تونس بعد عشر سنوات.. فساد وخراب وسقوط الدولة إلى الحضيض

في السيرورة التاريخية،لا يُمْكِنُ لأيِّ ثورةٍ أنْ تُتَوَّجَ بالنجاحاتِ خلال بِضْعِ سنواتٍ. قد يتساءل البعض أنَّ فترة 10 سنوات غير كافيةٍ لتحقيقِ طموحاتِ وانتظا راتِ الشعب التونسي،ذلك أنَّ أيَّ ثورةٍ في العالم لا يمكنها تغيير الوضع في فترة قصيرة، ولكنَّ هذا لا يعني عدم التقييم والتقدم نحو المستقبل.
عشر سنوات من الفشل، عمقت الفقر و التهميش
مع تحول ما يسمى “ربيع الثورات العربية” إلى شتاءٍ قاسٍ سرعان ما حلَّ في العالم العربي، بعد أن تمَتْ إزاحة الثوريين الديمقراطيين من قبل حركات الإسلام السياسي،أوالعسكر.فلاتزال الدوائر الغربية وبعض مراكز الدراسات العربية المرتبطة بها ،تقول أنَّ تونس صامدة مقارنة بدول الربيع الأخرى، وحققت عملية الانتقال الديمقراطي،ولعل أهمها الدستور الذي وضع في 2014، والذي كان حمالاً لعديد النصوص والقوانين،ولكنَّ الإشكال في تنزيل بعض المؤسسات الجديدة والقواعد رغم أنَّ الدستور يحدد آجالاً لها. فهناك عديد القوانين المهمة التي صدرت بعد الثورة، ولكنَّ يتم الالتفاف عليها من قبل بعض الفاعلين السياسيين،لا سيما حركة النهضة ،مثل إرساء المحكمة الدستورية وعديد الهيئات الأخرى.فبعض الهيئات لم يتم تركيزها لليوم، مثل المحكمة الدستورية، وهو ما يطرح إشكالات في تطبيق الدستور.
تونس الغائبة الحاضرة في المشهد العربي تعيش منذ عشر سنوات في ظل “الثورة المغدورة”بقيادة الإسلام السياسي،والحال هذه حركة النهضة،الطرف القوي في ظل الإئتلافات الحكومية التي شكلتها منذ 2011 و لغاية الآن،ولأنَّ كل ما نادى به الفقراء والعاطلون عن العمل “وقود الثورة” ذهب أدراج الرياح،وفي أحسن الأحوال ظل أحلاماً مؤجلة برسم المجهول-المعلوم الذي تسير نحوه البلاد.
بعد عشر سنواتٍ،تُعَدُّ مشكلة الريف التونسي من أكثر المسائل التي تطرقت لها الدراسات المرتبطة بالثورة سواء من جهة أزمة القطاع الفلاحي الهيكلية منذ بداية الاستقلال أو من جهة الوضع التنموي والانساني الذي خلّفته السياسات العمومية والخيارات الاقتصادية والاجتماعية للرأسمالية التابعة في علاقتها بالريف أوبالمحافظات(الولايات) الداخية المهمشة والفقيرة.فمن زاوية الاقتصاد السياسي اختارت الدولة التونسية أن “تقترح” حلّ الهجرة على سكان المناطق الداخلية لتعويض عجزها عن تحقيق التنمية في المكان عينه،وهو ما تجلى بوضوح عشية الثورة حين وقفت الدّولة نفسها على حجم الهوّة التي تفصل المحافظات(الولايات) في الداخل التونسي عن المحافظات الغنية من خلال مؤشرات التنمية الجهوية المنشورة سنة 2012 هذه العطالة التي أصابت الجهات الداخلية لم تعد مانعة للتنمية اقتصادياً فحسب، بل صارت مهدّدة لمقومات الحياة الأساسية للتونسيين القاطنين أريافهم .
اصطبغت الذكرى العاشرة لما يسمى “الثورة التونسية”بأثرٍ من المرارةِ، في الوقت الذي تعاني تونس من أزمات متعددة،اجتماعية، وسياسية، واقتصادية. ومرّة أخرى، وهذه المرَّةِ بسبب وباء كورونا،تقف تونس على عمق المعاناة الاجتماعية للمحافظات(الولايات) المهمشة والفقيرة،وعلى القطيعة التي لاتزال تفصل جزء من الطبقة الاقتصادية و السياسية الحاكمة عن حقيقة هذا الواقع الذي تعيشه الطبقات و الفئات الشعبية الفقيرة . فهذه الطبقة السياسية الحاكمة عجزت عن مجابهة التشققات الاجتماعية والإقليمية(الجهوية أوالمناطقية)التي تُقَّوِضُ البلاد التونسية منذ ستة عقودِ من الزمن،بين المحافظات(الولايات) المهمشة والفقيرة، والساحل الشرقي والشمالي المزدهر نسبيًا.
وأسهمت الحكومات الفاسدة المتعاقبة،والبلبلة والفوضى المؤسساتية ،في إضعاف الحوكمة الاقتصادية الرشيدة،وفي تعميق هوة الفقر،وفي انزياح الطبقة الوسطى التي كانت مفخرة النظام التونسي في عهد الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي،إلى مستوى التصنيف للفئات الفقيرة وضعيفة الحال ،وفي أقصى تقدير تصنيفها ضمن الطبقة الوسطى الدنيا التي تقف على مسافة قريبة من عتبة الفقر، واللامساواة الإقليمية أو المناطقية،وهو ما يجعل العمل العلمي في مجال علم الاجتماع بحثاً عن نقاط الالتقاء بين المسألة السياسية والمسألة الاجتماعية والتأكيد عليها.
وتُشِيرُ الأَرْقَامُ الْمُحَدَّثَةُ لسنة 2015 أنَّ نِسْبَةَ الْفَقْرِ بالشريط الساحلي تتراوح بين 6.3 % و 12.9 في حين تصل إلى 17 % بالجنوب الغربي و 30.3 % بالوسط الغربي ،ويبلغ عدد التونسيين الذين يعيشون الفقر المدقع 320 ألف وهم عاجزون عن توفير حاجياتهم الأساسية الغذائية قبل حاجياتهم الأخرى من سكن ولباس، وتوجد ولايتي القيروان والقصرين في أسفل قاعدة الهرم بـ 10 % وفي القيروان وحدها يعيش 85 ألف تونسي تحت عتبة الفقر المدقع و 199 ألف تحت عتبة الفقر.
للإشارة تم انجاز التقرير الذي أصدره المعهد الوطني للإحصاء بالتعاون مع البنك الدولي في شهر سبتمبر 2020، وتم من خلاله تحليل معطيات اقتصادية واجتماعية خاصة بكل منطقة جغرافية على حدة، واعتمد على معطيات قاعدة بيانات التعداد العام للسكان والسكنى لسنة 2014 والمسح الوطني حول الإنفاق والاستهلاك ومستوى عيش الأسر لسنة 2015.
وقد سجلت معتمديات حاسي الفريد 53.5 % وجديلان% 53.1 والعيون% 50.1  أعلى نسب فقر بكامل مناطق الجمهورية، بما يعني أن أكثر من نصف سكان هذه المناطق يعيشون الخصاصة ولا يتوفر لهم الحد الأدنى من وسائل العيش الكريم.
لكنَّ خارطة الفقر لا تتوقف عند مناطق الشمال الغربي والوسط الغربي بل تمتد للمناطق الساحلية المعروفة تاريخيا بمستوى اقتصادي مريح مقارنة بباقي مناطق الجمهورية، حيث سجلت معتمدية شربان من ولاية المهدية (وسط شرقي) 36.9 %، ومعتمدية سجنان من ولاية بنزرت (شمال شرقي) 39.9 %، وهي أعلى نسبة مسجلة في المناطق الساحلية.
هذه الأرقام تتراجع كثيرًا في المناطق التي يعتبرها جزء كبير من التونسيين بأنها محظية وتتمتع بسياسات تمييزيّة عن باقي الجهات، حيث سجل معدل الفقر في صفاقس المدينة 2.5 % ومعتمدية دار شعبان الفهري 4.9 % وبنزرت الشمالية 5.3 %.
لا يمكن لأدوات أخرى من حقول بحثية أو أكاديمية أو سوسيولوجية أو اقتصادية أن تعبر عن الفشل السياسي للخطط التنموية (إن وجدت) للحكومات السابقة التي جاءت بها ثورة 2011 مثل الأرقام التي سبق وأن ذكرناها لمعدلات نسب الفقر في تونس.
تفجر الصراع بين رأسي السلطة التنفيذية في تونس
إن فترة 10 سنوات أصبحت كافية للتقييم،الانتقال الديمقراطي في تونس يعيش في حالة خطيرة جدًّا.فالذكرى العاشرة لما يسمى ب”الثورة التونسية”تأتي في ظل مشهدٍ سياسيٍّ مضطرب يتسم بالصراع بين رأسي السلطة التنفيذية،رئيس الجمهورية قيس سعيد من جهة،ورئيس الحكومة هشام المشيشي من جهة أخرى.ففي آخر حلقات هذا الصراع كان ميدانه أروقة وزارة الداخلية التي حاول رئيس الجمهورية السيطرة عليها لأهميتها الاستراتيجية في التوازنات السياسية في البلاد من جهة،ودورها المحوري في أمن البلاد وثقلها الاستخباراتي والإجرائي من جهة أخرى ،بخلطه المتعمد بين صفته قائدًا أعلى للقوات المسلحة العسكرية والقوات المسلحة الأمنية في مخالفة صريحة للدستور،ودفع وزير الداخلية إلى القيام بتغييرات على رأس إدارات حساسة دون الرجوع إلى رئيس الحكومة،وهو ما دفع هذا الأخير إلى إقالة وزير الداخلية توفيق شرف الدين الذي يُعَدُّ من رجالات الرئيس سعيد داخل الحكومة.
ولذلك شكلت الإقالة حدثاً بارزاً في علاقة رئيس الجهورية برئيس الحكومة،في الوقت نفسه، لأنها إعلان عن فك الارتباط نهائياً بينهما، وميل المشيشي أوانضمامه إلى الأغلبية البرلمانية (حركة النهضة وائتلاف الكرامة وقلب تونس) التي لا تخفي بدورها صراعها مع سعيّد.
وقاد هذا الحدث إلى إعادة طرح الجدل الدستوري حول حدود صلاحيات رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، في مجالي الأمن و الدفاع،لا سيما عندما صرّح الرئيس سعيد أنَّه القائد الأعلى للقوات المسلحة وقوات الأمن الداخلي.فيطل علينا هذا الصراع بين رأسي السلطة التنفيذية من جديد،بسبب غياب المحكمة الدستورية التي وحدها تمثل المرجعية الحقيقية في تفسير الدستور.لكنَّ تونس التي تتفاخر بثورتها الديمقراطية،عجزت لحدِّ الآن عن إرساء المحكمة الدستورية رغم مرور ست سنوات كاملة من تاريخ المصادقة على الدستورفي 14كانون الثاني/يناير2014،حيث واجهت مؤسسات الدولة طول هذه المدة مشاكل دستورية جدية وخطيرة، تحتاج إلى تدخل المحكمة،فتجاوزت البلاد هذه المشاكل بأضرار كبرى.
في ظلّ غياب المحكمة الدستورية،من يفسر الدستور؟ ومن يفصل النزاع بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة؟فالصراع بين رأسي السلطة التنفيذية،لا يتعلق بالنزاع حول الصلاحيات،بل يتعداه لتقييم طبيعة النظام السياسي في الباب المتعلق بالسلطة التنفيذية،ومراجعته إن اقتضى الأمر.
وحين يقول رئيس الجمهورية أنَّه القائد الأعلى للقوات المسلحة، فالقوات المسلحة،حسب خبراء القانون الدستوري تشمل كل القوات التي تنشئها الدولة و تحمل السلاح(الفصل 17 من الدستور)وتتكون من (الديوانة،أي الجمارك،والشرطة و الحرس الوطني).هذا إذا أخذنا تفسير العيارة على إطلاقها وفق مانص عليه الفصل 533 من مجلة الإلتزامات والعقود،وعليه،فإنَّ القوات المسلحة كعبارة مطلقة تجري على إطلاقها، وهي موحدة لا تتجزأ، والتجزأة الداخلية هي تجزأة فنية وظيفية.
وسيظل هذا الخلاف الدستوري قائمًا بين رأسي السلطة التنفيذية في ظل غياب الحواروالتواصل بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة،لكنَّ من الممكن إيجاد بدائل مؤقتة إلى حين تركيز المحكمة الدستورية،بشأن النظر في توحيد السلطة التنفيذية،تتمثل في الاستئناس برأي الهيئة المؤقتة لمراقبة دستورية مشاريع القوانين،لأنَّه لا رئيس الجمهورية،ولا رئيس الحكومة،ولا غيرها حتى المختصين في القانون الدستوري له صلاحيات تأويل رسمي لهذه التفاصيل الدستورية.أما اجتهادات رئيس الجمهورية حتى و إن كان متخصصا في القانون الدستوري، تظل اجتهادات رسمية،وتحتاج هي الأخرى لمصادقة المحكمة الدستورية.
ضعف الدولة في مواجهة مافيات الفساد والاقتصاد الموازي
قبل عشر سنوات استلمت حركة النهضة السلطة في تونس،لكنَّ النخبة الحاكمة الجديدة،سرعان ما أصبحت متواطئة مع الفساد.فبعد سنة 2011، ارتخت قبضة الدولة التونسية،فازداد الفساد شراسة في البلاد.وأجمع عدد من المختصين والعارفين على أنَّ أثرياء الثورة الجدد هم في الأساس تجار التهريب وتبييض الأموال إلى حدّ أنَّ أحد المختصين قال إنَّ المجتمع التونسي صار شبيهًا بالمجتمع الايطالي الذي تسيطر عليه المافيات.
وفي الآونة الأخيرة فجرت حادثة ميناء سوسة قضايا الفساد دفعة واحدة ،إذ تجد مواد غذائية فاسدة في بلدانها (مثل القمح الصلب و اللين المسرطن المستورد من أوكرانيا)،طريقها إلى تونس عبر هذا الميناء،ومزابل إيطاليا السامة يتم جلبها عبر ميناء سوسة ودفنها في القيروان،وقطع غيار آليات مقلدة خارج القانون والمواصفات الصناعية، وما كان لها أن تجد تلك المواد الفاسدة الطريق لولا طبقة من الفاسدين تطوف العالم بحثا عن شحنات عادمة أو سلع مضروبة تدخلها إلى تونس سواء عبر ميناء سوسة أو ميناء رادس التجاري الكبير ،وتقبض مقابل ذلك .
ليس ميناء سوسة وحده يشكل بؤرة حقيقية للفساد،بل كل الموانىء التونسية،ويأتي في طليعتهم ميناء رادس في تونس العاصمة،ثم ميناء صفاقس،وميناء بنزرت في الشمال،وميناء جرجيس في الجنوب التونسي،ففي هذه الموانىء تَشَكَّلَ،ونَمَا فسادٌ كبيرٌ مختلفٌ عن الفساد الذي أشار إليه تقرير الأستاذ عبد الفتاح عمر.إنَّهُ فسا دٌ زِئْبَقِيٌّ يُحْسِنُ التَخَّفِي ويَعْمَلُ بِصَمْتٍ ولا يُرَكِّزُ عليه الإعلام المأجولا،بل يُغَطِّيهِ بِذَكَاءٍ.ويَسْتَقْوِي هذا الفساد بالمافيات المتعشعشة في الإدارات التونسية العليا،حيث يلعب المدراء العامون والكوادر دورًا رئيسًا في إخفاء ملفات الفساد في أدراج الإداراة،نظرا لمعرفتهم بتراتيب الإدراة وقدرتهم على التحايل عليها.
وعجزت كل الحكومات السابقة التي تشكلت في تونس ما بعد سنة 2011 ،عن مواجهة الفساد المستشري في الموانىء التونسية،ولا سيما ميناء العاصمة التجاري رادس،فكأنه مقاطعة مستقلة تحت حكم النقابات (نقابات العتالين/ مليشيا النقابة الكبيرة ونقابات الديوانة التي حاصرت محكمة سوسة كي لا تتم محاكمة زملاء وصلهم الاتهام في قضية المزابل الإيطالية). من الموانئ يأتي فساد لا قِبل لأحد به والجميع يعرفون ذلك ويخافون، لذلك يقول الجميع إنَّ الفساد دولة داخل الدولة التونسية،بل هو الدولة الحقيقية التي تسَيِّرُالأمورفي البلادِ.
و فيما توجه الاتهامات إلى رؤوس الجمارك وأعوانها وإلى متواطئين معهم في الإدارة في الوقت الحاضر،لكنَّ وزارة التجارة تُعَدُّ مكمنًا جيدًّا لهؤلاء الفاسدين ، فمن هناك تُسْتَخْرَجُ موافقات الاستيراد،وتُعَايِنُ السلع الْمُوَرِّدَة ،وتَنْجُو من كلِّ رقابةٍ، فَتَصِلُ المواطن فاسدة. ويمكن تخيل الأثمان المدفوعة في الطريق.. شبكات منسوجة بدقة وإحكام لم يمكن كشفها وإن كانت آثار سلعها في أجسام الناس سمومًا.
وفضلاً عن فساد الديوانة(أي الجمارك) في الموانىء التونسية، تقول السلطات التونسية إنَّ ممارسة التجارة الموازية ضخت خلال السنوات الأربع الماضية ما بعد 2011، أكثر من 5 مليار دينار (حوالي 2.5 مليار دولار) لفائدة شبكات الإرهاب التي يقودها “الأثرياء الجدد”.أنماط استهلاك تظاهرية مع بروز “طبقة الأثرياء الجدد” اخترقت المجتمع التونسي ظاهرة ما يعرف في علم الاجتماع بـ”أنماط الاستهلاك التظاهر” لتتفشى سلوكيات استهلاكية لا تعكس فقط حدة الفوارق الاجتماعية، وإنما تؤجج لدى أكثر من 70 في المئة من التونسيين المنتمين للطبقتين الوسطى والفقيرة نوعا من الحقد الاجتماعي، يرافقه سخط على السلطة السياسية التي خذلت غالبية التونسيين بعد أن ساهمت سياساتها الفاشلة وغير العادلة في تقسيم الخارطة الاجتماعية إلى” ثلاث جزر”كل جزيرة تمثل “مجتمعا قائما بذاته”:”جزيرة الأغنياء” التي تعلو سلم الهرم الاجتماعي، “جزيرة الفئات الوسطى المتآكلة” و”جزيرة الفقراء”الغارقة في مستنقع الدرك الأسفل من الهرم.
رغم الأعمال التي أنجزتها لجنة تقصي الحقائق عن الفساد بعد سنة 2011، ورغم ترسانة القوانين والتشريعات والمراسيم التي صدرت في تونس،ووجود هيئة وطنية لمكافحة الفساد في تونس برئاسة الأستاذ شوقي الطبيب سابقًا،فإنَّه يمكن القول إنَّ الدولة التونسية فشلت فشلاً ذريعًا في مكافحة الفساد لعدَّةِ أسبابٍ:
لقد اعتقد الشعب التونسيي أنَّه وبمجرد سقوط نظام بن علي سينتهي النظام الفاسد والفساد، ولكنَّ تم إهمال نقطتين، وهما الواقع السياسي وميزان القوى،الذي كان مائلاً بشكل كبير لمصلحة حركة النهضة التي استلمت مقاليد الحكم في البلاد بعد سنة 2011،واستطاعت أن تلتف على عديد المكاسب التشريعية،وأن تدجن المؤسسة القضائية في تونس التي تُعَدُّ مؤسسة فاسدة وغير مستقلة،بحكم اختراقها من قبل حركة النهضة للتستر على ملفات الفساد و الجرائم الإرهابية التي ارتكبت في عهدها.
بعد عشر سنوات تشهد تونس بداية صحوة قضائية مع أعمال حاكم التحقيق والنيابة العمومية بسوسة على خلفية ملف النفايات الإيطالية السامة ،حيث لأول مرَّة يتم عزل وزير مباشر وإيقافه ،وكذلك إيقاف رئيس حزب سياسي له نفوذه وحضوره في السلطة و الحكومة هو نبيل القروي،وهذا كله بفضل المجتمع المدني والإعلام والمبلغين على الفساد، وأحزاب ونواب أخذوا على عاتقهم التصدي لمافيات الفساد.
رغم هذه التطورات المهمة التي شهدتها بعض الملفات المتعلقة بالفساد السياسي،فإنَّ الشعب التونسي ومكونات المجتمع المدني والأحزاب الوطنية والديمقراطية،لا يعتقدون أنَّ هذه التطورات حصلت في إطار رغبة صادقة، ولا إرادة سياسية واضحة من جانب رئيس الحكومة المشيشي،الذي تخلى عن مصطلح مكافحة الفساد في تسمية وزارة الحوكمة والوظيفة العمومية، حيث أكَّدَ أنَّ الفساد يكافحه القضاء، متناسيًا أنَّ هناك دورًا سياسيًا وحكوميًا في مكافحة الفساد، من خلال تفعيل دورالهيئات الرقابية الرسمية ومنحها الثقة من دون أية ضغوطات لأداء مهامها.
خاتمة:حوار وطني أم إصلاح اقتصادي واجتماعي وسياسي
هل تشكل مبادرة الاتحاد العام التونسي للشغل إجراء الحوار الوطني، خشبة الخلاص للخروج من الأزمة الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية التي تعيشها تونس؟
في الواقع لا يبدو أنَ مثل هذا الحوار الوطني سيكون مُنْتِجًا، لا سيما بعد أن اشترط الرئيس التونسي قيس سعيد تبنيه لهذه المبادرة،و الموافقة على الإشراف على الحوار الوطني، من خلال إقصاء الحزب الحر الدستوري، وائتلاف الكرامة ، وهي الكتلة البرلمانية الرابعة في البرلمان، واستبعاد القوى المتهمة بالفساد، وهو يشير ضمناً إلى حزب قلب تونس، القوة الثانية في البرلمان الحالي، وإحدى أهم القوى الداعمة لحكومة هشام المشيشي، بالإضافة إلى اشتراط الرئاسة مشاركة ممثلين عن شباب الجهات، وهو ما سيظل مقترحاً غامضاً، فلا أحد يدري كيف سيتم اختيار هؤلاء الممثلين، وهل المقصود بهم ناشطو التنسيقيات التي أيدت الرئيس في الانتخابات الرئاسية الماضية. أما حركة النهضة فتطالب بحوار وطني لا يقصي أي طرف، وهي في هذا تحاول إدماج حليفيها، قلب تونس وائتلاف الكرامة، ضمن أي حوار وطني مقبل.
يرى المراقبون في تونس أن فرض الرئيس قيس سعيد لشروط إقصاء بعض الأطراف السياسية الممثلة في البرلمان ،والتي تمتلك شرعية انتخابية، يطرح سؤلاً حول إمكانية أن تكون هذه الخطوة التي انتهجها رئيس الدولة عنوانًا لحربه الفعلية على الأحزاب السياسية في تونس؟
وفضلاً عن ذلك، يبدو أن مبادرة الحوار الوطني التي طرحها الاتحاد ولدت ميتة، في ظل مشهد سياسي تونسي يتسم بالتشظي و التفتت، وغياب الشخصية السياسية الوطنية الجامعة،وعجز مختلف الأطراف عن بلورة مشروع وطني د يمقراطي للخروج من الأزمة البنيوية التي تعيشها تونس،من خلال طرح الأمور التالية:
أولآً:استبدال منوال التنمية المعتمد في نظام الحكم في تونس منذ ما قبل الثورة وإلى اليوم، والذي وصل إلى مأزقه المحتوم في سنة 2011، لأنه منول تنموي عمَق الفروقات بين الجهات ويفتقد للنجاعة.تونس بحاجة إلى إبداع نموذج تنموي جديد يقوم على بناء الاقتصاد الاجتماعي، واسترجاع الدّولة لدورها في عملية بناء القطاعات الاقتصادية الاستراتيجية، مثل الصناعات الثقيلة، والصناعات التي تعتمد على التكنولوجيات المتقدمة، والزراعة،وتوزيع الثروة بشكل عادل،والنهوض بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للفئات الاجتماعية الأكثر هشاشة وفقرا .
ثانيًا:خوض الحرب بلا هوادة ضد معضلتين مترابطتين: الفساد والاقتصاد الموازي، أحدهما يغذي الآخر ويزيد في مراكمة ثروات القلّة المستفيدة على حساب غالبيّة الشعب. استعادة الأموال المنهوبة من قبل رجال الأعمال الفاسدين ، والقيام بالعدالة الجبائية لتحصيل مليارات الدينارات ، بدلاً من أن تذهب سنويًا إلى جيوبِ الفسادِ والتَهَرُّبِ الضَرِيبِيِّ. كل هذه الأموال إذا عادت إلى خزينة الدولة التونسية بإمكانها تقديمِ الكثيرِ من الحلول للفقراء وجحافل الشباب العاطل عن العمل.
بعد عشر سنوات،تعيش تونس في ظل وباء كورونا، لينضاف لوباء الفساد،ووباء التهميش التاريخي الذي تعيشه محافظات تونسية بأكملها في الشمال الغربي ،والوسط ،والجنوب،حيث يتعايش الخوف والقلق مع اللامبالاة، والفقر والشعور بالعزلة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى