أَيُّ مَخْرَجٍ لِأَزْمَةِ الْحُكْمِ فِي تُونِس

بقلم: توفيق المديني

تعيش تونس منذ سنوات أزمة سياسية كبيرة،هي في طبيعتها وأساسها أزمة النظام السياسي القائم المنبثق عن الدستور الذي تمَّ تبنيه في 14يناير/كانون الثاني 2014،لكنَّ هذه الأزمة تفجرت من جديد،بسبب إصرار رئيس الجمهورية التونسية،قيس سعيد،على عدم قبول التعديل الوزاري الذي أجراه رئيس الحكومة التونسية هشام المشيشي على حكومته في 16كانون الثاني/يناير2021،وصادق عليه البرلمان في يوم 26 كانون الثاني/ ينايرالماضي،في جلسة عامة،على منح الثقة لـ11 وزيرا اقترحهم المشيشي ضمن تعديله في حكومته .
التعديل الوزاري يفجر الصراع بين رأسي السلطة التنفيذية
لِقَدَّ حَصَلَ هَذَا التَّعْدِيلُ الْوِزَارِيُّ فِي تَوْقِيتٍ سَيِّىءٍ لِتُونِسَ، إِذْ يُعَدُّ شَهْرُ ينَاير/ كَانُونَ الثاني، شَهْرَ الْاِنْتِفَاضَاتِ وَالْاِحْتِجَاجَاتِ الْاِجْتِمَاعِيَّةِ، هَذَا مَنْ حَيْثُ تَقَالِيدِ النِّضَالَاتِ الْاِجْتِمَاعِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ السَّائِدَةِ فِي الْبِلَادِ، لَكِنَّ الْخَطَأَ الَّذِي اِرْتَكَبَهُ رَئِيسُ الْحُكُومَةِ المشيشي، هُوَ أَنَّهُ تَخَلُّصَ دُفْعَةً وَاحِدَةً مِنْ 11وزيرًا،) أَيَّ مَا يُقَارِبُ ثُلْثُ حُكُومَتِهِ)، هُمْ مَحْسُوبُونَ عَلَى الرَّئِيسِ قِيسَ سَعَيَّدْ، وَكَانَ أَبْرَزُهُمْ وَزِيرُ الدَّاخِلِيَّةِ السَّابِقِ تَوْفِيق شَرَفِ الدِّينِ الَّذِي يُعْتَبَرُ مُنَسِّقَ حَمْلَتِهِ الْاِنْتِخَابِيَّةِ، وَأحَد الْمُحَامِينَ الْقَاطِنِينَ فِي وَلَاَيَةِ مُحَافَظَةَ(سُوسَةً، الْأَمْرُ الَّذِي أَثَارَ حُنْقَ الرَّئِيسِ سَعِيَّدْ عَلَى المشيشي، بِسَبَبِ إقْصَاءِ هَذَا الْأَخِيرِ لِوَزِيرِ الدَّاخِلِيَّةِ، الْمُقَرَّبِ مِنَ الرَّئِيسِ التّونِسِيِّ
.أمَّا لماذا فَجَّرَ هذا التعديل الوزاري الصراع بين رأسي السلطة التنفيذية في تونس،أي رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة،أو بين قصر قرطاج وقصر القصبة كما يحلو للتوانسة تسميته، فالأمر يعود حسب آراء الخبراء في تونس إلى أنَّ رئيس الحكومة التونسية الحالي هشام المشيشي،الذي رشحه رئيس الجمهورية قيس سعيد في أواخر شهر تموز/يوليو 2020،لكي يشكل حكومته ،ما انفك يعاني من ضغوطات و إملاءات الرئيس سعيد ،لا سيما حين فرض عليه أحد المقربين منه لكي يتبوأ منصب وزير الداخلية .
غَيْرَ أَنَّ المشيشي الَّذِي تَحَمَّلِ كثيرًا إهانات الرَّئِيسِ، قرَّرفِي النِّهَايَةِ سُلُوكِ سِيَاسَةِ التَّمَرُّدِ عَلَى سَاكِنِ قصرقرطاج الَّذِي عَيَّنَهُ، وَتَحَوَّلَ بِسُرْعَةٍ إِلَى خَصْمٍ لِلرَّئِيسِ سَعَيَّدْ، فِي حَالَةٍ غَرِيبَةٍ مِنَ التَّجَاذُبِ بَيْنَ رَأْسَيْ السَّلْطَةِ التَّنْفِيذِيَّةِ، مِنْ خِلَالِ الْاِحْتِمَاءِ بِحِزَامِ اِئْتِلَافٍ سِيَاسِيٍّ شَاذٍ وَهَجِينٍ، يَتَكَوَّنُ مِنْ حِزْبِ النَّهْضَةِ، وَحِزْبِ قَلْبِ تُونِسَ الَّذِي يَتَزَعَّمَهُ نَبِيل الْقَرَوِيّ الْمُتَّهَم بِشُبْهَةِ فَسَادٍ، وَهُوَ الْآنَ يَقْبَعُ فِي السِّجْنِ، إضَافَةً إِلَى ” اِئْتِلَاَفَ الْكَرَامَةِ)” تَيَّارَ سَلَفِيَّ عَقَائِدِي يَقِفُ عَلَى يَمِينَ حَرَكَةِ النَّهْضَةِ)، فَضْلًا عَنْ أحْزَابٍ وَكُتَلٍّ نِيَابِيَّةٍ هِي بِالْأَسَاسِ مُنْبَثِقَةٍ مِنْ حِزْبِ “التَّجَمُّعَ الدُّسْتُورِيِّ الدِّيمُقْرَاطِيِّ ” الْمُنْحَلِّ مُنْذُ شَهْرِ مَارِسِ 2011، وَلَهُمْ حُضُورٌ قُوِّيٌّ فِي مَفَاصِلِ الْإِدَارَةِ التّونِسِيَّةِ، وَحَاضِنَتَهُم الْمَدْرِسَةَ الْقَوْمِيَّةَ لِلْإِدَارَةِ الَّتِي تَخَرَّجٍ مِنْهَا المشيشي.
سياسةُ التمرُّدِ على رئيسِ الجمهوريةِ الذي يُعْتَبَرُ وليَّ نعمتهِ،والاستقواءِ بأحزابٍ سياسيةٍ
تُعْلِنُ جِهَارًا معارضتها الشديدة لرئيس الجمهورية، لا سيما منذ أنْ دخلَ المشيشي في تحالفٍ مع حركة النهضة الإخوانية، التي يرى سعيّد أنَّ لَهَا نفوذًا على المشيشي، فضلاً عن مهاجمة رئيس البرلمان التونسي وزعيم حزب النهضة راشد الغنوشي رئيس البلاد، الأمر الذي دفع بكثيرٍ من التونسيين إلى التضامنِ مع رئيسهم،وعَدَّهَا مراقبون محاولة للانقلاب على الرئيس،إضافة إلى الطموح الشخصي للمشيشي أنْ يكون لاعبًا قويًا في الساحة السياسية التونسية، بدلاً من لعب دور التابعِ الصغيرِ،تلك هي الأسباب الحقيقية التي أدَّتْ إلى التنازعِ السياسيِّ الحاصلِ في اللحظةِ السياسيةِ الراهنةِ بتونس بيْنَ رَأْسَيْ السلطةِ التنفيذيةِ، وهو يُؤَثِّرُ سَلْبًا على مؤسساتِ الدولة،وعلى الوضع العام بتونس، التي تشهد إحدى أصعب فترات تاريخها سواء على المستوى الاقتصادي والاجتماعي أو الدستوري والمؤسّساتي.
في هذا السياق من اشتداد الأزمة السياسية بتونس والتي وصلت إلى ذروتها، تمسك رئيس الجمهورية قيس سعيد برفض أداء اليمين للوزراء الجدد (11 وزيرا) بعد أكثر من أسبوعين من نيلهم الثقة من البرلمان،مُعَلِّلاً بذلك أنَّ بَعْضَ الأسماء تَشُوبُهُمْ شُبْهَةَ فسادٍ وتضاربِ مصالحٍ.
جدل دستوري تونسي
أثَارَ رَفْضَ رَئِيسَ الْجُمْهُورِيَّةِ التّونِسِيَّةِ قَيْسَ سَعَيَّدْ، أَدَاءَ الْيَمِينِ الدُّسْتُورِيَّةِ لِلْوُزَرَاءِ الْجُدُدِ جَدَلًا وَاسِعًا، وَسَطَ اِتِّهَامَاتٍ لَهُ ب” التَّنَاقُضَ”، لَا سِيَمَا مِنْ جَانِبِ الْخُبَرَاءِ الَّذِينَ يُعَارِضُونَ تأويل رَئِيسَ الْجُمْهُورِيَّةِ للدستور في ظَلِّ غِيَابِ الْمَحْكَمَةِ الدُّسْتُورِيَّةِ.فَفِي حَالَةٍ مُشَابِهَةٍ، حَصَلَتْ مَعَ الرَّئِيسِ الرَّاحِلِ الْبَاجِيِّ قَائِدَ السِّبْسِيِّ حِينَ رَفَضَ التَّعْدِيلَ الْوِزَارِيَّ الَّذِي قَامَ بِهِ رَئِيسُ الْحُكُومَةِ السَّابِقِ يوسف الشَّاهِدَ فِي سَنَةِ 2018، قَالَ الْأُسْتَاذُ قَيْسَ سَعَيَّدْ آنذاك مَا نَصُّهُ:” رَفَضَ رَئِيسُ الْجُمْهُورِيَّةِ أَدَاءَ الْيَمِينِ الدُّسْتُورِيَّةِ لِلْوُزَرَاءِ الْجُدُدِ خَرْقٌ لِلدُّسْتُورِ وَتَعْطِيلٌ لِلسَّيْرِ الْعَادِيِّ لِدَوَالِيبِ الدَّوْلَةِ”.وَأَضَافَ سَعَيَّدْ فِي سُؤَالٍ يَتَعَلَّقُ بِتَوْضِيحٍ قَانُونِيٍّ يَتَعَلَّقُ بِرَفْضِ رَئِيسِ الْجُمْهُورِيَّةِ الرَّاحِلِ الْبَاجِيِّ قَائِدَ السِّبْسِيِّ لِتَعْدِيلٍ وِزَارِيٍّ عَلَى حُكُومَةِ يوسف الشَّاهِدَ:” بِإِمْكَانِ السِّبْسِيِّ تَعْطِيلِ أَدَاءِ الْيَمِينِ لَكِنَّ فِي ذَلِكَ خَرْقٌ لِلدُّسْتُورِ”.
المراقبون في تونس،قالوا إنَّ قراءة سعيد الدستورية لأداء يمين حكومة الشاهد باتت متناقضة ،حيث انقلب سعيد تمامًا في رأيه، فاليوم ما زال يرفضُ أداء يمين وزراء هشام المشيشي ،فهل خرق قيس سعيد الدستور؟ إنَّ الرئيسَ قيس سعيد وقع في تناقضٍ،إذْ انقلب على رأيهِ الذي أدْلَى به في سنة 2018،حين كان أستاذًا للقانون الدستوري ولم يَكُنْ خاضعًا لمصلحةٍ ،وكان يُحْظىَ بالموضوعيةِ والمسافةِ من الجميعِ،الآن هو في قلْبِ المعركةِ، وهو السبب فيها، إذًا الرئيس قيس سعيد فقد الموضوعية.
أمَّاالباحث في القانون الدستوري وعضو الجمعية العربية للعلوم السياسية والقانونية رابح الخرايفي ،فقد قال في تصريح لـصحيفة عربي21: “لقد غيَّر قيس سعيد الرئيس رأيه بعد الحوارات العميقة والإثراء الذي عرفه نقاش اليمين الدستورية، أضف إلى ذلك فقد تغيَّرتْ الظروف، وحاول الائتلاف الحكومي رفض وزراء عليهم شبهات فساد إن مرُّوا سيقضون على نزاهته”.وتابع: “ليس هناك مشكل إن تغير الرأي فيه تطور وفي الأخير مهما كانت التصاريح الآن هو رئيس الجمهورية قراءته هي القراءة الرسمية التي ستنفذ”.
بدوره قال أستاذ القانون الدستوري كمال بن مسعود في تصريح لـ”عربي21″ إنَّ “رفض الرئيس أداء اليمين الدستورية للوزراء الجدد يعد خرقا للدستور”.وتابع أن “أداء اليمين من الاختصاصات المقيدة للرئيس وليس له الحق في رفضه”.
وفي لقاء رئيس الجمهورية التونسية قيس سعيد يوم الأربعاء 10 فبراير2021 بقصر قرطاج مع عدد من أعضاء مجلس نواب الشعب وهم  سامية عبو وزهير المغزاوي وهيكل المكي ومحمد عمار ونبيل حجي وحاتم المليكي وهشام العجبوني ومروان فلفال وسمير ديلو ونوفل الجمالي ومصطفى بن أحمد، والذي خُّصِّصَ لتباحث الوضع السياسي في البلاد ،وخاصة أسباب الأزمة الراهنة المتعلقة بأداء اليمين والتعديل الوزاري، والحلول المطروحة للخروج منها والتي تقوم أساسا على احترام علوية الدستور والقوانين واحترام مؤسسات الدولة، قال الرئيس سعيد:إنَّ ”كرسي الرئاسة ليس شاغرًا وأنا لا ألعب دورًا رمزيًا كما ادعى البعض”، في ردِّهِ على تصريح الغنوشي الأخير،الذي قال فيه ،بأنَّ”دور رئيس الدولة هو دور رمزي “.
وذكّر رئيس الجمهورية بأنَّ التعديلَ الوزاريَ تَشُوبُهُ العديدَ من الخروقاتِ، مجدّدًا حِرْصَهُ على تطبيقِ الدستورِ.كما أكّدَ على أنَّنا في وطنٍ حرٍّ، وأنَّ حلَّ الأزمة القائمة يكون باحترام النص الدستوري لا بالتأويلات أو الفتاوى، التي في ظاهرها حقٌ وفي باطنها تجاوزٌ للدستور، ولا بالبحث عن مخرج قانوني مستحيل.
السيناريوهات المطروحة
كَشَفَتْ الْأَزْمَةُ الْأَخِيرَةُ بَيْنَ رئاسةِ الْجُمْهُورِيَّةِ ورئاسةِ الْحُكُومَةِ حَوْلَ أَدَاءِ الْيَمِينِ وَالتَّعْدِيلِ الْوِزَارِيِّ، أَنَّ تُونِسَ تَعِيشُ في ظِلِّ أَزْمَةٍ سِيَاسِيَّةٍ بِالْأَسَاسِ وَتَحْتَاجُ إِلَى حُلُولٍ سِيَاسِيَّةٍ إضَافَةٍ لِحُلُولٍ قَانُونِيَّةٍ فِي إطار الدستور.وَهُنَاكَ شِبْهُ إِجْمَاعٍ فِي تُونِس، أَنَّ الْبِلَادَ فِي أَزْمَةٍ وَقَطِيعَةٍ تَامَّةٍ بَيْنَ السُّلْطَاتِ، وَأَنَّ الْمَعْرَكَةَ الْحَالِيَّةَ بَيْنَ رَأْسَيْ السَّلْطَةِ التنفيذيةِ تُعَدُّ اِسْتِنْزَافًا لِلْجُهُودِ، إِذْ لَنْ تُسْفِرَ فيها عَنْ غَالِبٍ وَلَا مَغْلُوبٍ، وَأَنَّهُ لَا حَلٌّ إِلَّا بالتخلّي عَنْ أُسْلوبِ الْمُغَالَبَةِ والتحدِّي وَالتَّصْعِيدِ، وَأَنَّ الْمَخْرِجَ الْوَحِيدَ فِي ذَلِكَ هُوَ تَفْعِيلُ مُبَادَرَةِ الْاِتِّحَادِ الْعَامِّ التّونِسِيِّ لِلشُّغْلِ حَوْلَ الحوارالوطني.وَلَنْ يَكُونَ الْحِوَارُ فَعَالًا وَذَا جَدْوَى فِي ظِلِّ أَزْمَةٍ اِقْتِصَادِيَّةٍ وَاِجْتِمَاعِيَّةٍ خَانِقَةٍ لَا تَنْتَظِر مَزِيدَ إِضَاعَةِ الْوَقْتِ.وَإِذَا لَمْ يَتِمْ تَفْعِيلُ مَبَارِدَةِ الْاِتِّحَادِ، فَإِنَّ الْمُرَاقِبِينِ يَخْتَلِفُونَ فِي إيجادِ مَخْرِجٍ لِهَذِهِ الْأَزْمَةِ، فَاِنْقَسَمُوا بَيْنَ مَنْ يَدْعُو إِلَى مُوَاصَلَةِ الْحِوَارِ وَالْوَسَاطَةِ، وَبَيْنَ مَنْ يَدْعُو رَئِيسُ الْحُكُومَةِ إِلَى الْاِنْسِحَابِ أَوْ سَحْبِ الْوُزَرَاءِ الَّذِينَ هُمْ مَحَلّ خِلَاَفٍ.
وهناك ثلاثة سيناريوهات مطروحة في تونس للخروج من أزمة التعديل الوزاري .
السيناريو الأول: أن يقبل رئيس الجمهورية أداء اليمين للوزراء الذين ليس بشأنهم إشكال مع رفض من تحوم حولهم شبهات وهذا حل، في المقابل على رئيس الحكومة أن يتراجع جزئيا عن التعيينات، ويذهب إلى القبول باعتراضات رئيس الجمهورية، المستندة إلى شبهة فساد لبعض الأسماء محل الخلاف وعددهم أربعة في مجلس الوزراء،ويغيرهم:وزير الصحة الهادي خيري، ووزير الطاقة والمناجم سفيان بن تونس، ووزير التكوين المهني والتشغيل يوسف فنيرة، ووزير العدل يوسف الزواغي.ومن المفيد لمصلحة البلاد، أن يتقدم الوزراء محل الخلاف بطلب إعفائهم من مناصبهم،وبالتالي يمكن حل الأزمة التي هي سياسية وليست دستورية وقانونية.
السيناريو الثاني: فيكمن في مغادرة رئيس الحكومة الحكم، إما من خلال آلية الاستقالة أو سحب الثقة، وهذا الأمر سيظل مصدر صراع بين البرلمان والرئاسة، حتى تعود العهدة إلى أحد الطرفين. ويصعب إيجاد مخرج لهذه الأزمة إلا من خلال التنازل و”على المشيشي الانسحاب بالاستقالة باعتباره الحلقة الأضعف ورئيس الجمهورية لن يخرج لاستحالة الأمر سياسيا ودستوريا” موقف يذهب إليه أستاذ القانون الدستوري جوهر بن مبارك.
السيناريو الثالث : أن يدعو رئيس الجمهورية إلى إجراء انتخابات برلمانية و رئاسية جديدة .ويبدو هذا الحل عمليا أكثر من غيره، من أجل حسم مشكلة نظام الحكم في تونس ،شريطة أن يتم تغيير قانون الانتخابات الحالي ،الذي أفرز مشهدً ا برلمانيًا فسيفسائيًا طيلة السنوات العشر الماضية،ويُعَدُّ المسؤول الرئيس عن عدم إفراز أغلبية حزبية حاكمة قادرة على تشكيل الحكومة، وتحمل مسؤولية الحكم سنوات خمسا، وهو ما دفع الأوضاع إلى تحالفاتٍ غير مستقرة، وانتهى إلى حكومة تكنوقراط، هي ذاتها محل تنازع.
خاتمــــــــــة:
يرى الخبراء والمحللون في تونس ،أنَّه في ظل غياب رجال دولة حقيقيين يقدّمون مصلحة البلاد على المصالح الشخصية، سوف تستمر المعركة بين رئيس الجمهورية سعيد، ورئيس الحكومة المشيشي، حيث لن تنفع فيها الوساطات وسيحسمها ميزان القوى هذه المرَّة، بكسر إحدى الجهتين، وستطبع نتيجة هذه المعركة بين رؤيتين تحت سقف الديمقراطيّة،كل المرحلة اللاحقة.
فإمّا مسار يؤسس لبرنامج قيس سعيّد الذي سيؤدي بعد استقرار الأمر له إلى نفي الأحزاب التي تسانده الآن، فسعيد ليس ضد حزب وإنّما ضدّ الحزبيّة التي هي أساس الديمقراطيّة النيابية التي يرفضها، ويؤسس لنظام سياسي رئاسي كما يطالب به هو،يكون فيه رئيس الحكومة وزيرا أوّل يتبع رئيس الجمهوريّة، وتكون العملية السياسيّة خارج ما يضبطه الدستور وأشبه بانقلاب على الدستور والنظام السياسي والمسار الديمقراطي، وفقًا لوجهة نظر بعض فقهاء القانون الدستوري المعارضين لسياسة رئيس الدولة.
أو أن هذا الصراع سيفضي إلى انتصار الإئتلاف السياسي الحاكم بقيادة حزب النهضة،ما يجعله يُكَّسِرُ الشعبوية التي يتميز بها الرئيس سعيد ،ويمكن الوزراء من مزاولة عملهم دون أداء اليمين الدستوري لدواع واقعية (الأزمة الصحية خاصة) مع الاستئناس برأي أغلبية أساتذة القانون الدستوري واللجوء إلى القضاء. ولاشك أن هذا الخيار يقود إلى إعادة إنتاج نظام الفساد والاستبداد في تونس، لأنه نظام يستند إلى قوة الدولة العميقة التي يسيطر عيها الآن حزب النهضة الإسلامي، وبقايا الأحزاب المنبثقة من حزب التجمع المنحل.
لقد تبنَّتْ تونس في بداية سنة 2014، دستورًا فاشلاً، وأنَّ النظام السياسي الذي تأسس في ضوئه يُعَدُّ نظامًا شاذًا وهجينًا،إِذْ تتوزعُ فيه السلطة التنفيذية بين طرفين،رئيسي الجمهورية والحكومة، مع صلاحيات أوسع للثاني،وهو المتسبب الرئيس في الأزمة التي تعيشها تونس في الوقت الحاضر.فهو ليس نظامًا برلمانيًا قائمًا على الفصل بين السلطات، كما في الأنظمة البرلمانية التي تقوم على الفصل المرن بين السلطتين،التنفيذية والتشريعية،ولا نظامًا رئاسيًا،مثل الأنظمة الرئاسية التي تعرّف بأنها تقوم على الفصل الصارم بين السلطتين.
وتعيش تونس اليوم في ظل نظام سياسي تم وضعه من قبل المجلس التاسيسي في دستور 2014 ويصفه المُختصون والمتابعون بالنظام “الهجين” وهي العبارة عينها التي استعملها رئيس الجمهورية قيس سعيد.. وقد سماه البعض نظامًا مجلسيًا باعتبار أنّ المجلس التأسيسي ثم مجلس نواب الشعب هو قطب الرحى في كل العملية السياسية ،لا سيما في ظل تغول حزب النهضة الإسلامي طيلة السنوات الأولى من 2011ولغاية 2014،في غياب منافسة جادة في توزيع السلطات،حيث فصل الدستور على مقاسه، وكذلك هذا النظام السياسي الهجين ،لكي يبقى أطول فترة ممكن في الحكم،مع إضافة معتبرة في الدستور،هي انتخاب رئيس الجمهورية بالاقتراع المباشر بعد معركة شرسة ..
النظام السياسي القائم في تونس لا يمكنه مُطْلَقًا تأمين الاستقرار والتنمية للبلاد.وكان رئيس الجمهورية الراحل الباجي قائد السبسي طالب بتغييره، حين قال :إنَّ تغييرَ النظام السياسي مَوْكُولٌ للبرلمان وللأحزاب معتبرًا أنّه على استعداد لدعم أية مبادرة تخرج النظام السياسي عن حالة الشلل التي تردَّى فيها رغم إنّ مسؤولياته الدستورية في هذا المجال محدودة. وهو ما يدفع إلى التساؤل عن الناحية العملية لتغيير النظام السياسي.
وفي هذا السياق قال أستاذ القانون الدستوري قيس سعيد، قبل أن يصبح رئيسًا للدولة: إنَّ تَغْيِيرَ النظام السياسي القائم مُمْكِنٌ ويكفي لذلك تعديل الدستور وفق إجراءات الفصل 143 من الدستور… لكنَّه صَعْبٌ. إنّه لا يمكن اليوم إدخال أي تعديل على الدستور في ظل تواصل غياب المحكمة الدستورية التي فرض الفصل 144 من الدستور تدخلها في صورة تعديل الدستور.
فقد عجز النظام السياسي عن استكمال مؤسساته الحيوية، على الرغم من مرور سنوات عشر منذ انطلاق الانتقال الديمقراطي، ففي غياب المحكمة الدستورية أصبح تأويل النصوص مجرّد عمل يقوم به رئيس الجمهورية سعيد، الذي تتهمه الأحزاب الحاكمة في الوقت الحاضر، بأنه طرح نفسه بديلاً للمحكمة الدستورية.
وعلى الرغم من تنصيص الدستور على أجل إرساء المحكمة الدستورية في غضون وسنة من تاريخ الانتخابات البرلمانية التي أجريت في أكتوبر سنة 2014، فإنّه تم تجاوز هذا البند، مما اعتبره خبراء في القانون الدستوري، خرقاً فاضحاً وتأخيراً مقصوداً من الأحزاب والنواب غير راغبين في إحداث هذه المؤسسة الدستورية.وترفض القوى الحزبية التنازل لبعضها بعضا، وتسعى إلى تسجيل المواقف أكثر من تقديم الاقتراحات والحلول المجدية، في حالة من الطفولية السياسية البائسة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى