مقدّمات “حضاريّة ” جديدة في تفاهمات “ثقافيّة ” دوليّة فارقة

1▪︎ يشهد عالمنا اليوم توسّعاً في “الثّقافة” و التّواصل و الاتّصال ، و يجري تطوير هذا النّموذج الثّقافيّ سريع الأثر و المردود بواسطة اختراعات معاصرة يبدو أنّ ثمّة خلافات و اختلافات حولها ، بينما تقوم النّزاعات عليها من منطلق التّفوّق في إحداث الأثر و مردوديّة ذلك من النّاحية التّجاريّة و الماليّة و الاحتكاريّة ، في تحقيق السّبق الأوّل في هذا المجال ، و هو ما يُبدي ملابسات توحي بالخلاف على أخلاقيّات التّطوّرات و “ إنسانيّتها ” ، و ليسَ الأمر على ذلك و لا بحال.
2▪︎ و يُخفي هذا المنظر وراءه فروضاً على العقل البشريّ و الادّعاءات الإنسانيّة شكلاً منحرفاً للحضارة عمّا جاءتنا به “الحداثة” ، أو بالأحرى يجري اليوم أفظع انقلاب على “الحداثة” التي مرّتْ و مُرّرَتْ إلينا ، علينا ، بتصميماتٍ مُتقنةٍ من المُصطلحات و الأفكار التي لم تكن مقصودة بذاتها ، بقدر ما كان المقصود منها فكرة “التّنظيم” أو الفكرة الأولى من تنظيم العالم وراء الأوهام.
3▪︎ أخذتنا معزوفة “ الحضارة ” بعيداً عن حقيقة البشر بواسطة عاطفيّات و عواطف إنسانيّة كان لها أن تستبدّ معشّشة في أدمغتنا الطّيّبة أو السّاذجة ، بحيث أنّ القوى التي كانت وراء “ الحداثة ” في المعزوفة الحضاريّة الحديثة و المعاصرة ، هي القوى العالميّة و الفكريّة نفسها التي تقوم اليوم بهذا الانقلاب الكبير على جوهر “ الحضارة ” المزعومة ، لتخلّف لنا منها وراءها بعضَ ذكرياتٍ و كثيراً من التّجريد الآليّ ، المتمثّل بالتّكنولوجيا التي بشّرت بها أفكار “الحداثة” و أفكار ما بعد “الحداثة” ، نفسها ، على أنّها مستقبل العالم..
أو أنّها الأيديولوجيا المقبلة للعالم كما يبوح بذلك بصراحة غير فاضحة ( يورغان هابرماس ) في كتابه التّقليديّ المبكّر بعنوانه “ العلم و التقنية كأيديولوجيا ” و الذي لا نظنّ أبداً أنّه ينطوي على أيّ بعد منظوميّ أخلاقيّ اعتادت الإنسانيّة عليها ، و إنّما تجاوز فيه جميع ما يجعل فكرة أنّ التّكنولوجيا (التّقنية) تهدّد مستقبل العلاقات البشريّة كما هو حاصل في عالمنا اليوم.
4▪︎ يُخفي هذا الأمر في طيّاته الكثيرَ من الأسئلة شبه الوجوديّة التي تعترض الفكر الإنسانيّ و الاجتماعيّ اليوم ، و يخفي بشكل أكبر جملة من الاحتمالات المؤلمة و المؤسفة بالنّسبة إلى الشّعوب في جميع أنحاء العالم ، و لو كان الجزء الأكثر تضرّراً من هذا “الانعتاق” من التزامات “الحداثة” ، الذي أصيب و سوف يُصاب أكثر بكارثيّة التّحوّلات العالميّة ( الحضاريّة ) هو شعوب الأمم الضّعيفة و المتخلّفة ، كما هو عليه الوضع مع شعوبنا في الجغرافيّات التّابعة و المُلحقة سياسيّاً و اقتصاديّاً و الشّعوب الأخرى الشّبيهة بنا ، من حيث الموقع السّياسيّ و الاجتماعيّ العالميّ المتدنّي في قائمة الأمم و المجتمعات و الشّعوب.
5▪︎ يحفل تاريخ العالم بالكثير من أخبار الإمبراطوريّات و الأيديولوجيّات التي عبَرَتْ و تعبُرُ أمامنا اليوم ، نحو مستقبل شبه مجهول على رغم ما كان لها من اتّساع رقعة جغرافيّة و ذهنيّة و سلطان ضخم أو شبه شموليّ و كلّيّ ، إلى درجة يكون معها علينا أن نقرّ بمبدأ التّحوّلات التّاريخيّة المفاجئة للبعض و غير المفاجئة للبعض الآخر ، و التي ستَتّخذ حتماً مسارات غير بيّنة بعد ، على رغم الإيحاءات الواقعيّة الشّديدة التي تبشّر بها ، سواء أردنا أخلاقيّاً أم لم نرد ، لا سيّما أنّ “مصلحة” قلّة في العالم تتّسع ببنيتها السّلطويّة و المتسلّطة و انطلاقاً من أفكار و قناعات و معتقدات قمينة بالفحص و التّحقيق ، و بقدر ما تنغلق هذه القلّة على أعداد قليلة و تقلّ بازدياد ، إنّما تخلق منظومات معرفيّة و أخلاقيّة جديدة لم تعهدها “ المعرفة ” التّقليديّة بجميع ثوراتها الإبستميّة المعروفة و النّاجزة أو غير النّاجزة حتّى الآن ، كما لم تعهدها أيّة منظومة أخلاقيّة واقعيّة أو دينيّة معروفة للبشريّة.
نحن أمام تجريبيّات معاصرة مباشرة و موحية على ما ينتظر العالم قريباً من انزلاقات.
6▪︎ و إذْ رغب سابقاً كثيرٌ من “ السّادة ” أن يحكموا العالم أو يحكموا عوالمهم باسم الآلهة عبر تحالفات في ما بينهم أو بدون تلك التّحالفات ، فإنّ واقع التّحالف العالميّ بين “الأسياد” و الحكّام هو أمر ضروريّ بالمطلق ، لتحقيق السّرعة التي يرى هؤلاء جميعاً و عبر قناعاتهم و مشاريعهم و ذويهم و جماعاتهم و قواهم ، أنّها لابدّ منها لضمان استمراريّة أفكارهم و مواقعهم مباشرة و غير مباشرة ، و ضماناً في الحدّ الأدنى لبقائهم في مستوى النّسق الثّقافيّ الذي يُشرّع للعالم الأفكار و القيم و المصلحة و المعرفة في آن واحد.
و في أثناء ذلك يعمل هؤلاء على اجتذاب “نخب” مجتمعاتهم و شعوبهم أو ما يعتبرونه هم كذلك “نخبة” ، وفق معاييرهم التي انغلقت في محدوديّات من قيم الملكيّة و الثّروة التي بواسطتها عليهم أن يغزو الآخرين من الشّعوب في مجتمعاتهم و في غير مجتمعاتهم أيضاً ، تحقيقاً لأسطورة التّفوّق الكاذبة و الفارغة ، ليعودوا إلى ما كان عليه أسلافهم الأولّون الذين ادّعوا الألوهيّة أو تعاضدوا ، على الأقلّ ، مع الآلهة وفق ما زعموا قديماً و ما يزعمون اليوم ، في عمليّة من عمليّات تحويل شعوب الأرض إلى رهائن مهزومة و عاجزة ، و هو ما يتطلّبه مبدؤهم في الحكم و الإلغاء و الدّمار و التّدمير لقيم الآخرين.
7▪︎ نحن هنا نصفُ و نوصّفُ و نُدركُ أنّه من العبثيّة و الطّوباويّة و محدوديّة الإدراك و ضَعف البصيرة مقاومةُ تيّار جارفٍ في حضارة اليوم ، و لكنّنا في الوقت نفسه نُقرّ بأنّ الأفكار هي التي تصنع العالم و التّاريخ قبلَ أن تتحوّل إلى مصالح.
من المعرفة إلى المصلحة يتمّ تصنيع الأخلاق المناسبة لكلّ ظرف و زمان و عصر. هذه هي قيم البراغماتيّة التي تعمّ عالمنا باطّراد و هذه هي أخلاق العبيد التي تتحوّل إلى أخلاق سادة في عالم يشهد تدمير نفسه ببلاهة و انتفاخ و رويّة من الوهم ، الذي ينتشر فيه كثقافةٍ قامت مقام حضارة بشريّة و تفوّقت عليها في غضون أقلّ من نصف قرن.
8▪︎ يُسَخّرُ لأجل هذه الانقلابات “الثّقافيّة” ذروة ما وصلت إليه حضارة العالم بحيث تُصبح معادلة الثّقافة – الحضارة مقلوبة تماماً. و حيث تبعت الثّقافةُ الحضارةَ في تاريخ البشريّة فكانت الثّقافة جزءاً من الحضارة ، فإنّه يحصل اليوم العكس بأن تُصبح الحضارة نفسها بتقنياتها و مكتسباتها العمليّة و المادّيّة و النّفسيّة و المعرفيّة جزءاً وحسب من الثّقافة المتحوّلة في العالم بفعل استباقات افتراضيّة ، و قد تحوّلت إلى قناعات مطلقة و دخلت في بنية التّصوّرات البشريّة الثّقافيّة المتحصّلة بعوامل عديدة ماليّة و اقتصاديّة و عسكريّة و عنفيّة و تربويّة ، و باختصار بجميع العوامل المشكّلةو المؤلّفة للثّقافة ، و أنتجت هذا النّموذج الثّقافيّ المتجاوز الذي عليه بعد الآن ربّما قيادة التّحوّلات الحضاريّة المقبلة بما فيها التّحوّلات المعرفيّة التي تشتقّ لها اليوم نماذج ثقافيّة مستقبليّة ، يلعب فيها العبث نفسه دوراً رياديّاً و قد صار أحد مكوّنات الواقع العالميّ بأهدافه المُريبة.
9▪︎ كنّا كما كان الجميع إلى حين ننظر إلى المعرفة نظرة تفوّقيّة بما هي المعرفة نتاج للعقل الفعّال . و حيث تجري اليوم تحوّلات جذريّة في النّظرة إلى العالم ، فإنّ السّطحيّة الثّقافيّة التي تحتاج إلى القليل جدّاً من الجدّيّة المعرفيّة المتحقّقة بالتّعليل ، إنّما تتجاوز في حجمها قيمتها الفعليّة في مشروع مقصود من تسطيح الأدمغة و معه تسطيح النّماذج و الأنماط الجاذبة في أنساق التّفكير ، لتحويل هذه الأخيرة إلى مستهلِكات و مستَهلَكات آنيّة تخدم غزارة تنوّع السّوق العالميّة و سرعة تبديل التّبادلات و المقتنيات فيها و عدم رسوخ القيمة أبداً في النّموذج أو في النّمط ، و بالتّالي في منظومات الأفكار و أنساق الفِكَرِ و آليّات التّفكير.
هكذا صارت قيمة العقل التّأمّليّ أو الفلسفيّ هي في الدّرجة الأخيرة في قائمة القيم ، و ربّما يُشاع على أكثر الطّرق سطحيّة و تفاهة في التّعامل مع العالم و الأشياء على أنّها أكثر الطّرق فاعليّة بالنّتيجة العمليّة ، جرّاء أنماط الإعلام التي تتصدّر صياغة الوعي الثّقافيّ الجديد بما فيه من مغالطات خطيرة و وقحة و مقصودة ، لتبديل معالم نسق الأفكار القديم و تغييره في قنوات جديدة للتّفكير ، سوف تكوّن بعد وقت وجيز علامتها الرّائجة بين الجميع تلقائيّاً ، بمن فيهم ممّن يُصنّفون أنفسهم من ضمن قائمة أعدائها اليوم.
تسخيف قيم المعرفة هذا قاد العالم إليه مباشرة نخبة “معرفيّة” تقليديّة رأت في “المعرفة” البشريّة الثّابتة و المستقرّة و المتقدّمة عبئاً عليها هي نفسها ، فاختارت تسطيح أدمغة البشر تحقيقاً لأغراضها في إطار غاياتها في التّفوّق القائم على تدمير الجميع.
10▪︎ قليلة جدّاً و تقِلُّ أيضاً تلك الموارد العقليّة التي تعتمدها ثقافة النّخبة العالميّة اليوم بما هي مقدّمة لحضارة أو لبداية حضاريّة جديدة عنوانها الرّئيسيّ هو الاسترقاق العقليّ ، لتعميم الرّق السّياسيّ الذي يغزو البشريّة بالتّدريج منذ نصف قرن ، بما حفل به هذا الزّمن من مواصلة سريعة و عميقة و بتواترات عاليّة التّردّد و سريعةِ زمنِ التّكرار لجميع المنجزات التي حقّقها هذا المشروع الثّقافيّ العالميّ التّاريخيّ ، الذي بدأ فعليّاً مع “الحداثة” العالميّة بما سخّرت لها أخطر و أخبث الأدمغة و العقول في عصرها ، و سخّرت لذلك أعمق معارف العقول البشريّة قبلها و واصلت أيضاً في ذلك الكثير من التّقاليد الثّقافيّة التي كانت موجودة و إن كانت غير شهيرة في ذلك الوقت بعد.
نتحدّث هنا عن تقاليد ثقافة التّمرّد و الاستئثار التي قادت إلى أكبر المقدّمات التّراكميّة للحداثة منذ عهد ( أوغسطين ) الّلاتينيّ ( 354- 430م ) ، القدّيس الشّهير و المعروف ، و الذي كانت تعاليمه الفقهيّة و الّلاهوتيّة من أكثر و أكبر المؤثّرات التي قادت إلى تاريخ “الإصلاح المسيحيّ” البروتستانتيّ الكبير ( أو “الإصلاح الأوربّيّ”! ) في بدايات القرن السّادس عشر الميلاديّ في ذروة براءةِ “عصر النّهضة” المُزيَّفةِ و بدايات انحداره إلى سفوح “الحداثة” و “التّنوير”.
هذه محطّات أساسيّة بالغة الأهمّيّة في فهم التّحوّلات الحداثيّة المعاصرة و افتتاحها فصلاً جديداً في ما يُسمّى “الحضارة العالميّة”. و يظهر في هذه الآثار أهمّيّة تأثير الأفكار على تحديد اتّجاهات التّطوّرات التّاريخيّة الّلاحقة في مسيرة البشر في حضارتهم المزعومة حتّى الآن.
11▪︎ لا يُمكن تخمين مدى عدم البراءةِ الذي يصنع اليومَ ثقافة محدودةً للبشريّة في تتبّع و موازاةِ و مساوقةِ أفول عهد البراءة العالميّ ، الذي سبقَ عهدَ الأديانِ السّماويّة الرّسميّة التي يعترف لها العالم بأنّها جاءت كتلبيةٍ لتربيةٍ جديدةٍ لعالَم استوفى مُبكّراً شروطه ، بالفحشِ الذي نغلَ قلبهُ فيما كان يتقدّم على طريق الثّقافة اليوميّة الاستهلاكيّة الحسّيّة المتهافتة.
و إذا كانت المعرفة هي الحلّ الذي أوحت به الأديانُ و الفلسفات و الأخلاقيّات المعروفة ، إلّا أنّه سرعان ما استدركَ العالَمُ فُحشَهُ من جديد مع “عصر النّهضة” الأوربّيّ في عمليّة مركّبة و ضخمة من إزاحة المعارف إلى النّسق الثّاني أو الثّالث بعد المعارف ، على رغم ما أوحت به “تطوّرات” النّهضة الأوربيّة من معارف مسبوقة أو زائفة ، لإعادة إنتاج أفكار هابطة أولى بعهد الثّقافة التّالي في “التّنوير” ، و الذي يدخل اليوم عصره الذّهبيّ في حداثةٍ لا يُحصى لها ، على ما يُزعَمُ ، رقم أو ترتيب.
الضّحالة في الأهداف و اضمحلال الخطى بالاتّجاه المتردّد نحو مغزى الأشياء و غاياتها ، كلّ منهما مهّد من جديد لعصر ثقافيّ في حضارتنا البشريّة طارداً منها جذورها المعرفيّة المؤسّسة على إدراك أو محاولات إدراك الغايات.
12▪︎ من العلامات البارزة اليوم لعهد الثّقافة البشريّ الكلّيّ هذه “التّفاهمات” الإجرامية على مشاريع عالميّة مدمّرة يوحي أصحابها للآخرين بتناقضات و خلافات و اختلافات عميقة ، فيما هي ترتيب لدواعي استجابة البَشَر للتّفاوتات و المظاهر الجديدة لهذه الثّقافة بتفاوت أيضاً ، و على مراحل تتعلّق بلا تكافؤ الوعي البشريّ و لا اتّساقه الكلّيّ مع مستويات واحدة من العقل و العاطفة و الإدراك و الفهم.
ترتيب مراحل الحداثة الثّقافيّة العالميّة الجديدة بإحكام و ذكاء في توزيع الأدوار و الأوقات ، هو أحد أهمّ معالم و ميزات هذا الطّور الجديد المختلف كلّيّاً لثقافة العالم الجديد.
يدخل في هذا التّرتيب الثّقافيّ المذهل مجمل الوقائع و المظاهر و الظّاهرات العالميّة الجديد و المستحدثة ، بما فيها أطوار الحروب المختلفة و مراحل السّلام بالعنف المباشر ، و لو مختلف الشّدّة و الجفاء و الّلين و النّعومة ، المطّبق على جميع الأصول.
13▪︎ من الميزات الأساسيّة أو المعالم الثّابتة نسبيّاً لهذا العصر من الثّقافة العالميّة الواحدة ، أنّ الدّول تُعاملُ فيها معاملة الأفراد من حيث حجم الأهمّيّة المُعطاة في ترتيب الأحجار التي تؤلّف جدران البناء الجديد.
مفهوم الحجوم نفسه غدا مفهوماً مخلخلاً و غير ثابتٍ في النّظر إلى الأدوات و الوسائل المرشّحة ، لأن تكون في خدمة الفكرة الشّاملة القائمة على احتقار الإنسان بما هو “الإنسان” مفهوم كان مرحليّاً في التّحويل ، منذ “عصر التّنوير” الذي بدأ مع الثّورة الفرنسيّة من النّاحية السّياسيّة لتعميمه بالقوّة و العنف على مستوى أوربّا ، ثم لينطلق لغزو العالم في أكبر عمليّة باذخة من التّضليل شملت فيها و احتوت على كثير من كفايات أسباب الإقناع.
أحياناً يكون في هذا البرنامج الثّقافيّ العالميّ الجديد أفرادٌ بأهمّيّة دول.. و دولٌ بقيمة أفراد ، أو كذلك أفراد و دول بلا أهمّيّة مطلقاً و هو حال الصّورة العامّة لموضوع هذا المدّ الثّقافيّ العنيف.
بعض الدّول أو بعض الأفراد أيضاً في هذا المشهد الثّقافيّ المُريع كلّ منهما ربّما جاوز حجمه حجم العالم برمّته ، في سبيل التّالي من المرحلة القادمة لتعميم هذا النّموذج الثّقافيّ الذي يبدأ بواسطة مفاجآت تستولي على كلّ ثابت تقليديّ و تحيله إلى حقل المتغيّرات.
14▪︎ و في كلّ حال ثمّة ما هو ثابتٌ “أبديّ” في جذر الثّقافة الجديدة ، كان دوماً في موضع العناية الجوهريّة في مراحل تكوّن و انعطافات العالم الظّاهريّة على أكثر تقدير.
الثّابت الذي نقوله هو ببساطة مثالٌ قديم قام على أساس مفهوم “النّخبة” العالميّة في كلّ زمان و في كلّ مكان ، و هي “نخبة” كانت تتيح لها الظّروف دائماً و يجب أن تتيح.. “التّفوّق” بما هو مفهومها على التّفوّق يدور حول الملكيّة و التّملّك و السّطوة و السّلطة و السّياسة الشّاقوليّة ، في عالم يتساذج كلّما اتّجهنا أفقيّاً و يخضع من دون أن يدري لهذا العمق النّوعيّ ، الذي يُدير محرّكات العالم في الاقتصاد و السّوق و في كلّ بيت و على رأس كلّ شخص أو فرد يمكن له أن يظنّ أنّه يختار مقاديره في علاقاته بالعالم و بالآخرين.
يَحسُن من أجل المزيد من التّضليل أن يدقق كثيرون في مبادئهم التي يظنّونها مختارة بإرادة خالصة..، بينما هي غالبا ما تكون مصنوعة و مُعدّة لهم سلفاً بواسطة أنماط الاصطفاف و مغرياته و أنساق التّفكير.
الجميع تقريبا موثقون بإحكام إلى مبدأ العالم المتمثّل بالإخضاع. إنّها ثقافة الإخضاع و الخضوع. هذا هو مبدأ “النّخبة”: سادةٌ مزيّفون، و عبيد مقهورون!
15▪︎ من الميزات الاعتباريّة الأخرى للثّقافة المعاصرة الجديدة ، أنّ منطق الثّورات و الحروب الحاسمة و التّمرّدات و العصيانات السّياسيّة و الاجتماعيّة، هو نفسه قد أصبح منطقاً زائفاً ، لا يوضع موضع التّطبيق إلّا بأهداف و محرّكات سابقة عليه تضمنه و تُحدّده و تجعله تحت السّيطرة ، مثله مثل منطق السّلم و الأمان الجماعيّ و الفرديّ الذي يُحرّم على الجميع.
كلّ هذا و ذاك مرسوم مسبّقاً و تكاليفه محدّدة و مؤطّرة و لو بدا عليه أحياناً انحرافات في التّقدير ، تلك الانحرافات التي تُعدّ في دائرة حساب الاحتمالات من الأمور المعتبرة كفارق في الثّبات المطلق للنّتائج المتكرّرة للتّجربة و الفعل ، و في إطار ما يُسمّى في “العلم” نسبة الرّيبة أو الشّكّ.
و على هذا فإنّ منطق قياس الأحداث و الوقائع ينحو نحو تطوّر بالغ التّعقيد و الدّقة من أجل محاولة ضمان جميع النّتائج ، التي يجب أن تخرج في عمليّانتها من دائرة المعارف الخاصّة التّقليديّة إلى فناء الثّقافة الذي يمنح نفسه بنسبٍ متفاوتة للجميع.
الإيحاء بديموقراطيّة الدّول و القوى و السّلطات و المؤسّسات ، هو شرط ضروريّ و أوّليّ في اعتبارات الثّقافة المعاصرة الجديدة ، و هو إحدى وسائل الإقناع التّافهة التي يسلكها نظام الثّقافة الشّامل من أجل انطلائه كتطوّر في الواقع و العالم نحو العدالة و المساواة.
16▪︎ و في أثناء ذلك فإنّ كلّ ما يحصل في العالم ما هو إلّا توسيعٌ لزريبة الشّعبويّة العالميّة و توسّع لإطار الحُمق البشريّ ، الذي لا يعفي منه أحد و لو أنّ طرفاً فيه ما يزال يجد في نفسه صاحب سلطة و مبادرة و قرار ، بينما يجد آخرون أنفسهم فيه و قد غلبهم الإعياء و الخضوع ..
و قلّة في الحقيقة من هم يُديرون تُروسَ هذه الآلة العالميّة العمياء لنقل الحركة من الأفكار إلى التّبادلات القسريّة التي يخضع لها الجميع على الإطلاق ، و من دون استثناء ، سادة و عبيداً ، خاضعين و مُخضَعين ، في لعبة قدريّة ساخرة سيكتشف الجميع فيها أنّها تافهة و بخاصّة كلّ من راهن على قيادتها أو الضّلوع فيها بفعل أو بدور أو بموضع أو وظيفة أو عمل.
و سوف يبدو قريباً أنّ نظام الثّقافة هذا إنّما هو آخر المراحل التي قيّضت للبشر لكي يُجرّبوا في حضارتهم الطّويلة المعروفة ، ما طاب لهم من أفكار خارجة على النّاموس.
يجب ألّا ننسى في كلّ وقت أنّ ناموس هذا الكون الأبسط و الأوضح ، إنّما ناموس العدالة التي هي غاية الأشياء في عودتها إلى فكرتها في الخلق.
17▪︎ يقوم نظام الثّقافة المعاصر هذا على فكرة سياسيّة جوهريّة سخيفة هي تفوّق يهود العالم في نزعتهم الصّهيونيّة التي غالت في الغرور . و تُخضع لها النّزعة دولاً عالمية كبرى و أخرى عُظمى و ثالثة صغيرة و تافهة ، إضافة إلى ما تُخضعه لها من قوى و مؤسّسات عالميّة و أحزاب و هيئات معتبرة و أفراد و أفكار.
يحصل كلّ هذا الإخضاع في إطار السّوق العالميّة الاقتصاديّة الذي تجاوز مرجعيّاتها القوميّة في الدّولة أو الدّول ، و برزت كخصخصات للمشاريع الوطنيّة و القوميّة في الإنتاج و العالميّة في التّبادل و التّوزيع ، إن على مستوى صناعات “السّلم” و الاستهلاك و البناء أو على مستوى صناعات العسكرة و التّسليح و الحروب.
و حيث تجري خصخصة الحروب و اعتمادها من قبل وكلاء هم عبارة عن شركات للصّناعات العسكريّة و ما يتّصل بها من تقنيات و لوازم و مكمّلات و مُحسّنات.. يظهر جليّاً في إطار هذه الثّقافة العالميّة دور جيوش المرتزقة المخصّصة بإطلاق للإرهاب الأمميّ و السّياسيّ و الوطنيّ و الدّينيّ و الاجتماعيّ ، تحقيقاً لمزيد من خصخصة السّوق التّجاريّة و تجارة الأفكار و الرّعب و التّهويل ، كمساعدات ضروريّة لثقافة العصر التي تنجو باستمرار من اكتشاف نقاط ضعفها ، بسبب ما تمتلكه من نقاط قوّة مزيّفة تقوم على أساس نفسيّ بالدّرجة الأولى ، يستخدم من أجل ترسيخه مفهوم الزّهوّ الفرديّ و الشّخصيّ السّياسيّ و الماليّ عند الأفراد الأدوات المتواطئين في إطار إنجاز هذا النّظام ، كما يستخدم في ذلك مفهوم الزّهوّ القوميّ و الدّينيّ كجذور مزيّفة أولى للنّظام ، في الوقت الذي يعتمد فيه كذلك النّظام الذي نقوله على مفهوم تجريم البعض و إخضاعهم عبر التّجريم في سكوتٍ مقبوض الأجر على جرائمهم أو على ممارساتهم التي لا تخضع إلى قانون.
في هذه الأثناء ، يصنع النّظام الثّقافيّ المعاصر جيوشاً له من زعماء العصابات و المجرمين السّياسيين و الاقتصاديين و الاجتماعيين و قادة و أمراء حروب في إطار الجريمة العالميّة المنظّمة الدّاعمة لخصخصة سوق العمل و الحرب و السّلم و إنتاج القيم الثّقافيّة الجديدة ، التي تمجّد أوّل ما تُمجّد الشّذوذ و الانحراف و الجريمة و تصنع منها ظاهرة جاذبة تزيد عبرها من إخضاعها لأفواج جديدة من “الفاعلين” كلّ يوم.
18▪︎ يُعدّ اكتشاف معالم النّظام الثّقافيّ العالميّ الجديد ثمرةً للانخراط السّياسيّ العميق بأحداث اللحظة المعاصرة التي خرجت في كثير من مبادئها و وقائعها على التّقدير.
و إذ يمكن تنحية التّقدير جانباً و كذلك الجزم بضبط المعلومات المتوفّرة عليه ، فإنّه يُمكن ولوجه جوهريّاً عن طريق مقارنات تاريخيّة لمبادئ و مظاهر السّلوك الاجتماعيّة و السّياسيّة الجزئيّة و الكلّيّة ، على غرار تفسير الظّاهرة الاجتماعيّة و الاقتصاديّة و السّياسيّة القوميّة و الوطنيّة على أساس تحليل الاقتصادات الجزئيّة و الكلّيّة في الدّولة الواحدة.
و يخدم في هذا السّياق في الوقوف على مبادئ و مظاهر هذه الظّاهرة الثّقافيّة الجديدة و الشّاملة ، ما يُمكن للقراءة الكلّيّة من الوقوف على مظاهر الخصخصة الشّاملة لمكوّنات السّلم و الحرب و ظهور جيوش المرتزقة الهجوميّة و الدّفاعيّة و الافتراضيّة و الوقائيّة ، التي تنتشر في عالمنا اليوم على نحو غير مسبوق.
لقد تداخلت مصالح الدّول الإمبرياليّة الكبرى بما فيها الدّول العظمى حتّى صار لكلّ منها جيوش متواجهة في جغرافيات و بلدان محدّدة و تتكاثر في العالم ، في إطار تفاهمات استثماريّة مباشرة لمقدّرات و ثروات الدّول و الأوطان المهزومة ، و كلّ ذلك تحت عنوان الصّداقات أو الشّراكات أو التّحالفات بين الدّول “المضيفة” من جهة و بين جيوش الارتزاق المخصخصة من جهة أخرى في أماكن و جغرافيّات محدّدة لم تعد سرّاً اليوم ، تبدأ من أقاصي الغرب العالميّ في أميركا الّلاتينيّة و تشمل في طريقها أفريقيا و آسيا و بخاصّة جنوب و شرق و غرب آسيا و الشّرق الأوسط و لا تنتهي في أوروبّا الشّرقيّة.
هذه معالم من المعطيات البسيطة الدّالّة على تفهامات دوليّة مخصخصة و خاصّة في النّظام الثّقافيّ العالميّ الجديد ، نحو مقدّمات حضاريّة جديدة لعالم كان معروفاً جيّداً ، أو هكذا هُيّئ لنا أو لبعضنا ، و يبدو اليوم أنّه غزير المجاهيل.
19▪︎ و حيث تُمسخ العلاقة بالعالم إلى مستوى علاقة الأنا بالأنا ، فلنا أن نتصوّر إذْ ذاك حجم الفقر التّكوينيّ الذي يمسخ أفق الحضارة إلى واقع عالميّ متكالب على تصوّرات انفراديّة في الممارسة و الغرض و الهدف و الغاية و الإنجاز.
كلّ ما لا ينطلق مبدئيّاً من قيمته الأنويّة لا قيمة له في تحديد معالم و شروط علاقات البشر و العالم و الوجود. ينطبق هذا الأمر في مستويات عديدة و غزيرة بلا حدود ، إن كان ذلك على مستوى الموضوع الخارجيّ من بنيات و مؤسّسات و أطر و نظم و دول و قوميّات و أديان.. أو كان على مستوى البنية الذّاتيّة للفرد الواحد ، و قد اختصر في محدوديّته مختلف اتّجاهات تطوّر البنية الإنسانيّة نحو أهدافها الملازمة لها في العمل و الأخلاق.
يزول كلّ تصوّر عن حاجة فضاء علاقة الأنا بالآخر إلّا بقدر ما يُمثّل الآخر موضوعاً أو مادّة لمشروع الذّات الواحدة ، و بعداً استعماليّاً خالصاً عليه أن يَخضع في هذا الاتّجاه.
و لنا أن نتصّور كلّ مخاطر توجّه هذه النّزع الأنويّة العالميّة و هي تتحدّد كثقافة يُمارسها أيّ من الأفراد و القوى و الأشخاص و المؤسّسات و الدّول ، و معها يمكننا الوقوف على مشارف العودة إلى حرب الجميع ضدّ الجميع ، منطلقين كمجموع من عناصر نفسيّة تفوّقيّة و أنانيّة ، و هو الأمر الذي يُدخل العالم في عصر مأساويّ من ثقافة العنف القائمة على إثبات الذّات بالمطلق و حسب ، و هو ما يقود و سوف يقود إلى تدمير للتّراكم الحضاريّ الذي عرفته المعرفة في إنتاج الوجود المشروط بالتّبادل و النّدّيّة و حاجة الإنسان إلى الآخر ، حاجة فلسفيّة تتحدّد باعتراف الأطراف في ما بينها بعضها تجاه البعض الآخر ، و هو الذي يزول على التّحديد تدريجيّاً و بعاصفة من غبار السّرعة و العنجهيّة البشريّة التي تقود و سوف تقود الجميع إلى حتف منتظر و متوقّع و رهيب.
و عندما تتراكم نتائج هذه الأنويّة البشريّة بشكل لم يعرف له سابقاً التّاريخ مثيلاً ، عندها فقط سيظهر لقلّة من البشريّة الجديدة خطورة ما وصلت إليه الثّقافة في تطوّرها الممسوخ ، و حيث لن يوقف التّدهور الوجوديّ برمّته قوّة من القوى مهما كانت بليغة أو كبيرة أو حتّى عظيمة نابهة من جديد ، في وقت يكون فيه الواقع قد وصل إلى حدّيّة نهائيّة يستحيل معها الانعكاس أو الارتداد.
و إذ يبدو في هذا الواقع الثّقافيّ الجميع قد دخلوا محاولتهم لإلغاء الآخر ، فإنّ ما لم يختبره بعد هؤلاء إنّما هو عدم الإباحة المطلقة لهذه النّزعة الأنويّة الشّريرة و انحسار الأفراد فيها على التّوالي ، فيما هم يظنّون أنّهم من أعلامها و قادتها ، إلى وقت قريب ينفرد بقرار هذه النّزعة الثّقافيّة الماحقة نفرٌ من “الأقوياء” المتشدّدين و الخطرين بفعل انتفاخهم بزهوّ الفكرة و بريقها الزّائف المنبثق من شعور كاذب و وهميّ بالتّفوّق النّوعيّ و بالثّروة و بالقدرة اللا محدودة على الإخضاع ، و هم ربّما لن يتجاوزوا ما نسبته واحد بالألف أو أقلّ من مجموع البشر ، الذين سيتناقصون أيضاً في عمليّة واسع من عمليّات تعقيم الجنس الإنسانيّ في نوع البشر الذي سوف يدخل في احتفاليّة طقسيّة بريبريّة واسعة و عظيمة من الانقراض.
20▪︎ يشكّل استتباع الثّقافة المعاصرة للحضارة البشريّة و تبعيّة اتّجاهات تطوّر الحضارة المأزومة إلى الثّقافة حالة من حالات تبعيّة الأصل إلى فرع من الفروع.
هنا نفهم عبث طبيعة هذه الثّقافة المغالية التي استبدّت بأصحابها قبل استبدادها بالآخرين.
و مع هذا المنعطف التّاريخيّ المعاصر للبشريّة تبدو البشريّة كأنّها تختار حتفها في تسليم مقاليدها طوعاً أو جبراً ، لحفنة من سدنة الجريمة الإنسانيّة المنظّمة في مختلف معطيات الطّبيعة و المجتمعات و العالم ، و فوق ذلك في ما هو مقدّر أصلاً للبشريّة من اختيارات.
و حيث ينحسر الاختيار العام و تنعدم فرص الدّيموقراطيّة و الحرّيّة الإنسانيّة ، نقف جميعاً على مشهد واحد مبهم من مشاهد نهايات الآفاق و انغلاقها أمام الأمل ، الذي ما يزال يؤسّس لمحاولات لا تنعدم في مواجهة هذا الاندحار.
هذا و لا يُمكن بالطّبيعة حسم هذا الأمر من توجّهات الثّقافة العالميّة لمصلحتها الهابطة ، و يبقى إذ ذاك تقرير النّهايات التّاريخيّة رهناً بعوامل مختلفة ليسَ أقلّها أهميّة ، ما ينتظر عالمنا من أقدار بعضُها القليل يبدو عليه الوضوح ، بينما جلّها هي غير واضحة و مبهمة و مرهونة بقوى مفارقة ، لا يمكن نكرانها عند تأمّل معاني العقل الذي أوصلنا على رغم المجاهيل إلى هذا الوضع من صورة العالم ، التي لا يُمكن و في كلّ حال أن تكون غريبة على غاية الخلق نفسها التي لا يُمارى في حكمتها بأيّة فكرة بشريّة و لا بحال.
هذا مع أنّ الثّابت وفق معظم المعطيات أنّه لا بد للبشريّة من أن تدفع ثمن انتفاخها في تورّماتها غير المحدودة التي تمارسها في الثّقافة الجارفة ، اليوم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى