليأس والفقر الشديد ،بسبب عجز المنظومة السياسية التي حكمت البلاد منذ سنة 2011،ولغاية اليوم،عن تحقيق التقدم سواءً في الاقتصاد أم في السياسة.
فالاقتصاد يعاني ،منذ سنوات عدة، من انخفاض النمو وارتفاع البطالة، إضافة للإسقاطات المدمرة لجائحة كورونا في موجتها الثالثة حيث اقترب عدد الوفيات من حدود المائة يومياً في تونس. أما على الصعيد السياسي،فتشهد تونس انسدادًا سياسيًا طال أمده،يتمحور حول الصراع القائم بين الرئاسات الثلاث (رئاسة الدولة في قصر قرطاج –ورئاسة الحكومة في قصر القصبة –ورئاسة البرلمان في قصر باردو)، باردو،وهو ما يعكس أزمة نظام الحكم ،وإخفاق التجربة الديمقراطية.
وتشيع منظومة الحكم القائمة منذ عشر سنوات،عن محاولة الرئيس قيس سعيد الانقلاب والتفرد بالحكم والرجوع إلى الوراء عبر ترسيخ نظام دكتاتوري، لكن هذه المنظومة المتكونة من تحالف الإسلام السياسي ممثلاً بحركة النهضة بزعامة راشد الغنوشي دخلت في سلسلة مشاريع “شراكة” مع الزعيمين الجديدين “للمنظومة القديمة” الباجي قائد السبسي ونجله حافظ قائد السبسي ورفاقهما في حزب “النداء” بزعامة رجل الأعمال والإعلام نبيل القروي. ثم تحالفت النهضة مع “المتمردين” على قائد السبسي وابنه بزعامة رئيس الحكومة ومؤسس حزب “تحيا تونس” يوسف الشاهد ثم مع مؤسس حزب “قلب تونس” نبيل القروي. وتسبب تحالف قيادة النهضة مع القروي وحزبه بعد انتخاب منافسه قيس سعيد رئيسا للدولة بنسبة 73 بالمائة في تشرين الأول (أكتوبر) 2019 في سلسلة من الأزمات داخلها وفي علاقتها بمؤسسات الدولة.
فعن أي ديمقراطية يدافع عنها الإسلام السياسي وحلفائه من بقايا حزب نداء تونس، ويمكن القول بصفة عامة أن مقولة الديمقراطية أضحت قضية خلافية في الجدل التونسي الداخلي . فأحزب منظومة الحكم القائمة باتت ترى في الديمقراطية مجرد إجراء الا نتخابات وفق المنظور الليبرالي ، باعتبارها تعبد لها الطريق للوصول إلى السلطة ، نظرًا لإمتلاكها الماكينات الحزبية ، والمال السياسي الفاسد ، لكي تصبح الديمقراطية من وجهة نظرها جزء من أيديولوجية الهيمنة التي تسعى الدول الغربية إلى فرضها على العالم العربي، ومنها تونس .
وهناك من يؤكد في تونس على ضرورة تحلل مفهوم الديمقراطية من إطاره الرأسمالي من خلال إعطاء عملية التحوّل الديمقراطي توجها وطنياً (أي معاد للإمبريالية) ومضمونا اجتماعياً (أي معاد للبرجوازية في الداخل).وهذا النهج السياسي و الاقتصادي ، تعاديه كليا منظومة الحكم القائمة .
كذبة التحول الديمقراطي وتفاقم الصراع حول تفسير الدستور
لم تتمكن المنظومة السياسية، حتى تاريخ اليوم،من ترجمة نتائج الانتخابات النيابية التي جرت في 2011، و2014، و2019،إلى تشكيل حكومة فعّالة قادرة على إنقاذ البلاد.ورغم أنَّ الانتخابات الرئاسية والنيابية في العام 2019 أسفرت عن نتائج غير معهودة.فقدْ أوصلت الرئيس قيس سعيَّدْ إلى قصر قرطاج بنحو ثلاثة ملايين صوت من التفويض الشعبي تقريبًا، من دون أن يملك الرئيس سعيَّدْ خبرة سابقة في الحكم ولاقاعدة سياسية منظّمة، فضلاً عن برلمان متكون من كتل برلمانية متشظية، ومتناقضة إيديولوجيا وسياسيا فيما بينها، وغير قادرة على الاتفاق على تركيبة حكومة جديدة.
وتعيش تونس منذ إقرار دستور 2014، في ظل نظام سياسي هجين وشاذ،شبه برلماني –شبه رئاسي،فُصِّلَ على مقاس حركة النهضة لكي تبقى أقصى مدى ممكن في السلطة،ونجم عنه “الصراع المحتدم” بين رئاسة الجمهورية بقيادة قيس سعيَدْ، ورئاسة الحكومة بقيادة هشام المشيشي،ورئاسة البرلمان بقيادة راشد الغنوشي،وهو الصراع الذي قاد إلى شَلِّ عمل مؤسسات الدولة التونسية،ويهدد بتلاشيها،الأمر الذي يؤكد مرة أخرى ضرورة التخلي عن هذا النظام السياسي الهجين والتوجه نحو نظام رئاسي جديد متوازن ( وليس نظام رئاسوي سلطوي)،يضمن وحدة السلطة التنفيذية ويخلص الحكومة من قبضة الأحزاب.
ورغم أنَّ الرئيس سعيَّدْ عمد إلى تعيين هشام المشييشي لتشكيل الحكومة ،وحصول هذه الحكومة على حزام سياسي متكون من حركة النهضة (54 نائبًا، حيث تراجع نسبة التصويت لها من 27.8 في المئة في الانتخابات النيابية للعام 2014 إلى 19.6 في المئة في العام 2019 )، ومن كتلة إئتلاف الكرامة التنظيم السلفي الذراع اليمنى لحركة النهضة، ومن حزب قلب تونس الذي يقبع زعيمه في السجن بسبب شبهة الفساد وتبييض الأموال الذي تلاحقه،فإنَّ الصراع دبَّ بين قطبي السلطة التنفيذية ،منذ إعلان المشيشي في 16 يناير /كانون الثاني 2021، تعديلاً حكوميًا صادق عليه البرلمان لاحقا.لكنَّ حتى اليوم، لم يوجه الرئيس سعيد دعوة إلى الوزراء الجدد لأداء اليمين الدّستورية أمامه، معتبرا أن التعديل شابته “خروقات”، وهو ما يرفضه المشيشي.
ويشهد المشهد السياسي التونسي في الوقت الحاضر جدلاً دستوريًا كبيرًا،بسبب المواقف التي أعلنها رئيس الجمهورية التونسية قيس سعيَّدْ في خطابه يوم الأحد 18أبريل/نيسان 2021، إذ قال خلال إشرافه على موكب الاحتفال بالذكرى الـ65 لعيد قوات الأمن التونسي الداخلي،وبحضور رئيس الحكومة هشام المشييشي، ورئيس البرلمان راشد الغنوشي، إنَّ “رئيس الجمهورية هو القائد الأعلى للقوات المسلحة العسكرية والأمنية”.وأضاف: ”جئتكم بالنص الأصلي للدستور الأول الذي ختمه الحبيب بورقيبة عام 1959، وينص على أنَّ رئيس الجمهورية هو القائد الأعلى للقوات العسكرية، وجئتكم بنص الدستور الذي ختمه المرحوم الجلولي فارس عام 1982، وينص الفصل 46 منه على أن رئيس الجمهورية هو القائد الأعلى للقوات المسلحة العسكرية”.
يقول الباحث في القانون الدستوري وعضو الجمعية العربية للعلوم السياسية والقانونية رابح الخرايفي في تصريح خاص لـ”عربي21″؛ إن “الحقيقة هو أن خطاب رئيس الجمهورية اليوم حمال أوجه عديدة، وخطاب ليس مرتجلا ككل الخطابات التي سبقته”.وتابع: “خطاب مكتوب مركز يريد إبلاغ رسائل سياسية وقانونية دستورية”.
وعن الجانب الدستوري، يوضح الباحث أن خطاب “سعيد أمام كل التشكيلات الأمنية وبحضور رئيس الحكومة، ورئيس مجلس نواب الشعب، وفي ذلك تعمد مخاطبتهم بلغة ومنهجية المدرس، الخطاب بمنزلة إعلام لهم صراحة بتفسيره للفظ القوات المسلحة التي وردت بالفصل 17 من الدستور، وهو قائدها وفق الفصل 77 من ذات الدستور”.
وعن مدى صحة تفسير الرئيس يَرُدُّ الخرايفي:”هذا تفسير صائب،لأنَّ الدستور لم يتحدث عن قوات عسكرية أو جيش،بل تحدث عن قوات مسلحة وهي لفظ شامل لم تكن صياغته للتفريد، واللفظ العام في القانون يجري على عموميته وفق ما جاء في قواعد التفسير في الفصل 533 من مجلة التزامات وعقود”.
من جانبه قال أستاذ القانون الدستوري عبد الرزاق مختار في قراءة قانونية،إنَّ “الخطاب في حد ذاته مليء بالإيحاءات السياسية، لم يكن خطابا كما كان معهودًا في مثل هذه المناسبات، الخطاب فيه نوع من التجييش إذ لا يمكن أن يكون خطاب كهذا في مناسبة كهذه”.
وعما أثاره الرئيس قيس سعيد، أوضح أستاذ القانون الدستوري في حديث لـ”عربي21″: “هناك خلاف واضح وتنازع اختصاص دستوري في مسألة التعيينات وفق النص لسنة 2015، الذي يعتبره غير دستوري، والحال أنه ليس له التقدير الدستوري من عدمه، ولا تغليب نص على نص وهذا خطير جدًّا. الرئيس يطرح نفسه اليوم مؤولا ورقيبا على الدستور، ويعتبر هذا نصا يطبق وهذا لا يطبق، وهي في الأصل مهام المحكمة الدستورية والقضاء، وليس مهام الرئيس”.
وفي نطاق ردِّه على خطاب الرئيس سعيَّدْ، أصدرت حركة النهضة الإسلامية يوم الثلاثاء 20أبريل/نيسان 2021، بيانًا جاء، فيه:إنَّها”تستغرب عودة رئيس الدولة إلى خرق الدستور واعتبار وثيقة ملغاة (الدستور القديم) مصدراً لتبرير نزوعه نحو الحكم الفردي”.واعتبرت النهضة في بيان لها “إعلان رئيس الدولة نفسه قائداً أعلى للقوات المدنية الحاملة للسلاح دوساً على الدستور وقوانين البلاد وتعدياً على النظام السياسي وعلى صلاحيات رئيس الحكومة”.
وأكدت النهضة أن” إقحام المؤسسة الأمنية في الصراعات يمثل تهديداً للديمقراطية والسلم الأهلي ومكاسب الثورة”، مشددة على رفضها ما وصفته بـ”المنزع التسلطي لرئيس الدولة وتدعو القوى الديمقراطية إلى رفض هذا المنزع واستكمال البناء الديمقراطي وتركيز المحكمة الدستورية”.
ويزداد الصراع احتدامًا بين الرئاسات الثلاث نتيجة تفاقم أزمة المحكمة الدستورية تعقيداً،فغياب المحكمة دستورية القادرة لوحدها للتحكيم في الخلاف المتصاعد بين رأسي السلطة التنفيذية والبرلمان وتنازع الصلاحيات والاختصاصات،يزيد من تفاقم أزمة الحكم في البلاد.
ويعيب رئيس الحكومة والبرلمان استئثار الرئيس سعيد بتأويل الدستور في غياب المحكمة الدستورية القادرة على الفصل في معاني أحكام الدستور وبنوده، وخصوصاً برفض الرئيس التعديل الوزاري الأخير وعدم دعوته الوزراء المصدَّق عليهم من البرلمان نهاية شهر يناير/كانون الثاني الماضي لموكب اليمين الدستوري، ورفعه “فيتو” أمام تعديل قانون المحكمة الدستورية، الذي مرره مجلس الشعب وأعاده لقراءة ثانية.
لماذا تأخر استكمال المؤسسات الدستورية وتحديدًا المحكمة الدستورية؟
منذ استقلالها سنة 1956،لم تعرف الدولة التونسية طيلة تاريخها الحديث والمعاصر المؤسسات والهيئات الدستورية المستقلة. ولم تعرف تونس طيلة زمن ما قبل الثورة هذا الصنف من المؤسسات الدستورية، حيث كانت تستأثر السلطة التنفيذية بمختلف السلطات، وتتمتع بكل الصلاحيات، فلم يكن رئيسها، وهو رئيس الجمهورية، إلا الحاكم الأول والأخير في البلاد. ويأتي إحداث هذا الصنف الجديد من المؤسسات في إطار تكريس مفهوم جديد للسّلطة يتجاوز الأطر الكلاسيكية للمفهوم القديم للفصل بين السلطات.
ونَصَّ دستور 2014على إحداث خمس هيئات دستورية مستقلة، ولكن بعد مرور ست سنوات منذ إقرار الدستور، لم تتشكل المحكمة الدستورية،بوصفها هيئة قضائية مستقلة، ضامنة لعلوية الدستور وحامية للنظام الجمهوري الديمقراطي وللحقوق والحريات.وينص الفصل 118 من الدستور التونسي، على أنّ “المحكمة الدستورية، هيئة قضائية مستقلة، تتكون من اثني عشر عضواً من ذوي الكفاءة، ثلاثة أرباعهم من المختصين في القانون، الذين لا تقل خبرتهم عن عشرين سنة.ويعيّن كل من رئيس الجمهورية، ومجلس نواب الشعب، والمجلس الأعلى للقضاء، أربعة أعضاء، على أن يكون ثلاثة أرباعهم من المختصين في القانون. ويكون التعيين لفترة واحدة مدّتها تسع سنوات”. ويجدَّد ثلث أعضاء المحكمة الدستورية كلّ ثلاث سنوات. وينتخب أعضاء المحكمة من بينهم رئيسًا ونائبًا له من المختصين في القانون.
طيلة السنوات الست الماضية، لم ينجح البرلمان التونسي في تجاوز أزمة المحكمة الدستورية، لأنَّ جميع الأحزاب والأطراف السياسية طالما أكدت حرصها على إرساء المحكمة الدستورية وأهميتها في تجنيب البلاد الأزمات والخلافات التي تعيشها، ولكن لم يبادر أي طرف بشكل فعلي ،ولم يتنازل من أجل التعجيل بإحداثها.فقد تحولت المحكمة الدستورية إلى وسيلة لابتزاز الخصوم وآلية من وسائل الخلاف السياسي ، لا سيما في ضوء الصراع الدائر بين أحزاب الحكم (حركة النهضة، ائتلاف الكرامة، وقلب تونس) الذين يشكلون الحزام السياسي لحكومة المشيشي ،وحزام رئيس الحكومة البرلماني مع رئيس الجمهورية ، بينما يُعَدّ دورالمحكمة الدستوري الحسم في الخلافات.
ويواصل مجلس الشعب الدوران في حلقة مفرغة، بعدما اختار التأجيل، أخيراً، حلاً لتفادي المجازفة بجلسة انتخابية لاختيار بقية أعضاء المحكمة الدستورية بسبب يقين رئيس البرلمان راشد الغنوشي، بعدم توافر الأغلبية الكافية لانتخاب أي عضو آخر من الأعضاء الثلاثة المطلوب انتخابهم.ويبدو أن البرلمان لم يعد عاجزاً فقط عن جمع الثلثين (145 نائباً( للانتخابات، بل أصبح عاجزاً عن جمع الأغلبية المعززة (131 نائباً) للتصويت على رد الرئيس سعيد الذي رفض، أخيراً، تعديلات قانون المحكمة الدستوريّة التي بمقتضاها خفض البرلمانيون من الأغلبية المطلوبة للتصويت لتجاوز العقبة الانتخابية.
الحاجة إلى برنامج إصلاحي جذري لمحاربة الفساد
كل الحكومات التونسية المتعاقبة منذ سنة 2011 و لغاية حكومة المشيشي الحالية، فشلت فشلاً ذريعًا في مقاومة الفساد المستشري في منظومة الحكم ،وفي القمارق،وفي الموانىء التونسية، لا سيما مينائي رادس وسوسة،وفي وزارة التجارة الداخلية التي تمنح الرخص لرجال الأعمال الفاسدين، وفي الإدارات التونسية المحترفة في إبقاء ملفات الفساد نائمة في الأدراج، و في مؤسسة القضاء التونسي – حيث كان هذا موضوعاً أساسياً في الانتخابات الأخيرة – لكنه ليس كافياً.
فالقضاء في تونس مُسيَّسٌ، وكلّ المراكز الحسّاسة ضمنه، تُعيَّن بموجب مرسوم صادر عن الحكومة، علماً أنّنا لو كنا في بلدٍ طبيعي نوعاً ما لا مشكلة بذلك، لكن طالما أننا نعيش في دولة تشكّل فيها الحكومات بطريقة المحاصصة الحزبية ، فعندها تصبح التعيينات بأسلوب المحاصصة السياسية، والتعيينات القضائية جزء منها.فالتدخل السياسي في عمل القضاء التونسي من جانب حركة النهضة الإسلامية ،موجود دائماً،لمنع وصول القضاء إلى كشف الحقيقة عن جرائم الاغتيالات السياسية،وكذلك عدم كشف ملفات الفساد ، ويحصل بشكل مسبق واستباقي، حتى التشكيلات القضائية صدرت عن مجلس القضاء الأعلى المُسيّس بدوره، والمعيّن من الحكومة .من هنا فإنّ كل ملف فساد يفتح، ينظر حكماً إلى القاضي الذي يثيره وتبعيته السياسية.
والحل يبقى بإقرارقانون استقلالية القضاء، وهو مطلب أساسي للثورة التونسية ،ولأي برنامج إصلاحي حكومي،حيث إنَّ القضاء يمكن أن يكون مفتاحاً لملاحقة المتظاهرين والناشطين وادعاءات النيابات الفارغة، وأن يكون وسيلة قمع بيد السلطة السياسية، ويمكن أن يكون في المقابل وسيلة محاسبة بيد الشعب التونسي للإرهابيين و الفاسدين ،واللصوص السياسيين من وزراء ونواب ورجال أمن ورجال جمارق،ورؤساء الإدارات ، الذين يساهمون في تسهيل الفساد، والتستر عليه.
 تونس تحتاج اليوم إلى عقد اجتماعي جديد:
إن العقد الاجتماعي الجديد في تونس يتمثل في تحقيق انتظارات الشعب التونسي عبر ميلاد حكومة وطنية(لأن كل الحكومات المتعاقبة التي عرفتها تونس منذ سنة 2011و لغاية الآن، كانت حكومات غير وطنية، وجاءت للمحافظة على منوال التنمية الاقتصادي القديم،ومن أجل خدمة مصالح مافيات الفساد ولوبيات الطبقة السياسية الحاكمة المرتبطين بالمحاور الإقليمية والدولية المعادية للثورات الديمقراطية الجذرية) تلتزم ببرنامج وطني ينطلق من الأمور التالية:
أولاً:التحرّر من التبعية للمؤسسات الدولية المانحة ولشركاء تونس من الدول الغربية، لأن التبعية قادت إلى تعطيل الإرادة الوطنية للدولة التونسية وفقدانها السيطرة على شروط إعادة بنائها من جديد بعد سقوط النظام الديكتاتوري السابق. فنجاح أي حكومة وحدة وطنية في تونس ، يحتاج إلى بلورة استراتيجية وطنية لمعالجة الأزمات الرَّاهنة، وفى مُقدَّمتها: التَّركيزُ على القطاعات الإنتاجيَّة، والتركيز على الزراعة التي تُغذي الصناعات الإستراتيجيَّة، وتعديل مؤسَّسات السياحة ومؤتمراتها، وتنمية الاستثمارات في الولايات الفقيرة و المحرومة تاريخيا من التنمية ، وترميم الطُّرق والسِّكك الحديديَّة، والتزام حكومة الوحدة الوطنية بالحوكمة الرشيدة. كما أنَّه من الضَّروريِّ أن تلتزمَ الحكومة بترشيد الثروات العامَّة، وتحسين الانتفاع بالقُدرات الذاتية للشعب، وضبط آليات الأسعار وموازين المدفوعات، والالْتزام بالنُّظُم الأكثرِ شفافيةً، لمنعِ الفساد الإداريِّ والمصرفيِّ، وحسن إدارة الممتلكات المؤمَّنة – إن وجدت – وتطوير النُّظُم التكنولوجية ، وإضفاء طابع اللاَّمركزيَّة على الحُكم المحلي، وجعل السلطات الإقليميَّة أكثرَ خضوعًا للرَّقابة والمحاسبة، لضمان نزاهتها، وحظر الفساد الأجنبيِّ الخارجي في الأسواق الوطنية.
ثانيًا:تأسيس تنمية اقتصادية مستدامة في البلاد من نوع آخر ،مكان النظام الاقتصادي المهترء و الفاقد لكل صلاحية وشرعية ، تنطلق من بناء الاقتصاد الاجتماعي التضامني ، ومن خلال هذا الخيار ، لا يمكن التعويل على قوى السوق وآلياته في تحقيق هذا الهدف، حيث إن المطلوب هو التحرر من القيود الرأسمالية العالمية، لأن منافعها تعود إلى الطرف الأقوى على حساب الطرف الضعيف، فتزيد القوي قوة، والغني غنى، وتزيد الضعيف ضعفاً، والفقير فقراً. ويصح ذلك على العلاقات داخل الدولة، وفي العلاقات الدولية.
ثالثًا:الانطلاق من مفهوم الاعتماد على النفس، وإعادة الاعتبار إليه، وإعادته إلى النسق المجتمعي بدلاً من النطاق الفردي، دون الانعزال، ودون الوقوع في فخ التبعية. فسياسات الحكومات التونسية المتعاقبة منذ 2011 و لغاية الآن، توضع انطلاقا من تلبية شروط المؤسسات الدولية المانحة، وليس انطلاقاً من تحقيق انتظارات الشعب التونسي و أهداف الثورة ،كما أن السياسات ترسم في ضوء تكريس الاعتماد على المعونات المالية و التكنولوجية الغربية ،لا اعتماداً على تعبئة الموارد المحلية و الادخار الوطني، و استعادة الأموال المنهوبة، وفرض تطبيق العدالة الجبائية ومحاربة الفساد .وبالتالي فإن سياسات حكومة الوحدة الوطنية المقبلة، لا تطرح موضوع فك الأواصر مع نهج التبعية، من أجل وضع تونس على طريق التنمية الحقيقية، و إنما بهدف إيقاع البلاد في دائرة التبعية للمراكز الرأسمالية الغربية.
رابعًا:القيام بالإصلاح الاقتصادي والاجتماعي الذي ينطلق من سياسات التنمية الشاملة والمستدامة، وتحقيق هدف زيادة معدلات النمو الاقتصادي مع تحقيق عدالة التوزيع, والعدالة الاجتماعية، وحُسن توزيع الدخل والثروات،و ترشيد كفاءة السياسات الاستثمارية،و التفاعل الإيجابي بين التوجه التنموي للدولة والمشروع الخاص، وتحقيق العلاقة الإيجابية بين فوائد السوق والتدخل الحكومي ،و إدارة عملية التقدم التكنولوجي والمعرفة، بما في ذلك إصلاح التعليم ، والتوجه على نحو عملي وفعال لمعالجة مشكلة الأمية والبطالة في المحافظات الفقيرةالتي عانت من التهميش وغياب مشاريع التنمية،من أجل منع استقطاب الشباب المهمش والعاطل عن العمل من قبل التنظيمات الإرهابية.
خاتمــــــــــــــــة:
هناك مغالطة كبيرة تقوم بها منظومة الحكم بقيادة حركة النهضة ، تُحَمِّلُ فيها الرئيس قيس سعيَدْ مسؤولية قيادة الانقلاب المدني على الدستور،وبالتالي على الديمقراطية، بوصفه اليوم رأس حربة للقوى المعادية للمسار الديمقراطي من شعبوية وفاشية وقوى وظيفية التي ترى في الديمقراطية تهديدًا وجوديًا.
ولا يخفى تقاطع هذا التوجه مع أجندات إقليمية ودولية تنتصر للدكتاتورية، في إشارة واضحة إلى الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس سعيد إلى مصر، وهو ما جعل موقع “المونيتور” الأمريكي يرى في تلك الزيارة “محاولة من قيس سعيد لتدويل خلافه الداخلي مع حركة النهضة، وكأنَّه يطلب الدعم من الرئيس المصري (عبد الفتاح السيسي) في هذا الملف”. كذلك اعتبر الموقع أنَّ “الفجوة مستقبلاً بينه (سعيد) وبين حركة النهضة ستتعمق أكثر فأكثر”.
يحاولُ رئيس “النهضة”، رئيس البرلمان التونسي، راشد الغنوشي، تجنب أن تصطدم حركته مرة أخرى برئاسة الجمهورية. صحيح أنَّ قواعد اللعبة بعد الثورة تغيرت كثيراً، لكنَّ مواصلة الاشتباك مع سعيّد لن تكون في مصلحة “النهضة”. فالرئيس، وإن كانت صلاحياته محدودة، إلا أنه قادر على تعطيل الحياة السياسية، كما أن بإمكانه إزعاج الحركة وأن يتسبب لها بمشاكل عديدة، على حدّ قول الكاتب السياسي صلاح الدين الجورشي .

لكي تصبح تونس نموذجًا ديمقراطيًا على الصعيد العربي ، فإنَّها بحاجة إلى إصلاح جدّي من أجل تعزيز التنمية الاقتصادية وذلك عبر إرساء منوال تنمية جديد،وترشيد العملية السياسية،عبر إصلاح المنظومة السياسية للحؤول دون تكرار نتائج الانتخابات النيابية للعام 2019، والتي أفضت إلى دخول نحو 20 حزباً سياسياً إلى الندوة البرلمانية، ناهيك عن القوائم المستقلة. وقد حصل حزبان فقط، هما النهضة وحزب قلب تونس بزعامة نبيل القروي، على أكثر من 7 في المئة من الأصوات. وتمكّن ثلاثة عشر حزباً، وهذا عدد كبير، من دخول مجلس النواب بأقل من 3 في المئة من الأصوات. هذا ليس وضعاً سليماً في منظومة ديمقراطية، وينبغي على تونس أن تنظر في تحديد عتبة للتمثيل النيابي، الأمر الذي من شأنه أن يُرغم الأحزاب الصغيرة على الاندماج، بحيث نصبح أمام هيئة تشريعية أكثر طواعية وأقل تصدّعاً. وهذا أيضاً لن يكون سهلاً، إذ إن إجراء تغييرات في القانون الانتخابي يتطلب موافقة البرلمان الحالي ومجموعة الأحزاب الصغيرة بداخله.
في ضوء توازن الضعف بين الرئاسات الثلاث ، تونس بحاجة إلى التحرر من هذا النظام السياسي الهجين الذي أرساه دستور سنة 2014 ،ولا يمكن إحداث هذا التغيير من داخل البرلمان بل يقتضي العودة إلى الشعب من خلال دعوة رئيس الجمهورية إلى إجراء الاستفتاء، وهو الحق الذي أقره الفصل الثالث من الدستور وأهملته بقية أبوابه، لا سيما أنَّ تدخل قوى المجتمع المدني والسياسي، من خارج الصراع الذي يمزق مؤسسات الدولة، بات ضرورة من أجل إقرار حق الاستفتاء واستشارة المواطنين حول ضرورة التغيير، تمهيدا لانتخابات عامة مبكرة وإلا فقد التغيير معناه وتحول إلى جزء من صراع المحاور المحتدم اليوم والذي لا ينبأ بأدنى خيرٍللبلاد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى