فلسطين تدعي على دول الحلفاء أمام محكمة العدل الدولية
بقلم: د. مصطفى يوسف اللداوي
انشغل الفلسطينيون كثيراً في السنوات القليلة الماضية التي تلت العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عام 2014، بمحاولة الادعاء على المسؤولين الإسرائيليين، السياسيين والعسكريين والأمنيين وغيرهم، ممن يتهمونهم بارتكاب جرائم حرب ضد الشعب الفلسطيني، وبدأ الكثير من الحقوقيين الفلسطينيين ونشطاء حقوق الإنسان، تحضير الملفات المختلفة، وتجهيز الشهود وتنظيم القرائن والبراهين، لتقديم شكاوى ضد المجرمين الإسرائيليين لمحاكمتهم أمام محكمة الجنايات الدولية، التي أصبحت فلسطين طرفاً فيها، بعد أن انضمت إليها رسمياً في العام 2014، على أمل أن تنجح المحكمة في إدانتهم ومحاكمتهم، واعتقالهم ومحاسبتهم، خاصة أنها أعلنت ولايتها القانونية على الأراضي الفلسطينية، وبدأت هيئاتها القانونية بفتح ملفات وتحديد شخصيات وتوجيه اتهامات، وغير ذلك مما يسبق الاستدعاء أو الاعتقال، تمهيداً للتحقيق والمحاكمة.
لكن غايتنا ليست إدانة الاحتلال وحسب، أو معاقبته ومحاسبته، وفضح ممارساته وكشف سياساته، أو فرض عقوباتٍ دولية عليه وحصاره، والتضييق على قيادته وإحراج مسؤوليه، لإرغامه على الخضوع للقرارات الدولية وتنفيذها، بل إن غايتنا الكبرى والأساس هي تحرير فلسطين واستعادتها، وطرد الاحتلال وإنهاؤه، وممارسة حقنا المشروع في إقامة دولتنا المستقلة وعاصمتها القدس التاريخية على كامل ترابنا الوطني، فهذا الذي يتطلع إليه الفلسطينيون ويناضلون من أجله ويضحون في سبيله، ولا يسعون فقط إلى محاسبة الكيان ومعاقبته، فالعقاب لا ينهي الاحتلال، ومنع السفر لا يوقف الظلم، والملاحقة لا تمنع الحكومات الإسرائيلية من مواصلة سياستها، والتصدي لكل المحاولات الدولية للنيل منها وإدانتها.
ولما كانت غايتنا هي إنهاء الاحتلال واستعادة الحق السليب في الوطن والأرض والحقوق، فلماذا لا نتوجه إلى الجهات الدولية التي خلقت هذه الأزمة، وتسببت في نكبة فلسطين وتشريد شعبها، وكانت السبب في نشأة الكيان ورعايته، وتسليحه وتمكينه، ودعمه وإسناده، فنشتكي عليها ونحاكمها، وندينها ونجبرها بقوة القانون الدولي، لا على الاعتراف بالجريمة فقط، وإعلان المسؤولية عن المشكلة، بل نلزمها بتصحيح خطأها وتصويب سياستها، وإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل ممارستها لحق الانتداب الذي ابتدعته، والذي لم يكن إلا شكلاً من أشكال الاحتلال البغيض لكن ببعض الزينة والزخرف الكاذب، خاصةً أن الظروف الدولية باتت تخدمنا، والرواية الإسرائيلية لم تعد هي الرائجة والمصدقة، إذ تكذبها الحقائق وتفضحها السياسات.
فالمسؤولية الأولى والأساس عن نكبة فلسطين واحتلال أرضها وتشريد شعبها واغتصاب حقوقها، تقع على الدول الكبرى التي كانت سائدة ومالكة ومسيطرة في النصف الأول من القرن العشرين، والتي كان يطلق عليها اسم “دول الحلفاء”، وهي التي انتصرت في الحربين الأولى والثانية، ورسمت مناطق النفوذ وحددت حدود الدول العربية، بعد أن قسمتها وجزأتها ضمن ما عرف باتفاقية سايكس بيكو، وكانت انجلترا ومعها فرنسا تتقدمهم وتقودهم، وهي التي سبقت بإصدار وعد بلفور الذي كان الأساس الذي قامت عليه الجريمة وأُغتصبت فلسطين ونشأ مكانها الكيان، والتحقت بهما فيما بعد الولايات المتحدة الأمريكية، التي ورثت نفوذ انجلترا وحافظت عليه، ثم أصبحت القوة العظمى والأولى في العالم، فتجاوزت سياسة انجلترا في دعم الكيان الصهيوني ومساندته، على حساب الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.
لم يتغير الواقع أبداً ولم يتبدل، فدول الحلفاء التي كانت قديمة ما زالت قائمة، وأطرافها ما زالوا هم أنفسهم لم يتغيروا، وكما لا يسقط حق الفلسطينيين الأبناء في ملك آبائهم وأجدادهم، فإن أبناء وأحفاد دول الحلفاء وورثة الاستعمار الجديد، يتحملون كامل المسؤولية عن سياسة دولهم ومسؤولية قادتهم، وفي القانون الدولي وشرائع الأرض والسماء ما يجعل الحق قائماً ومتوارثاً، كما المسؤولية موصولة وغير مقطوعة، ما لم يعترف الخلف بجريمة السلف ويعلن البراءة منها، ويقبل بالتعويض عنها، واسترضاء المظلوم والمتضرر عما أصابه ولحق به، وفي التاريخ القديم والمعاصر سوابق مشابهة وقضايا مماثلة، يمكن الاستئناس بها والاعتماد عليها.
قد تنجح هذه المحاولة وإن كنت أستبعد وقد تفشل وهو الأغلب، فرعاة الكيان الصهيوني عُميٌ عن جرائمه، وصمٌ عن سياسته، ولا يحرك ضمائرهم ظلمه ولا عدوانه، ولا يقلقهم ما أصاب الشعب الفلسطيني ولحق به جراء سياستهم المنحازة وولائهم المطلق للكيان الصهيوني، ورغم استحالة قبول الدعوى شكلاً أو تعذر المباشرة بها موضوعاً، فإنني أرى وجاهة المضي فيها، ورجاحة عقل المؤمنين بها، ولعلنا نستطيع الاستفادة من الدولة التركية، التي كانت سائدة في مطلع القرن العشرين، وكانت فلسطين تتبع لها وتخضع لسلطانها، وعما قريب تنتهي معهادة ويسفر واتفاقية لوزان، الأمر الذي يمكننا من إعادة فتح ملف قضية فلسطين أمام القضاء الدولي.
لا يفوتنا اليوم هذا الأمل، فإن فاتنا ذلك فيما مضى لقصر نظرٍ أو نقصٍ في الوسيلة أو عجزٍ في الإرادة، فإن الفرصة ما زالت أمامنا، وقد باتت أمامنا المنظمات والمحاكم الدولية مشرعة الأبواب، مشروعة الطرق، وأصبح لدينا نحن العرب والفلسطينيين القدرة على الولوج إلى هذه المؤسسات الأممية، وعرض قضايانا أمامها، والاستفادة من نظمها والاحتكام إلى قوانينها.
هذا الرجاءُ ليس خيالاً ولا ضرباً من المستحيل، وليس جنوناً أو عبطاً أو سيراً عكس التاريخ، ولا هو بالأمر المتأخر عن زمانه والباطل لتغير أحكامه، وليس بالساقط شكلاً لغياب أطرافه وزوال صناعه، ولا بالفاسد موضوعاً لبطلانه بدعوى عدم المسؤولية ونقص البراهين والأدلة، بل هو الحقيقة والواقع، والسبيل الذي يجب أن يسلك، والباب الذي ينبغي أن يطرق.
بيروت في 8/3/2021
[email protected]