هكذا تحدث جمال عبد الناصر
بقلم: د. موسى الحمداني/ لندن
في مثل هذه الأيام قبل أكثر من قرن خرج الى الدنيا جمال عبدالناصر ليعيش حياةً حافلةً بالكفاح والأحداث قلما يعيشها بشر. أدرك منذ مطلع شبابه الِمحَن التي كان يمر بها وطنه تحت وطأة الاحتلال، وتشرب هموم شعبه الذي كان يعيش على الهامش ويتحكم به قِلَّةٌ من الأجانب وأعوانهم من أصحاب رأس المال، فعقد العزم على أن يبذل كل ما في إستطاعته ليطرد الأجنبي و يعيد لشعبه حقوقه المغتصبة. منذ بزوغ نجمه كان جمال عبدالناصر زعيماً ملهماً لشعبه ولأمته العربيه ولشعوب العالم المغلوبة على أمرها.
كان يخاطب شعبه بعفويته المعهودة و تلقائيته التي اشتهر بها، و كان مخلصاً صادق النيه في حديثه الذي كان يخرج من قلبه ليدخل في قلوب الملايين و يستقر في أذهانهم و ذاكرتهم. وربما كان هو الوحيد من بين الحكام العرب الذي كان يسمعه الناس ويفهمون ما كان يقول، فقد كانت خطب غيره من الملوك و الرؤساء تبدوا و كأنها إعادة لمقطوعات إنشائية فارغة من المعنى لأن قائلها لم يكن لديه ما يقوله. وبالمقابل كان عبدالناصر يتحدث حديثاً واضحاً صافياً خالياً من تلك المراوغات الكلامية التي اشتهر به أهل السياسة الذين يحومون حول الموضوع مخافة أن يتناولوه. وأهم من ذلك كان عبدالناصر يقول ما في خُلْده من غير رتوش أو تمويه ومن غير أن يخشى لومة لائم من قادة الشرق أو الغرب فقد كان زعيماً مطلق الحرية و كامل الاستقلال و لا يخضع لأية تأثيرات خارجية.
لم يكن أديباً ولا شاعراً ولا خطيباً ولا أراد أن يكون، ولم يمتلك أياً من مَلَكات الخطباء بل ربما كان سيفزع لو أشير إليه بشيء من ذلك. كانت أكثر خطاباته مرتجلة و أقرب إلى الحديث الودي مع جماهير شعبه، ومع ذلك فقد كان لها تأثير السحر في تلك الجماهير. إذا كان مقياس قوة الخطابة هو تأثيرها في الجماهير فَقَلَّ في تاريخنا من ينافس عبدالناصر. فخطاب التأميم مثلاً كان طويلاً وكان يفترض به أن يكون مملاً لناس بسطاء من عامة الشعب لما كان فيه من إسهاب وتفصيل. لكن تًسًمًّرَ الناس و هم يستمعون لقائدهم الفذ وهو يسرد عليهم أحداث قرن من تاريخهم الحديث و ما أن جاءت مفاجأة التأميم حتى انفجرت الجماهير بالهتافات والزغاريد من أقصى مصر الى أقصاها. فالخطاب إذاً لم يكن مملاً حتى لبسطاء الشعب الذين فهموا كل كلمة و أدركوا ما يعنيه التأميم. و كذلك قَلَّ في تاريخنا ما ينافس تأثير خطاب التنحي الذي ألقاه جمال عبدالناصر و هو كسير القلب ويحمل من هموم الدنيا ما لا يقدر عليه بشر، و مع ذلك كان له مفعول السحر في الجماهير العربية، والتي كانت أيضاً مهمومة حزينة و كسيرة القلب. ألم نقل أن كلماته كانت ”تخرج من القلب وتدخل في القلوب“؟
وذهبت بعض عباراته لتصبح أيقونات وطنية خالدة تتعلم منها الأجيال، فمثلاً:
حثّنا على الإعتزاز بأنفسنا و عروبتنا عندما نادى ”ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعباد“. وما أنبله من نداء، خاصة في مصر، التي لم يحكمها واحد من أبنائها من آلاف السنين.
وهو الذي بشر شعوب العالم الراضخة تحت نير الاستعمار بالحرية عندما قال ”على الاستعمار أن يحمل عصاه على كاهله ويرحل“، وهي العبارة التي كانت في بال رئيس الوزراء البريطاني هارولد ماكميلان عندما قال جملته المشهورة ”إن رياح التغيير تهب على إفريقيا“.
وتعلمنا منه العدل الاجتماعي عندما قال ”لا يمكن أن يكون الذل إرثاً والفقر إرثاً …“ و عندما قال ” أنه لا بد من القضاء على أستغلال الإنسان لأخيه الإنسان“،
و تعلمنا منه عن طبائع الاستعمار عندما قال ”لا بد من القضاء على تحالف الاستعمار مع الإقطاع و رأس المال“، وعندما حذرنا من مخاطر ” الاستعمار السياسي عن طريق الاستعمار الاقتصادي“.
وبعد النكسة تعلمنا منه ”أن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة“.
تلك العبارات الخالدة كانت مهمة في زمانها ولا تزال مهمة في زماننا وستكون أيضاً مهمة للأجيال المقبلة. وهذا سر إصرار القوى السوداء المعادية لمسيرة عبدالناصر على التشويش عليها ووصفها بأنها جعجعات لم يكن قائلها يعني منها شيئاً. و عبدالناصر كان أبعد الناس عن الجعجعات: فعندما قال ثورة أنجزها، و عندما نادى بحقوق الفلاحين أنصفهم بقوانين الإصلاح الزراعي، وعندما قال إن القنال لمصر قام فوراً بتأميمها، و عندما قال سنبني السد العالي كان يعني ذلك وفعلاً بناه، و عندما قال الوحدة العربية حققها …
و في هذه الأيام نستذكر تلك الدروس الوطنية بحنين خاص. فنحن اليوم لا نسمع من الحكام العرب إلا أصوات هرولتهم لمصالحة اسرائيل والتطبيع معها ولا نقرأ من أخبارهم إلا عن تلك الاجتماعات والمؤتمرات مع ”صديقهم“ الاسرائيلي. ومع أن تلك العلاقة مع إسرئيل ليست جديدة إلا أن الجديد هو انتقالها من مرحلة السر الى العلن مما يعتبر خطوة كبيرة في هبوطهم الوطني والأخلاقي. و كما يقول المثل العربي ”إذا لم تستحي فافعل ما شئت“ فالآن لا حد لفجورهم و خلاعتهم السياسية. و الاعلام الرسمي العربي ليس له همّ سوى تبرير ذلك الاستخذاء المخزي والتطبيل له وإظهاره وكأنه عين التعقُّل و والذكاء و الطريق المنطقي لمستقبل مشرق! ما نراه الآن من تسابق حكام التطبيع إلى مستنقع الخيانة و الرذيلة ليس غريباً على حكام صنعهم الغرب تماماً كما صنع إسرائيل و تكفل بحمايتهم كما تكفل بحماية إسرائيل.
ما نراه الآن من تصدع في جدار الصمود العربي كانت إسرائيل تأمل حدوثه في غضون سنين معدودة من قيام كيانهم الصنيع. فالدول الاستعمارية كانت تعج بخبراء علم النفس الجماعي الذين نجحوا في تغيير عقائد الشعوب في المانيا (denazification) واليابان، و لكن ظهور عبدالناصر بعد سنة ١٩٥٢ أفسد عليهم خططهم بسبب تنامي الإحساس القومي العربي و ازدياد الأمل بإمكانية استئصال ذلك الجسم الصهيوني الغريب من أرض فلسطين.
و من أهم ضروريات التطبيع هو التشويش على سيرة جمال عبد الناصر وسياسته المعادية للكيان الصهيوني وإظهارها بأنها كانت متهورة و أن رفض الأمة العربية لإسرائيل ما كان إلا نتيجة أوهام زرعتها دعايته في الشعوب و استغلها لمصالحه الخاصة. و الحقيقة التي لا مراء فيها أن رفض الشعوب العربية لقيام إسرائيل كان مبدئياً وقوياً و نابعاً من إحساسها الوطني (و كان ذلك قبل ظهور عبدالناصر) و كان لا مناص للحكام العرب وقتها إلا التجاوب مع ذلك الشعور القومي. و طبعاً تأجج ذلك الاحساس الوطني بعد نجاح ثورة يوليو و ظهور قائدها الوطني المستقل جمال عبدالناصر والذي كان يعبر عن آمال العرب وتطلعاتهم.
بعد نجاح الثوره، و حتى قبل سطوع نجمه، نادى جمال عبد الناصر بني قومه قائلاً ”إرفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعباد“ وفعلاً رفعت أمته رأسها عالياً به. رفع الفلاح المصري رأسه عالياً لأول مرة بعد أن رُدَّتْ إليه كرامته و حقوقه و أصبح يعامل كالبشر. ورفع العامل المصري رأسه و رأى المصانع تشيد بالمئات و أنه يمتلك حصة فيها. ورفع الشباب المصريون رؤوسهم ليروا كيف أصبح التعليم في المدارس والجامعات متاحاً للجميع، كالماء والهواء. كان العربي يرفع رأسه و يرى رايات الحرية ترفرف على أوطانه و رايات الوحدة العربية خفاقة في دمشق و القاهرة . وفي الأفق كانت تبدوا أعلام مصر و هي ترفرف فوق قناة السويس التي أصبحت (لأول مرة) مصرية، و فوق السد العالي الذي تم بناؤه بسواعد مصرية و رغم أنف القوى الاستعمارية، و كذلك كانت تبدوا أعلام التحرر الوطني في الجزائر واليمن …
نتذكر جمال عبدالناصر في يوم مولده (وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر) و نستميحه عذراً على ما وصلت اليه أمته في هذا الزمان الذي انتكست فيه العزة والكرامة و انعكست فيه القيم والاخلاق فأصبحت الوطنية تهوراً و الخيانة تعقلاً والرجعية تديناً و …
فمعذرةً يا من علمتنا العزة والشرف و يا من رفعت قامة أمتنا بين الأمم، لكن العربي اليوم لا يرفع رأسه، وكيف يرفعه و قادته منبطحين على الارض؟ وحتى إذا رفعه فإنه لن يرى حوله إلا ما يؤذي بصره و يقبض قلبه. إذا رفع العربي رأسه في هذا الزمان فإنه سيرى أوطانه و قد تقطعت أوصالها وأصبحت تعج بالقواعد العسكرية الأميركية وغير الاميركية. وسيرى أعلام إسرائيل ترفرف على سفاراتها في عواصم التطبيع، وسيسمع المطبلين والمزمرين يتغنون بخيبة حكامهم الذين لا يطيب لهم غداء ولا عشاء إلا إذا كان على مأدبتهم ضيف صهيوني.
معذرة يا من افنيت عمرك لتحرير الأمة العربيه، و يا من جاهدت في فلسطين وقضيت وأنت تدافع عنها، فنحن اليوم في زمن غير الزمن، حتى أنني أغالب نفسي كي لا أقول: لا ترفع رأسك يا أخي … فنحن في عصر الاستخذاء.