دلالات التطورات المهمة في الوضع السوري

يلاحظ المحللون المتابعون للوضع في سورية، أنَّ المشهد السياسي و العسكري السوري ، الذي يمر بدرجة غير مسبوقة من التأزم، جراء الحرب الكونية التي شنت على سورية منذ أكثر من عقد من الزمن، يشهد بعض التطورات المهمة ذات الدلالات الكبيرة تعكس بعض التغييرات في المواقف من الدولة الوطنية السورية ،لا سيما مع اقتراب موعد إجراء الانتخابات الأمريكية، وتداعياتها المحتملة على إبرام تسوية محدودة بين الرئيس ترامب و الدولة السورية بمباركة روسية.

التطور الأول: زيارة مسؤول كبير في البيت الأبيض إلى سورية لإجراء مفاوضات حول معتقلين أميركيين
كشفت صحيفة “وول ستريت جورنال”، يوم الأحد 18أكتوبر/تشرين الأول الجاري ، أن نائب مساعد الرئيس الأميركي، كاش باتل، الذي يُعَدُّ المدير المسؤول بمكافحة الإرهاب في الإدارة الأمريكية، والمبعوث الخاص للرئيس الأمريكي ترامب لشؤون المخطوفين روجر كارستينس ،زارا دمشق خلال العام الحالي لعقد اجتماعات سرّية مع مسؤولين من الدولة السورية من أجل الإفراج عن مواطنين أميركيين اثنين، يعتبر أنهما محتجزان لدى السلطات السورية.
وكانت صحيفة “الوطن”، الموالية للحكومة السورية ،كشفت يوم الإثنين19 أكنوبر/تشرين الأول عن “مصدر” وصفته بأنه واسع الاطلاع تأكيده زيارة باتل والمبعوث الخاص للرئيس الأميركي لشؤون المخطوفين روجر كارستينس إلى دمشق في أغسطس/آب الماضي، موضحاً أنهما اجتمعا مع رئيس مكتب الأمن الوطني لدى الدولة السورية اللواء علي مملوك. وذكرت الصحيفة أنَّ “المسؤولَين الأميركيين فوجئا بالموقف السوري الذي يقوم على مبدأ أنه لا نقاش ولا تعاون مع واشنطن قبل البحث في ملف انسحاب القوات الأمريكية المحتلة من شرق سورية، وظهور بوادر حقيقية لهذا الانسحاب على الأرض، وأن دمشق رفضت مناقشة العقوبات الأمريكية على سورية قبل مناقشة ملف الانسحاب من الأراضي السورية”.
ومن المعروف أن إدارة ترامب تطلب بشكل رئيسي الإفراج عن أوستن تايس، الصحافي المستقل والضابط السابق في مشاة البحرية الذي اختفى أثناء تغطيته الصحافية في سورية عام 2012، ومجد كم ألماز، المعالج النفسي السوري الأمريكي، الذي اختفى بعد أن أوقف على نقطة تفتيش تابعة للنظام السوري في 2017. وذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال” أنَّ الإدارة الأمريكية تعتقد أنَّ الدولة السورية تحتجز ما لا يقل عن أربعة أميركيين آخرين، لكنها لا تعرف الكثير عنهم.
في الرواية الأمريكية ،كان تايس دخل عبر الحدود التركية إلى سورية لتغطية أحداث الأزمة السورية في مايو/أيار 2012، ووصل بعد محطات عدة إلى ريف دمشق، وكان في طريقه للوصول إلى لبنان بعد أن أنهى تغطيته في سورية ليقلع منها إلى بلاده، إلا أنه اختفى قبل وصوله إلى الحدود السورية – اللبنانية في 13 أغسطس/آب 2012.
أما مجد كم الماز، فهو طبيب أمريكي من أصل سوري يقيم مع عائلته في الولايات المتحدة، وكان في زيارة إلى لبنان في فبراير/شباط 2017، إلا أنه أخبر عائلته بأن عليه زيارة بعض الأقارب في دمشق. وبعد ساعات من وصوله العاصمة السورية ألقى القبض عليه عند نقطة تفتيش تابعة للأمن السوري، بحسب سائق سيارة أجرة كان يقوم بإيصال الطبيب، ومنذ ذلك الوقت لا تتوفر أي معلومات عن كم ألماز.

هل تعقد أمريكا صفقة مع سورية لإطلاق سراح معتقلين أمريكيين؟
كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن إمكانية توصل إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى إبرام صفقة مع الدولة السورية لإطلاق سراح معتقلين أمريكيين احتجزتهم قبل سنوات، وأبرزهم الصحفي أوستن تايس.ويزيد قرب الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، وحاجة ترامب إلى ورقة تعزز حظوظه بالفوز بفترة ثانية، من الحديث عن إمكانية إعلان الجانبين قريبا عن صفقة، وعن شروط الدولة الوطنية السورية ، التي ازدادت عليه مؤخرا وطأة العقوبات الأمريكية.
رغم أنَ العلاقات الديبلوماسية بين أمريكا و سورية مقطوعة بين البلدين منذ سنة 2012،فإنَّ الدولة السورية لا ترفض إبرام صفقة مع إدارة ترامب ، شريطة تلبية هذه الأخيرة شروطها الوطنية ، لإطلاق سراح المعتقلين قبل موعد الانتخابات الأميركية.فبعد أن فشل باتل في الإفراج عن الرهينتين، أُسْنِدَتْ مهمة التفاوض للمدير العام للأمن العام اللبناني اللواء عباس إبراهيم، المقرب من دمشق وحزب الله اللبناني، الذي كان له يد في إطلاق سراح ثلاثة محتجزين أميركيين في سورية سابقاً، من بينهم سام غودوين الذي أفرج عنه العام الماضي.
في الزيارة التي قام بها اللواء عباس إبراهيم إلى واشنطن في 15 أكتوبر/تشرين الأول الحالي، والتقى خلالها بعدد من المسؤولين الأميركيين، من بينهم:مستشار الأمن القومي روبرت أوبراين، وذكرت وكالة “بلومبيرغ” الأميركية أن إبراهيم التقى أيضاً مديرة وكالة المخابرات المركزية جينا هاسبل، بحضور والدة الصحافي الأميركي جيمس فولي الذي قتل على يد تنظيم “داعش” في سورية في 2014.
وأشار موقع “كلنا شركاء” المحلي إلى أن الدولة السورية أرسلت مع اللواء عباس إبراهيم الشروط السورية التي طرحها على مسؤولي إدارة ترامب ، لإطلاق سراح المعتقلين الأمريكيين، قبل موعد الانتخابات الأمريكية، والمرتبة إياها حسب الأولوية ،وهي: انسحاب القوات الأمريكية من شرق سورية،وإيقاف وتجميد العمل بقانون “قيصر”، ووقف الاعتراض على إقامة دول الخليج علاقات دبلوماسية مع سورية، والطلب من دول الخليج منح الحكومة السورية مساعدات بقيمة 5 مليارات دولار، والإفراج عن أموال الحكومة ورجال الأعمال السوريين المحتجزة ووقف ملاحقتهم، بالإضافة إلى الإعلان عن إمكانية ارسال سفير أميركي إلى دمشق.
ويعتقد المراقبون و الخبراء أنَّ إدارة ترامب لن تقبل بشروط دمشق، التي تعتبرها تعجيزية، على الرغم من كل الأهمية التي توليها الإدارة الأمريكية لإطلاق سراح المعتقلين الأمريكيين في سورية من خلال العديد من محاولات التفاوض التي بدأت في 2015.فقانون “قيصر” الذي صادق عليه ترامب وأدخله حيز التنفيذ في 17حزيران/يونيو الماضي، حوّل الموقف الأمريكي من الدولة الوطنية السورية من سياسي إلى قانون يتمتع بالنفاذ، في حين وصلت العقوبات الاقتصادية الأمريكية، وحتى الأوروبية، على عددٍ من المسؤولين في الدولة السورية حدّاً لا يمكن التراجع عنه إلا في حال انخراط النظام في التسوية السياسية وفقاً للرؤية الأميركية والغربية للحل، بناءً على المرجعيات الأممية.. وكل ذلك يجعل شروط دمشق تعجيزية، من وجهة نظر إدارة ترامب.وأقصى ما يمكن أن تقدمه الإدارة الأمريكية لسورية ، هوتخفيف درجة الرقابة الاقتصادية على تدفق بعض المواد )أدوية، تجهيزات طبية، أغذية) إلى سوريا، والتي لا يحظر استيرادَها “قانونُ قيصر”.وبهذا المعنى، تبقى حظوظ مثل هذه الصفقة الأمريكية-السورية ضعيفة.
وهناك رأي آخر يتبناه بعض المحللين ،لا يستبعد أن يقدم الرئيس ترامب على إبرام صفقة مع نظام الأسد ، والإعلان بين لحظة وأخرى، من إدارة ترامب، عن إعادة الصحفي الأمريكي، ومعتقلين آخرين، يعتقد أنهم في سجون الدولة السورية .ويعتقد المدافعون عن هذا الرأي،أنَّ الرئيس ترامب ينطلق في سياسته الخارجية من مصلحته السياسية أولا بغض النظر عن السياسات التقليدية للولايات المتحدة، ويستندون في ذلك إلى ما جاء في كتاب المستشار السابق للأمن القومي الأمريكي، جون بولتون، حول الرغبة التي كان يبديها ترامب دائما في التواصل مع الرئيس بشار الأسد حول معتقلين أمريكيين ، وهي فكرة لطالما أثناه عنها وزير خارجيته الحالي مايك بومبيو، وعلّق بقوله: “بالتالي لا يستبعد أن يكون ترامب قد أقنع بومبيو بجدوى هذه الخطوة”.

التطور الثاني:سحب تركيا النقاط المحاصرة في إدلب
قامت الحكومة التركية التي تحتل الشمال الغربي لسورية، وتحديدًا في محافظة إدلب، بسحب قواتها العسكرية من نقطة المراقبة التي كانت قد أقامتها في قاعدة مورك بريف حماة الشمالي، في خطوة تفاوتت التحليلات بشأن مغزاها وأهدافها وأبعادها العسكرية والسياسية، وما إذا كانت فاتحة لتفكيك وسحب مجمل النقاط العسكرية التركية المحاصرة في شمال غربي سورية من جانب قوات الجيش العربي السوري.
وكانت مصادر تركية رفيعة المستوى أكدت لصحيفة ” العربي الجديد” بتاريخ 21أكتوبر /تشرين الأول الجاري، في وقت سابق، أنَّ هناك نية بالفعل للانسحاب بشكل تدريجي وهادئ من نقاط المراقبة الثلاث: مورك وشير المغار في ريف حماة، والصرمان في ريف إدلب، عازيةً ذلك إلى تبلّغ أنقرة من موسكو بعدم تمكنها بعد الآن من توفير الحماية لهذه النقاط، مع إدراك تركيا أنه لم يعد هناك أي تأثير وفعالية ميدانية لهذه النقاط، ولن تكون ذات نفع لفصائل المعارضة المدعومة من قبلها.
ميدانياً،لا يزال الجيش العربي السوري المسيطر على الريف الجنوبي لمحافظة إدلب ،مصرًا على تحرير كامل محافظة إدلب ، التي ل تزال الفصائل الإرهابية المستقوية بالجيش التركي تسيطر على المدينة و القسم الشمالي من المحافظة المحاذي للحدود التركية،وعلى بعض جيوب من ريف حلب .
ورأى المراقبون فجر يوم الثلاثاء الماضي ،خروج عشرات الآليات العسكرية والشاحنات التركية المحملة بكتل إسمنتية ومواد عسكرية ولوجستية من قاعدة مورك واتجاهها نحو معرحطاط بريف إدلب.وتعد نقطة مورك أكبر نقطة عسكرية لتركيا في ريف حماة الشمالي، وكانت قد أقامتها منذ نحو عامين و4 أشهر، وهي تبعد عن الحدود التركية أكثر من 80 كيلومتراً، ما يجعلها النقطة الأبعد جغرافياً عن نقاط الإمداد التركية.ولدى تركيا 13 نقطة مراقبة عسكرية محاصرة من قبل الجيش العربي السوري.
ويأتي هذا الانسحاب في ظل مواصلة روسيا الضغوطات على تركيا لتحقيق انسحاب كامل للنقاط العسكرية التركية من جنوب الطريق الدولي أم 4، وتخفيف الوجود التركي في منطقة إدلب، وفي ظلّ أيضًا رفض الروس الشديد لانسحاب الجيش العربي السوري حتى خطوط اتفاق سوتشي حول إدلب المبرم في سبتمبر/ أيلول 2018،لا سيما أن الجيش العربي السوري بدأ يثير القلاقل حولهامن خلال مناوشتها عسكريا، وعرقلة روسيا وصول شحنات إمداد إلى بعض النقاط التركية المحاصرة، ما يضعف قدرتها على الصمود .
ويعزو المحللون الانسحاب التركي من بعض نقاط المراقبة، إلى حصول تفاهمات بين روسيا وتركيا،حيث تتداخل وتترابط الملفات بين موسكو وأنقرة في ليبيا وأذربيجان، وقد يكون مقابله السماح بالحضور التركي في في مناطق أخرى، مثل شرق الفرات.

التطور الثالث:استئناف رحلات الطيران الرسمي السوري إلى كل من قطر و الإمارات،بعد انقطاع استمر 10سنوات تقريبًا.

خاتمة:تأتي هذه التطورات في ضوء صمود الدولة الوطنية السورية في سنوات الحرب الكونية العجاف،بفضل قيادتها التي رفضت تقديم أي تنازلات تمس من الثوابت الوطنية والقومية المؤسسة للدولة السورية، ولهويتها الوطنية والقومية كدولة مواجهة مع العدو الصهيوني، إضافة إلى الدورى الطليعي الذي اضطلع به الجيش العربي السوري في تحرير المناطق التي كانت خاضعة لسيطرة التنظيمات الإرهابية المدعومة أمريكيا وصهيونيا وتركيا و خليجيا.
إدارة الرئيس ترامب استخدمت مع القيادة السورية سياسة العصا و الجزرة، على أمل أن تتجاوب الدولة السورية مع مطالبها، العصا تمثلت في” قانون قيصر” الذي يشدد العقوبات على سورية، أما الجزرة،فتتمثل في الإعلان على لسان جيمس جيفري، المبعوث الأمريكي لدى سورية، وقال فيه، إنَّ واشنطن لا تريد تغيير النظام في سورية، و إنَّما سلوكه، ولكنَّ الدولة الوطنية السورية تصر على الدفاع عن ثوابتها الوطنية و القومية في زمن التطبيع الذي تقوم به الدول الخليجية، وربما السودان قريبًا مع العدو الصهيوني.فالرئيس بشار الأسد ملتزم بنهج الصمود في الحرب التي قادها، وحافظ على بقاء الدولة الوطنية السورية،التي كانت مستهدفة من قبل معسكر أعدائها(أمريكا و الكيان الصهيوني، وتركيا،والدول الخليجية)،لإسقاطها، وتقسيمها إلى دويلات طائفية وعرقية،إذْ قال ذات مرَّة:”إ نَّ ثمنَ الإستسلام أغلى كثيرًا من ثمن الصمود”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى