بهجت سليمان وتتمة الرواية..

– تكاد سيرة الراحل اللواء بهجت سليمان ، سفير سورية السابق في الأردن ، والذي أصيب بفيروس كورونا ورحل عنا بسبب إصابته ، في ذات الفترة التي أصيب بها ورحل بنتيجتها المناضل أنيس النقاش ، أن تكون التفسير البليغ بحكمة التزامن التي تربطه برفيق دربه أنيس النقاش ، في الولادة المتقاربة المواعيد بفارق سنتين على حدود السبعين عاما ، والمتقاربة الرحيل بفارق يومين ، بتزامن مواز لمحطات لامعة في السيرة ، لما كتبه النقاش في ساعات الهزيع الأخير ونشرت منه كلمات قليلة ، عنوانها ، أنا إنتهيت والرواية ما تمت .
– يصعب أن يحقق مسؤول في مؤسسات حكومة في أي دولة ، خصوصا عندما يكون قد تولى مسؤولية أمنية مفصلية على رأس جهاز المخابرات ، هذا الإجتماع النخبوي والشعبي من المحبين ، كما يصعب أن يواصل مسؤول سابق في حكومة أي دولة ، ممارسة الشأن العام بعد التقاعد بصفته مثقفا مقاتلا ، وأن يكون حاضرا بشكل يومي ليقول رأيا ويشرح موقفا ، ويتولى تعبئة شرائح من المجتمع حول خيارات ومواقف ، كما يصعب ان تكون حيوية العلاقة بين مسؤول حكومي على رأس عمله او بعد التقاعد ، بالفكر والثقافة والفلسفة والعلوم والأدب والدين ، الى حد الشغف ، والقدرة على الإمتصاص وإعادة التمثل ، والنقد والشرح والتعقيب والتحليل ، وإستخلاص رأي خاص فيها ، لكن بهجت سليمان جعل كل هذا الصعب سهلا وممتعا وممتنعا ممكنا في شخصه ، ليشكل موازيا في ملعب يسهل على مناضل مثل أنيس النقاش آت من ميادين الثوار احتلاله ، مرتاحا لكونه لم يتسلم اي مسؤولية حكومية ، وقامت كل تجربته على صياغة موقع فكري وسياسي خاص ، ونذر حياته من الولادة حتى الممات لعقيدة وقضية ، فيشكلان معا كنموذجين بالتوازي والتزامن ثنائيا ، لم يكن يوما ثنائيا مكرسا يجمعهما بأبعد من مجر الإصطفاف في خندق قتالي واحد بميزات متشابهة يتبادلان الحب والتقدير المتبادلين ، لحد أن هذا الثنائي الكامل لم يكن قد ولد قبل ان يكرسه الرحيل وما رافقه من أسئلة وإستكشاف للميزات والموقع والدور .
– يقول النقاش ، إنتهيت ، اي ها أنا ذا أغادر منهيا مهمتي ، والرواية ما تمت ، أي أنني أنجزت فصولا من الرواية وبقيت فصول لم تكتمل ، وربما نجد التفسير البليغ لكلمات النقاش في تناظر سيرته مع سيرة سليمان ، حيث يبدأ المثقف النوعي المشتبك ، الذي يمثل كل من الراحلين نموذجا له كل من موقعه وتجربته الشديدة الثراء وحضوره الشديد التميز ، بكتابة سيرته بحدث إستثنائي مبهر يكون لبصمته فيه حضورا لافتا وممبزا ، ويتالي تتابع هذا النوع من الحضور ، و تدريجا يتراجع الإبهار لصالح العمق ، والثائر لحساب المثقف ، فنجد ما يلفت من تابع سيرة الراحلين عن قرب ، أنهما في الرابعة والعشرين من العمر خط كل منهما بصمته الأولى ، بهجت سليمان قائد سرية دبابات في الجيش العربي السوري يشكل العنوان لمواجهات نوعية فاصلة في حرب تشرين عام 1973 على جبهة الجولان وجبل الشيخ نحو فلسطين ، وأنيس النقاش المناضل والثائر يكتب من فيينا عام 1975 وهو في الرابعة والعشرين أول السيرة ، بحجز وزراء النفط في منظمة أوبك ، حيث أراد ورفاقه إستخدام تلك المنصة لإطلاق صرخة مدوية نحو فلسطين وقضيتها ، ثم يلتقيان في حدثين مشابهين بالرمزية ، أنيس نقاش عام 1980 يطلق النار على شهبور بختيار في باريس لتنفيذ حكم إعدام قال انه أراده بحق خادم لمصالح إسرائيل ، ونصرة للثورة التي رفعت علم فلسطين في إيران ، وفي عام 1982 بهجت سليمان قائد لواء مدرعات في الجيش العربي السوري يقتحم جبهة التقدم الإسرائيلي في البقاع الغربي ، كاتبا ملحمة تنهي التقدم وترسم خط أمن دمشق ، وأمن المقاومة التي ستنطلق خلال شهور ، وأمن فلسطين التي سيتجمع أبناؤها ومناضلوها المبعدون قبل العودة اليها في مرج الزهور ، عند النقاط التي حفرتها جنازير الدبابات التي قادها بهجت سليمان .
– تستمر محطات المسيرتين المتوازيتين ، وتلتقيان حول حماية سورية وفلسطين والمقاومة ، فالنقاش يصبح ركنا في مسيرة المقاومة الى جانب رفاقه في مسيرة حزب الله ، وسليمان يقود ساحة الإشتباك الدبلوماسي لدولته من عمان ، ويؤسس ساحة إلتحام مفتوحة نحو فلسطين ، وساحة للأمان القومي مع مناضلي الأردن ، فيقرآن رواية واحدة في كتابين ، تكمل سيرة احدهما الآخر ، بمثل ما كانت معارك الدفاع عن سورية ، وشرح معانيها ورسم ابعادها وحشد الطاقات لها ، مسؤولية طوعية إتخذاها خلال سنوات العمر الأخيرة بوصلة وقضية ومسؤولية ، فنشر كل منهما إشعاع فكره في بيئة المئات من النخب العربية ، وتابعتهما ملايين الناس عبر الحضور الإعلامي ، كنماذج نقية وراقية لنضال سورية وشعبها وجيشها وقائدها ، وللمقاومة في لبنان وفلسطين ، وزرعا بسمة الأمل في الليالي السوداء ، وإستشرفا نصرا كان لهما ان يشهدا فصوله لولا هذا الرحيل المبكر .
– تتمة الرواية التي أرادها أنيس النقاش هي نصر سورية ، الذي بشر به ، بصفتها درة تاج محور المقاومة الذي شارك بتأسيسه ، وتتمة الرواية مثلها بهجت سليمان بنموذجه الجامع لرمزية الشعب والدولة والجيش والنخب في سورية حول مشروع بشر به الرئيس بشار الأسد قبل عقد ونيف ، أسماه بمنطقة البحار الخمسة تتوسطها سورية ، وأسماه لاحقا أنيس النقاش بفدرالية الشرق ، ووصايا الراحلين من بين الكبار تاريخيا هي المشاريع التاريخية ، وليس ما يفعلونه قبل الرحيل ، الا إثبات الجدارة بكتابة الوصية .

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى