من وقائع الامس القريب.. الفنان نور الشريف يحاور الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل

 

كتب نور الشريف

طوال عمرى وأنا أحلم أن أقدم للناس ما يفيدهم.. وقد حاولت ذلك فى مجال الفن.. وعندما عرضت على مجلة “نصف الدنيا” أن أعمل صحفياً ليوم واحد لم أجد أمامى شخصاً أريد أن أتحاور معه بكل طاقتى إلا الأستاذ محمد حسنين هيكل، لأنه أولاً الأستاذ والمعلم، ولأنه من أكبر المحللين السياسيين على مستوى العالم، ولأننى كنت أريد أن أتحدث معه..

عندما اتصلت بمكتبه جاءنى صوته مرحباً، واتفقنا على الموعد.. وتركنا الحديث يأخذ مجراه ليضع لنا الأستاذ النقاط على الحروف فى محاولة لتبصيرنا بالواقع وبالمستقبل.. وهذه هي الحصيلة الدسمة

**أى واحد فينا كان يستبعد أن يدخل أبو عمار إلى الأرض المحتلة ولو فى أرض محدودة، ولو أننى مواطن إسرائيلى وعايش منذ صغرى على الحلم التوراتى “أرض الميعاد” وفجأة تنازلوا بداية من “كامب ديفيد” عن جزء من الحلم.. هل نستطيع أن نقول إن إسرائيل قد خضعت للحلول التفاوضية لإدراكها أنه لم يعد لها دور فى المنطقة؟

– فى العالم العربى توجد نظريتان.. نظرية المؤامرة وأنا أعتقد أن هناك مؤامرة، وأعتقد أن التاريخ كصراع به مؤامرة.. لكن ليس كل التاريخ مؤامرة.. النظرية الثانية وهى المتفائلون، والفن فى طبيعته متفائل يعنى أن الرؤية التى تقولها متفائلة إلى درجة أن الفن لعب فيها دوراً.. وإسرائيل لم تخضع لأى شىء لكن نحن خضعنا، أنظر إلى المشروع الإسرائيلى.. وطن قومى لليهود واضح فى حدوده وفى تسمياته اليهودا والسامرة، وهنا لابد من التفرقة بين قاعدة المشروع، وامتداد المشروع – القاعدة الأصلية ليس فيها غزة – من الناحية التاريخية لكن أضيف للناحية التاريخية مسألة مهمة وهى أنه نظراً لظروف سياسية وتاريخية معقدة حدث تكدس فلسطينى فى غزة وهذا لا تريده إسرائيل، فمثلاً فى عام 1988 دعانا أبو عمار – أحمد بهاء الدين وأنا – وذهبنا إلى تونس بطائرة خاصة قبل المؤتمر الوطنى الفلسطينى، وفى عز مجد الانتفاضة وساعتها قلت لأبوعمار “انتبه.. إسرائيل تريد أن تلقى عليك مواقع التجمع السكانى لأنها لاتريد أن تأخذ مسئولية تهدئة وضبط الأمن فى هذه المواقع، لأن الظروف اختلفت ولأن موارد الهجرة قلت، كما أن العالم العربى تنبه، وأصبحت هناك كتلة سكانية رفضت الخروج كما حدث 1948 وظلت متمسكة بالأرض، وأصبح هدف إسرائيل، وهذا ما قاله رابين صراحة: “أنا لا أريد أن يتحول الجيش الإسرائيلى إلى قوة بوليس” وبالتالى لابد أن يتحمل أحد هذه المسئولية لأن غزة كانت قنبلة.. وقد حكى لى فرانسوا ميتران مرة أن رابين قال له: “أنا بنام وأصحو وأحلم مرات وأتمنى أستيقظ وأجد غزة قد غرقت بأهلها فى البحر”، وأنا قلت هذا الكلام لأبوعمار بحضور أبوإياد وأبوجهاد وأبومازن.

وكان رأيى أن يقبلوا بقرار تقسيم سنة 1948 لكن ليس لهم علاقة بقرار 342، لأن هذا القرار خاص بأشياء تعنى الدول ولا تعنى المنظمة.

ولكن دخول غزة – فى اعتقادى – كان خدمة لإسرائيل، وكنت أفضل أن يظل الجيش الإسرائيلى متمترساً فى غزة، لأن هذا المشهد الرائع للانتفاضة اشترته إسرائيل بثمن رخيص جداً.

وحكاية أن إسرائيل فقدت دورها كشرطى للمنطقة غير صحيحة، وهذا واضح فى كل التفكير الأمريكى الاستراتيجى.. وإذا كانت المنطقة هدفاً.. وموردها وموقعها الاستراتيجى هدفاً فهم فى حاجة إلى قوة محلية تحمى هذا الهدف، وكانت إسرائيل موجودة مع شاه إيران بالتناوب، وبضياع إيران من النفوذ الأمريكى تركز عنصر الحماية فى إسرائيل خاصة وأن أمريكا ترى، كما قال كسينجر مرات عديدة.. “إن حكومات المنطقة غير شرعية” وقال لى كسينجر: “أنا أستطيع أن أغمض عينى وأقول غداً سيحكم إسرائيل بيريز أو رابين لأننى أعرف إما حزب العمل أو الليكود، لكن فى العالم العربى لا أستطيع أن أتصور فى أى بلد متى تحدث مشكلة، وجاء سقوط إيران فى يد الثورة ليؤكد أن الدول الموجودة فى المنطقة كلها معرضة لتحولات وتغيرات، وأن الدولة التى تملك مؤسسات بقاء – على المدى القصير والمتوسط – هى إسرائيل، وبالتالى فأنا أعتقد أن مطلب وجود إسرائيل أقوى.

والمنطقة كلها تتحرك لتلبية مطالب إسرائيل منذ 1973، وتجد ذلك حتى فى الجنازات، ففى جنازة رابين جاء العام ليؤيد إسرائيل فى لحظة ضعف.

إسرائيل ازدادت أهميتها بالنسبة لأمريكا وليس العكس، وهذا من أول الأشياء الحاكمة فى مستقبل العالم العربى، وأعتقد أن العالم العربى مثل البطل الذى وصل إلى طريق مسدود ثم بدأ ينتحر، انظر إلى الخليج وما يمكن أن يحدث فى المنطقة.

**لكن يا أستاذ هيكل المؤامرة حدثت بما يعنى أن المؤامرة هى التى تدفع البطل للانتحار؟

-ما يقلق هو أن البطل يندفع وراء المخطط الذى يدفه إلى الانتحار دون أن يقاوم وعندما تقول مثلاً العراق، لابد وأن تربط بين ما جرى بين العراق والكويت بما جرى بين العراق وإيران وانظر إلى موارد البترول إلى أين ذهبت؟ الدول العربية حصلت من وراء البترول على 6 أو 7 تريليون دولار خلال الـ25 عاماً الماضية، ماذا فعلنا بهذه الفلوس، طرق ممهدة أو بعض المستشفيات، وهذا ليس هو التقدم لأن التقدم بالدرجة الأولى فى عقول البشر وفى ممارساتهم، بما فيهم تحكيم إرادتهم فى صنع المستقبل.

**لو أن الانتخابات القادمة فى إسرائيل جاءت بحزب لا يعتمد على الأحزاب الدينية كيف سيكون الوضع؟

-هناك تناقضات بالنسبة للوضع فى إسرائيل على المدى الطويل، تجعل وجودها فى حد ذاته فى أزمة، لأنه لأول مرة يعتبر الدين وطنية، وفى وقت إنشاء إسرائيل كان هناك حوار مهم وأهم أطرافه أينشتاين ووايزمان.. وعدد كبير جداً من المفكرين اليهود، وكان رأيهم أن هناك ديناً يهودياً وهو موجود داخل حضارات وأمم كثيرة، واضطهدوا كأقلية لكنهم ليسوا أكثر اضطهاداً من الزنوج، ولكن إذا خلعت اليهود من الأرض التى يعيشون فيها فأنت ستقضى على العنصر اليهودى، لأن الدول كلها ستقول لليهود هناك وطن قومى لليهود اذهبوا إليه، وعندما يتم تحويل الدين إلى وطنية فهذا مأزق، وكأنك طلبت من المسلمين فى الصين وأندونيسيا والهند والسعودية وقلت لهم كونوا دولة واحدة، وهنا يكون الرابط هو دعوة دينية جاءت بالناس من كل الأقطار ساعد عليها جو سياسى معين سواء اضطهاد دينى مثل التجربة النازية، ومن هنا تم خلق كيان أساسه دينى وتناقضاته قومية وطنية، وعوامل تفجيره ثقافية لأن كل واحد يتحدث بطريقة مختلفة، فمثلاً كل القيادات فى إسرائيل التى قامت على مشروع دينى فى أساسه هى قيادات ملحدة.. ونحن لم ننظر إلى كميات التناقضات الكثيرة فى إسرائيل، هذا الدين الذى تحول إلى قومية فى إسرائيل ومسلح بسلاح أقوى منى، ويرعبنى هذا السلاح إلى درجة أننى لا أنظر إلى ما وراء هذا السلاح من متناقضات، فإذا تم إلغاء الأساس الدينى فى الدولة تصبح بدون شرعية وإذا أخذت شرعيتها كدولة مؤسسات يلغى أساسها الدينى.. وهناك خلط ثقافى مروع، والعنصر الأقوى فى إسرائيل هو القادم من أوروبا الشرقية.. إذن نحن أمام تركيبة بالغة التعقيد لا ينبغى أن نقيس عليها بمقاييسنا العادية.

**هل يطمح رجال الدين اليهودى لتولى السلطة فى إسرائيل؟

-إذا كان أساس الدولة هو الدين فمن الطبيعى أن يكون المبشرون به هم رجال الدين وأن يكونوا حماته، الحلم التوراتى أخذ مذهب بن جوريون واستغلوه لإنشاء دولة، لكن الدين ليس من الجن الذى تستدعيه من قمقمه ليؤدى مهمة ثم تقول له انصرف فينصرف، وأنت تتحدث عن أقدم ديانة سماوية أخذت من كل مكان ذهبت إليه أصعب ما فيه، فمثلاً اغتيل رابين على يد عمير الذى هو ابن المؤسسة الإسرائيلية، هذا الشاب كان تساعده عناصر فى الموساد والشين بيت، ولا أحد يستطيع أن يقترب منه ويعيش داخل سجن خمس نجوم.. والأهم أنه غداة اغتيال رابين تصور بيريز أن فكرة السلام ستحمله إلى الحكم فإذا بها تأتى باليمين ونتانياهو.

**هل تعتقد أن إسرائيل ستكمل تنفيذ اتفاقية واى ريفر وأوسلو؟

-فى أوسلو كان أبو عمار يائساً وتعباناً إذ كانت فى الداخل الانتفاضة تأخذ كل شىء وفى الخارج يتجاهلونه.. لكن فى أوسلو أمكن التوصل إلى دخول غزة وأنا عندما ذهبت لأرى أبوعمار قلت له “أنا خايف عليك من أنهم يعطونك غزة وأنا حتى من منطلق وطنيتى كمصرى فإن غزة تعتبر مساحة محصورة وبها كتلة من السكان تزيد على المليون، وأنا أخشى أن تذهب إلى هناك وتعجز عن الوصول لحل بعدها أو لا يستجاب لآمال الناس فتجد نفسك تعيش فى مشاكل فى غزة،

فماذا حدث فى هذه الاتفاقية.. قالوا لنبدأ بالمشكلات السهلة ونترك القضايا الصعبة مثل القدس، والحدود، والمستوطنات، وإذا استبعدنا مثلاً هذه القضايا فماذا سيتبقى للقضية الفلسطينية، الإسرائيليون حتى الآن يرفضون كلمة انسحاب ويسمونها “إعادة انتشار”، واتفاقية “أوسلو” تنص على أن هناك منطقة “A” وتخضع لإدارة السلطة الفلسطينية و “B” إدارة مشتركة لأمن إسرائيل وتواجد مدنى للسلطة الفلسطينية و “C” لا أحد يدخلها.. وما حدث فى “واى ريفر” أن 1% من مواقع الانسحاب انتقلت من B المشتركة إلى A الخاضعة للسلطة، ونحن لا ندقق رغم أننا أمام ناس كل كلمة تعنى عندهم شيئاً.. فمثلاً فى “أوسلو” لم يكن بين المفاوضين قانونى واحد، ثم طلب من مصر أن ترسل “قانوني” يوم بدء المفاوضات وذهب السفير شاش وكان أمامه نصف ساعة أو ساعة ليقرأ فيها الاتفاقية وبالتالى لم يستطع عمل أى شىء، بينما كان تحت تصرف المفاوض الاسرائيلي أعداد من القانونيين بلا حدود.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى